الفصل 76. خدش
انطلق نحو ثلاثمئة فارس من فرسان فونيكس برفقة كارسيون في طريقهم.
الطريق المؤدي إلى مقاطعة إيفلين.
لماذا يشعر أن هذا الطريق يثقل القلب بهذا الشكل؟
كارسيون لم يكن يستطيع كبح شعوره المتزايد بالقلق كلما اتجه جنوبًا.
وفي الوقت نفسه، كان تصرّف سيدريك الداعم له بشكل غير متوقع يثير في قلبه الامتنان والدهشة، حتى إنه كان يضحك ساخرًا بين الحين والآخر.
“هاه، مثير للسخرية.”
حقًا، لم يكن ليتوقع أن يرى يومًا مثل هذا في حياته.
لم يكن ليحلم يومًا أن تأتي لحظة يُمسك فيها بيد سيدريك بهذه الوداعة.
في طفولته، عاش كارسيون مختنقًا تحت ظل سيدريك. وحين كبُر، لم يكن بينهما حتى علاقة سطحية.
ولم يكن ذلك غريبًا.
في العائلة الإمبراطورية التي تسودها التراتبية، كان كارسيون دائمًا في المؤخرة.
الإمبراطور هاينريش الثالث أحب أوستين أكثر من أي أحد.
وحتى إليزابيث، التي أنجبت كلاهما، كانت تنظر إلى كارسيون كأنه حشرة إن كان الأمر لأجل سيدريك.
حتى حين فوّضوه كامل السلطة للتصدي للتنين الأسود، شعر كارسيون بمرارة كم كان والداه مرتاحين بذلك القرار.
لكن لم يعد الأمر مهمًا.
فقد مضى زمن طويل منذ توقف عن اعتبارهم عائلته.
فقط ليستطيع النجاة، وليكفّ عن إيذاء نفسه، اقتلعهم من قلبه.
لكن، أن يأتي سيدريك الآن ويعامله بود؟ لم يكن يتخيل ذلك.
ركوعه على ركبته لم يكن إلا لحماية نفسه من العداء.
فهو لا يريد لسيدريك أو إليزابيث أن يتذرّعا لاحقًا بأنه تخلّى عنهما في منتصف الطريق.
ولا يريد أن يضع عراقيل في طريق استعادة رينيه لمكانتها أو زواجه بها.
بالتأكيد، من الأفضل أن يتعاون مع سيدريك على أن يقف في صف إليزابيث.
ركوع كارسيون كان صفقة تحمل الكثير من الحسابات.
لكن سيدريك، من تلقاء نفسه، أرسل فرسان فونيكس معه دون أن يُطلب منه ذلك.
وفي وقت لا يستطيع فيه تحريك فرسان التوتين من حدود الغرب، كان هذا الدعم أكثر من كافٍ.
للمرة الأولى، شعر أن أحدًا من العائلة الإمبراطورية مدّ له يدًا حقيقية.
“مثير للاشمئزاز، لكنه مطمئن.”
ضحكة خفيفة خرجت من بين أسنانه. نظره كان متجهًا جنوبًا بلا انقطاع.
لن يحدث شيء، صحيح؟
حتى لو كان هذا كله محض مبالغة ناتجة عن القلق، كان يتمنى أن ينتهي بلا مخاطر.
سماء زرقاء، ثم محمرة، ثم حالكة تتلألأ فيها النجوم.
أمام كل تلك السماوات، ظل كارسيون يصلي في رحلته نحو اقطاعية إيفلين.
رجاءً، فلتبقى رينيه آمنة.
***
“سيدي! سيدي!”
صرخة مروعة شقت الهواء. من بعيد، كان حصان يجري بجنون نحوهم.
راية فرسان فونيكس ترفرف عالية في الرياح.
كارسيون شد لجام حصانه ليبطئ السرعة.
عيناه الزرقاوان اضطربتا بلا وجهة. وكان حال باقي الفرسان المرافقين لا يختلف.
بدأ الهمس ينتشر كالنار بين الفرسان.
“أليس ذاك السير ماكس؟”
“أليس من المفترض أن يكون في سلسلة جبال دنيبروك الآن لجمع الموارد؟”
“ما الذي يجري على وجه الأرض؟”
وسرعان ما وصلهم الجواب.
