كما لو أنه ابتُلع في هوّة لا قاع لها، أخذوا يختفون واحدًا تلو الآخر. حتى لو لوّحوا بسيوفهم، لم يكن ذلك ذا جدوى.
بدا أن هجوم سيف المانا يُبعده للحظة، لكنه سرعان ما فتح فمه بشكل أشرس وابتلع الفرسان من مستوى السادة.
صرخ أحدهم.
“إنه هو! إنه ذلك الوحش!”
كان فارسًا شارك في الخطوط الأمامية من معركة القضاء على التنين الأسود.
أدرك ماكس أن الدخان الأسود الذي أمامه هو قدرة التنين الأسود التي سمع عنها فقط.
اللعنة. من يقع هناك، يدخل في حالة هلوسة.
ثم يُمتَص حيويًّا حتى يصير هيكلًا عظميًّا.
“اهربوا! انسحبوا! انسحبوا!”
صرخ ماكس بكل ما أوتي من قوة. ساقاه كانتا تهرولان بسرعة نزولًا من سفح الجبل.
الفارس الذي كان يركض بجانبه ابتُلع نصف جسده في الدخان الأسود.
لوّح بسيفه عبثًا، فلا مجال لشق الدخان.
اللعنة! كانوا بحاجة إلى ساحر.
أو إلى فارس بلغ مرتبة سيد سيف من مستوى الأبطال.
هذا أمر لا يمكن للفرسان العاديين مواجهته. الهجوم عليه بتهور كان يعني الموت المحتم.
سحر التنين.
منذ لحظة فقسهم من البيضة، يُولدون وهم يمتلكون سحرًا لا يمكن للبشر العاديين بلوغه مهما حاولوا مدى الحياة، كما سُجّل في الوثائق.
لكن لم يكن معلومًا بالتحديد مدى عظمة ذلك السحر.
أحدث سجل أُضيف كان قبل خمس سنوات، تقرير قدّمه كارسيون بعد القضاء على التنين الأسود.
قوة نَفَسه، أنواع السحر، أنماط الهجوم، شدة الرياح الناتجة عن خفق جناحيه، ومساحة التدمير الناتجة عن ضربة من ذيله.
التقرير المفصل جُمِع في كتاب ونُشر ليتمكن الجميع من قراءته.
وكان الفرسان يستعيرونه من مكتبة القصر الإمبراطوري. قرأه ماكس أيضًا.
[…نسجل هنا المعرفة النبيلة التي اكتسبناها بثمن أرواح أكثر من مئة فارس خلال المعركة. في المكان الذي يمر به سحر التنين الأسود “الهاوية”، لا يتبقى شيء سوى الموت.]
مرت كلمات الكتاب سريعًا في ذهنه.
[وفقًا لشهادة أحد الفرسان الذين نجوا بأعجوبة بعد السقوط في الهاوية، فقد استولى عليه الخوف فور دخوله في الدخان الأسود، إلى حدّ أنه لم يعد قادرًا على فعل أي شيء. يرى في تلك اللحظة أكثر ما يخشاه في هيئة هلوسة… والطريقة الوحيدة لكسرها هي طردها بالنور من الخارج، لكن السحر العادي لا يُجدي نفعًا.]
إذن ماذا كان؟ ما هي طريقة التغلب على ذلك؟
عضّ ماكس على أسنانه وركض بأقصى ما يمكنه من قوة.
كان عليه النجاة بأي ثمن وإبلاغ الجميع. ليس فقط من في قصر إيفلين، بل كل سكان الإقليم.
ما إن وصل إلى القصر، حتى صرخ باسمٍ واحد بكل لهفة.
رغم أنه كان يركض بأقصى طاقته كفارس مُدرّب تدريبًا عاليًا، إلا أن الاستعجال أنعش فيه طاقة ليصرخ بأعلى صوته.
“صاحب السمو هيلغريت! السيد أولاند!”
صرخ ماكس بصوت يائس.
“التنين الأسود قد ظهر! الوحش لا يزال حيًا!”
***
أُعلنَت حالة الطوارئ.
تغيّر الهواء المحيط على الفور إثر الصوت الذي دوّى في أرجاء القصر.
حتى إيفان وأورلاند، اللذان كنت أعتقد دومًا أنهما يحرسانني من مكان غير مرئي، خرجا من مكانٍ ما.