أوقف ماكس حصانه فجأة، وقفز من السرج دون حتى أن يؤدي التحية الرسمية.
“سيدي! التنين الأسود ظهر!”
“……!”
“أنا متوجه الآن بسرعة نحو شوتزن لإبلاغهم بالوضع وطلب الدعم.”
“كأن وجود فرسان فونيكس معنا كان ضربة حظ.”
“نعم، بالفعل.”
نظر ماكس خلف كارسيون نحو فرسان فونيكس وهو يلهث.
في عينيه بريق من الارتباك.
كأنه يتساءل: كيف عرفوا وأتوا إلى هنا؟
لكن كارسيون لم يكن لديه وقت للرد على تساؤلاته.
فقد ركز أولًا على ما هو أكثر أهمية.
“أين ظهر؟”
“قرب المعسكر الثالث في جبال دينيبروك.”
حين كان فرسان التوتين متمركزين هناك، أقاموا عدة معسكرات في أنحاء الجبل.
ورغم انسحابهم، لا تزال تلك المواقع تُستخدم كمواقع مرجعية.
“كيف هو وضعه؟”
“في الواقع، لم نرَ جسد التنين كاملًا.”
“…….”
زمّ كارسيون شفتيه في سخط.
فبعد ثلاث سنوات من المعاناة في مطاردته، يعرف كارسيون جيدًا مدى مكر ذلك التنين.
ينصب أفخاخًا بالسحر، يوقعهم في أوهام، ثم يهجم فجأة، وينفث نيرانه في الخيام نائمة.
“أعتقد… أنه كان الهاوية.”
قالها ماكس، ثم ابتلع ريقه الجاف. فهو لم يرَ “الهاوية” بنفسه في معركة التنين السابقة.
فقط قرأ عنه لاحقًا في تقارير كارسيون.
لكن ذلك الدخان الأسود الذي كان يبتلع رفاقه أمام عينيه…
“اللعنة. هذا يزداد سوءًا.”
أومأ كارسيون إشارة لفهمه، ثم لوّح بلجام حصانه كالسوط.
وانطلقت الفرقة بقيادة ليكسيون بأقصى سرعة.
اهتزت الأرض.
كارسيون عضّ على أسنانه وزاد من سرعته.
الهاوية.
كانت تلك القدرة هي ما حصد أرواح معظم الفرسان في معركتهم السابقة ضد التنين. الكوابيس تعود من جديد.
<كراااه! كووه…!>
<لا! أطلقوا الضوء هنا أيضًا! يا سحرة!>
<أين ذلك التنين اللعين؟!>
<أسرعوا! يجب أن نخرج! الدخان يتكاثر!>
<أه… مستحيل… تحول إلى هيكل عظمي بهذه السرعة…؟>
الدخان الأسود الذي يمتص الحياة في دقائق كان تجسيدًا للرعب.
ولحسن الحظ، كان بعض الفرسان من مستوى الأبطال قادرين على تمزيق هذا الدخان.
لكن حتى حين كانوا يُنقذون، غالبًا ما يجدون في مكانهم سوى الهياكل العظمية.
تذكّر تلك اللحظات التي كان يجمع فيها أرقام الجنود على رقابهم وهو بقلب منكسر.
“هاه… هاه…”
كان كارسيون بالكاد في وعيه. لم يكن يصدق، لكن التنين الأسود كان حيًا بالفعل.
كان يؤمن في قرارة نفسه بأن “التنين يموت وحيدًا في مكان لا يعرفه أحد”، وكان عليه ألا يصدق ذلك.
كاد يجنّ من لا مبالاته.
ماذا لو…
رينيه، ماذا لو أصابها مكروه…
فوووش!
ظهر تنين أحمر كالدم فجأة كالسحر، وانطلق صاعدًا إلى السماء.
اتسعت عينا كارسيون في ذهول.
ذلك على الأرجح ليونيل…
“إنها المنطقة التي يقع فيها قصر إيفلين!”
“انتظر لحظة! هذا ليس التنين الأسود، أليس كذلك؟”
“تنين أحمر…؟”
وقبل أن ينهي الفرسان كلماتهم المشوبة بالذهول، ظهر مخلوق هائل آخر.