ربما قفزا من فوق السطح، لم أكن متأكدة وسط هذا الارتباك.
“تنين أسود؟”
سأل أولاند بصوت مصدوم. ردّ ماكس بسرعة وكأن الوقت لا يسمح له بالتفصيل.
“إنها الهاوية. الدخان الأسود ابتلع الفرسان. أنا فقط… بالكاد نجوت.”
“حسنًا، فهمت.”
قاطع أورلاند حديثه بعد أن ربت على كتفه مرتين.
ثم التفت إلى إيفان. كانت نظرات إيفان تهتز بشيء من الاضطراب.
لأول مرة أراه متأثرًا إلى هذا الحد، رغم أنه كان دائمًا ما يبدو باردًا وغير مبالٍ.
“بحثنا لعامين… كنت أظنه جهدًا ضائعا…”
تمتم بكلمات لنفسه، لكن عينيه سرعان ما اتقدتا بعزمٍ صارم.
وبدأ في إصدار الأوامر بدقة وانضباط.
أمر بالإخلاء. صوته المرتفع الذي أمر فيه بالتواصل مع فرسان توتين في حدود الغرب دوّى في الأرجاء.
كانوا أقرب وحدة من بين الفرق النظامية.
أمر ماكس بطلب الدعم من شوتزن.
ولم يكن هناك رسول أفضل من ماكس، الذي هرب من الهاوية بنفسه.
بينما كنت أراقب ماكس يبتعد بسرعة بعد أن أدى تحية الفرسان، شعرت بالاختناق.
لم يكن الأمر واقعيًا. تنين أسود…؟
اتجه بصري نحو سلسلة جبال دنيبروك البعيدة التي ترسم خطًّا طويلًا في الأفق.
كان خدم القصر يتحركون في فوضى استعدادًا للإخلاء.
حتى ايديرا، جايل، وبينجين كانوا يسرعون في جمع موادهم البحثية وصعدوا على الأحصنة وهم يلهثون.
“رينيه.”
ناداني أولاند. نظرت إليه وأنا في حالة صدمة.
“اذهبي الآن.”
“وماذا عنكَ يا معلم؟”
“يجب أن أذهب لقتال ذلك السحلية.”
“…..”
شعرت وكأن شيئًا عالقًا في حلقي. كنت أعلم بعقلي.
أنه من الطبيعي والمحتم أن يقود القويّ مثله معركة القضاء على التنين.
وأنه جاء إلى إقليم إيفلين خصيصًا تحسّبًا لمثل هذه الحالات.
لكن رؤية من تحبين يركض نحو الخطر أمرٌ مختلف تمامًا.
كنت أريد الصراخ: لا تذهب!
كنت خائفة من أن أفقده.
“ليونيل، اذهب معه.”
قال إيفان وهو يصعد على حصانه. لكن أولاند ردّ عليه بسرعة.
“لا. سيشكّل عبئًا فقط إذا أخذنا معنا ساحرًا صغيرًا مثله.”
“الساحر سيكون عونًا كبيرًا. وهو ساحر متقدم…”
لم يكمل إيفان جملته. كان وجه أولاند جادًا على نحو غير معتاد.
نظراته اتجهت مباشرة إلى ليونيل.
فتح فمه قائلًا:
“ليونيل.”
“……”
بلع ليونيل ريقه، ورفع رأسه ينظر إلى أولاند الممتطي فرسه.
“احمِ رينيه جيدًا. كما تفعل دائمًا.”
“لن تحتاج إلى أن تطلب، سأفعل ذلك على أية حال.”
“هذا يكفي إذًا.”
ابتسم أولاند بخفة واستدار بحصانه.
إيفان ألقى نظرة خاطفة عليّ، وعلى ليونيل، وعلى الخدم الذين يركضون للإخلاء، ثم انطلق أيضًا.
هل سيكون الأمر بخير وهما فقط؟
قيل إنهم كانوا سبعة آلاف في المرة السابقة. هل يستطيعان حقًا التعامل مع التنين الأسود وهما اثنان فقط؟
ارتجف جسدي بالكامل من شدة التوتر.
لم أستطع أن أصدق ما يحدث، لكن وتيرة الأحداث السريعة كانت تصرخ بأن هذا ليس حلماً ولا وهماً.
“رينيه، فلنُخلِ المكان نحن أيضاً.”
لفَّ ليونيل ذراعه حول كتفي. بلعت ريقي الجاف وأومأت برأسي.
قررنا أن نأخذ أمتعتنا جميعاً ونعود إلى شوتزن أولاً.
كان هذا القصر يعلق بذاكرتي.
كان هذا الإقطاع يعلق في عيني بألم، كأن قلبي يتمزق إرباً.
إنه الإقطاع الذي أعاد كارسـيون بناءه بشق الأنفس.
هو المكان الذي سكب فيه ذكرياته ورسم عليه التوت الأزرق على الأبواب من فرط تعلقه.
لن يُدمّر مرة أخرى، أليس كذلك…؟
رغم القلق، لم يكن لدينا وقت للتلكؤ الآن.
مررت على الجناح الجانبي وجمعت الحاجيات المهمة.
جمعت الطوب الذي جلبته للعرض التجريبي بسرعة، وكانت العينات مختلفة في الحجم والسماكة.
“فلنذهب بسرعة.”
“أجل.”
كنت قد بدأت أركض قبل أن يلحّ ليونيل عليّ.
لكن، ألم يقل إيفان أن نُعلم القرية أيضاً؟
“هل أرسلوا أحداً إلى القرية؟”
سألتُ بشك، فاهتزت عينا ليونيل بعنف.
“ربما… أعتقد ذلك؟”
لم يكن واثقاً من إجابته. الجميع كان في فوضى.
حتى لو أمر إيفان بذلك، فهل نُفِّذ الأمر فعلاً؟ هذا سؤال آخر.
“رينيه، سيذهب أحد غيرنا.”
“بل نذهب نحن. إن ركبنا الخيل نصل بسرعة.”
وأنا أركض نحو الإسطبل، اجتاحتني مشاعر مسؤولية غامضة.
لا، بل كانت مسؤولية بديهية.
أنا رينيه إيفلين.
الناجية الوحيدة من عائلة إيفلين. عليّ مسؤولية حماية هذا الإقطاع.
حتى لو هربت، يجب أن أكون آخر من يهرب.
عليّ إخلاء سكان الإقطاع بأمان أولاً. وصلت إلى الإسطبل، وركبت الحصان بسرعة.
كنت قلقة من أن يكون الجميع قد أخذوا الخيول، لكن لحسن الحظ لم يكن الأمر كذلك.
“هيّا!”
أمسكت باللجام وضربت خاصرة الحصان بكعبي.
تبعني ليونيل على الفور.
من تعابير وجهه، بدا وكأنه يريد أن يأخذني للفرار حالاً، لكن ربما رأى أن التصرف السريع وحلّ الأمر أفضل من الجدل الآن.
دقدقدقدق.
دقدقدقدق.
انطلقت الخيول بقوة.
لكننا لم نكد نخرج من السياج المحيط بالقصر، حتى اضطررنا إلى إيقاف الخيل بسرعة.
هيييي!
جذبت اللجام، فرفع الحصان قائمتيه في الهواء وركل الفراغ.
كدت أن أسقط، لكني تمسكت بعنقه بصعوبة ونجوت من السقوط.
“آه.”
أطلقت أنيناً، ورفعت رأسي لأنظر أمامي.
كان هناك رجل يقف بثبات عند مدخل القصر، يسد الطريق.
ظلال كثيفة غطّت وجهه بسبب الضوء الساطع من الخلف.
“تنحَّ! اهرب بسرعة!”
صرخت به بلهفة. لم يكن هذا وقت المماطلة.
ثم فجأة، أدركت أن ليونيل كان صامتاً على نحو مريب.
استبدّ بي شعور غريب، فالتفتُّ إليه. كان يحدق في الرجل بعينين باردتين.
عدت لأنظر إلى الرجل الذي كان يعيق الطريق.
رفع يديه ببطء إلى رأسه ودفع الغطاء البني للخلف.
كشفت حركته عن شعر حالك السواد.
وبينما تحركت الغيوم في السماء، انعكس ضوء باهت على وجهه.
عينا سوداوان قاتمتان تثيران الاشمئزاز.
ابتسم الرجل ابتسامة خبيثة، وقال لي بتحية:
“التقينا مجدداً.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 74"