التنين الأسود. انعكس غضب بارد في عيني كارسيون الزرقاوين.
الجاني الذي دمر أراضي إيفلين قبل خمس سنوات.
قتل الكونت إيفلين وزوجته، وأذاب خدم القصر بأنفاسه، ولعب بسكان الأرض كأنهم ألعاب، ثم سحقهم بمخالبه الضخمة.
لا يزال صوت ذلك الوحش يتردد في أذنه حتى الآن.
<البشر المتخلفون… هكذا يلهو تنين استيقظ من سباته.>
<لهو…؟ هل هذا كل ما في الأمر؟>
<أعترف أنك مثير للاهتمام بعض الشيء بالنسبة لبشر… لكنك في النهاية مجرد لعبة أكثر تسلية.>
كووووو…!
تذكّر اللحظة التي كاد فيها لهيب أنفاسه يحرق جلده.
صنع سيف مانا على شكل درع، ونجا بفارق لحظات.
في خلفية سماء تغرب ببطء بلون نحاسي، تلاشت الذكريات كسراب، وفوقها انفجر لهيب أسود مائل إلى الحمرة.
هدف التنين الأسود لم يكن ليونيل… بل رينيه التي يحميها بين ذراعيه.
احمرت عينا كارسيون من شدة الغضب.
في اللحظة التالية، قفز من على ظهر لِكسيون وسحب سيفه.
وبضربة واحدة، طارت طاقة مانا من طرف سيفه كعاصفة، وانغرست في جسد التنين الأسود.
“كواااااا!”
زمجر التنين الأسود من الألم، وتحركت عيناه السوداوين بحثًا عن من هاجمه.
وما إن رآه، حتى أطلق هالة قاتلة تجاه كارسيون.
-كارسيون.
عندما دوى صوته في رأسه، قبض كارسيون على سيفه بإحكام.
هذه المرة، سيقطع أنفاس هذا السحلية السوداء للأبد.
-بشري وقح.
تلألأت عين هاديس المشقوقة عموديًا بخطورة.
ما الذي فعله أوستين؟ لماذا لم يُنهِ الأمر كما خُطط له؟
كم هو عديم الفائدة.
كان من المفترض أن يُدمَّر إقليم إيفلين بالكامل قبل وصول كارسيون.
وكانت خطة هاديس أن يقذف بجثة رينيه في وجه كارسيون، بينما هو يصرخ ويجثو محطمًا.
لكن كارسيون قفز عاليًا في تلك اللحظة.
وانطلق فرسان فونيكس خلفه لتغطيته.
من دون أوامر، تحركوا كجسد واحد، واتجه بعضهم نحو طريق هاديس المحتمل للهرب.
“كووووو!”
صرخ هاديس من الألم.
قذف كارسيون العشرات من سيوف المانا كأنها رماح، فانغرست في جسد التنين.
ومن جهات مختلفة، انطلقت هجمات الفرسان. أطلق هاديس أنفاسه في جميع الاتجاهات.
خطته الآن كانت إذابة كلَ مَن في قصر إيفلين.
“آآآه! سيد جايل! سيد بينجين! اصمدا قليلًا فقط!”
صرخت ايديرا وهي تُلقي تعاويذ الحماية.
بعدما فروا، عادت ايديرا مع جايل وبينجين، ونصبوا حاجزًا حول القصر.
اتحدت قوى ثلاثة سحرة من المستوى المتوسط، فتمكنوا من الصمود مؤقتًا.
لكن بضعة هجمات فقط، وستذوب هذه الحماية الهشة.
المشكلة هي عندما بدأ البشر يتحدون ضده. ففي البعيد، كان إيفان وأولاند يركضان نحوه.
هاج وماج هاديس محاولًا الإطاحة بكارسيون الذي كان فوق ظهره.
-لن يكون أكثر من خدش، أيها البشري.
سخر منه وهو يشير إلى سيف مغروس في حرشفته السوداء.
لكن الحقيقة، أنه بدأ يشعر بالخطر.
صرخ كارسيون وهو يزأر بالغضب:
“خدش؟ جرّب الموت بخدش، أيها اللعين!”
وفي تلك اللحظة، انشقت السماء بضوء ساطع.
التعليقات لهذا الفصل " 76"