الفصل 73. ولو بشكل أخرق
فووووه!
الحرارة الهائلة جعلت الهواء من حولنا مشتعلاً.
رغم أن المسافة كانت كبيرة، إلا أن بشرتي شعرت بالحرارة.
“مذهل، أليس كذلك؟”
“إنه من مستوى يسمح له بإجراء هذا النوع من التجارب… لا بد أنه من نخبة كبار السحرة.”
قال بينجين وجايل كلٌ منهما بإعجاب.
وبما أن كلاهما ساحر متوسط المستوى، كان بإمكانهما الإحساس بمدى قوة السحر الناري الذي أطلقه ليونيل.
حتى ايديرا، التي لم تكن تكِنُّ له أي ود، اعترفت بذلك.
“إذاً، كنتِ تتلقين هذه النوعية من الاختبارات منه بشكل خاص طوال هذا الوقت؟”
“نعم، حسنًا… هاها.”
ضحكتُ بخفة لأتجاوز الأمر. فقد كانت بيئة تتطلب تحقيق إنجازات عالية نتيجة لاختبارات عالية المستوى.
ولم أنكر ذلك.
فما قدمه لي ليونيل من مساعدة كان له أثر كبير في نجاح أبحاثي. وربما غريزندورف أدرك هذا فأرسله إلى هنا.
يبدو أن سيد برج السحر بارع أيضًا في توزيع الكفاءات في الأماكن المناسبة.
“لقد ذاب تمامًا.”
قال ليونيل وهو ينظر إلينا.
عيناه الحمراوان لمحتا إليّ للحظة، ثم تحولت نظرته نحو ايديرا.
“لم يكن سيئًا. لكن لو قرر التنين فعلًا إطلاق لهبه بجدية، فلن يصمد سوى خمس ثوانٍ فقط.”
“هذا مرعب، نوعًا ما.”
تمتم جايل بجانبي. أما ايديرا فقد بدا عليها الفضول.
فقد كانت دائمًا تشكك في كفاءة ليونيل.
“وكيف تعرف ذلك يا سيد الساحر؟”
“قلتُ سابقًا، لدي خبرة في نَفَس التنانين.”
“كيف درست ذلك؟”
“معرفة الساحر عميقة. من الصعب شرحها.”
“لكنني ساحرة أيضًا. لن أجد صعوبة في الفهم.”
دار بينهما نقاش سريع كالكرة المرتدة، فأخذنا أنا وجايل وبينجين نحرك رؤوسنا بينهما يمنة ويسرة.
رغم أن الحديث بدا كأنه نقاش علمي شغوف، إلا أنه أشبه بمعركة بين سيف ودرع. تنهد ليونيل بعمق.
“سيدة ايديرا.”
كان وجهه وصوته باردين للغاية. لا يزال من الغريب عليّ رؤيته بهذا الشكل.
أن يكون ليونيل شخصًا قادرًا على التعبير بهذا الجفاء.
ربما، في النهاية، أنا لا أعرفه حقًا.
حتى بعد أن عشنا معًا خمسة أعوام، باستثناء ذكريات طفولتي المتفرقة.
“بقدراتكِ الحالية، لن تتمكني من فهم أي شيء.”
“……”
تجمد وجه ايديرا من الإهانة.
وأخذنا نحن الثلاثة نفسًا مكتومًا من الصدمة.
رغم أننا وحدنا، إلا أن ما حدث كان إهانة علنية.
“كل ما فعلتِه هو التحديق بي بريبة، ولم تتمكني من اكتشاف أي شيء.”
“لكني اكتشفت أنكَ مريب.”
“أنا؟ مريب؟”
ابتسم ليونيل بسخرية، كما لو أنه سمع شيئًا غريبًا جدًا. وفجأة، اكتشفت جانبًا جديدًا فيه.
حتى هذه الابتسامة المتعجرفة لم أكن أعرفها.
لم أعد أعلم من هو ليونيل.
كم عمره.
متى أصبح ساحرًا عبقريًا.
ولماذا تظاهر بأنه صديق طفولتي.
ولماذا يبدو ضعيفًا جدًا أمام كلماتي ونظراتي رغم قوته أمام الآخرين…
“ما الذي شعرتِ به عند رؤيتك لسحري الناري؟”
“هل تنتظر مني مديحًا؟”
سألت ايديرا وهي تحدق فيه بعينين حادتين، فضحك ليونيل بسخرية وكأنه يقول: “إن لم تشعري بشيء، فلا تتجرئي على مجابهتي.”
“ليونيل.”
تدخلتُ لإيقاف التوتر المتزايد بينهما. ولم أفعل سوى أن ناديت اسمه مرة واحدة…
“نعم، لينا؟ ماذا هناك؟”
في غمضة عين، تغير الجو المحيط بليونيل.
اختفت الأجواء المشحونة والغاضبة التي كانت تحيط به، وكأن نسيم الربيع اللطيف بدأ يهب.
كان التغير مفاجئًا وصادمًا إلى درجة أنني فقدت القدرة على الكلام للحظة.
وأصبح وجه ايديرا كما لو أنها تناولت شيئًا مرًا، بينما جايل ضحك فجأة، وبينجين شعر وكأن الأدرينالين جعله يستفيق من تعب طويل.
“هل لديكِ شيء لتقوليه؟ ما هو؟”
“آه، حسناً…”
ربما لأنني رأيته يتحول إلى شكل الكلب من قبل. أشعر وكأن ذيله يهتز خلفه برقة.
“أم، أرجوك عامل ايديرا كما عاملتني. كنتَ تعطيني اقتراحات لتحسين الأمور، أليس كذلك؟”
“……”
ليونيل نظر إليها بوجه متجهم.
يبدو أن الريبة التي كانت تظهرها نحوه طوال الوقت أزعجته بشدة.
لكن، لنكن منصفين، كانت هناك أسباب كافية للشك به.
بل إنني كنت أكثر قسوة منها في بعض الأحيان.
“بما أن لينا طلبت، فلا مفر. سأساعدكِ.”
قالها ليونيل كأنه يمنّ عليها، ومع ذلك، بدا الغرور يملأ تعابيره مجددًا. بالفعل، هو قوي.
ساحر مذهل.
“يبدو أن نسبة الرمل مرتفعة جدًا. جربي إذابته بحرارة أعلى.”
“لكن حينها سيتحول إلى دخان. هذه أقصى قدرة ممكنة.”
“استخدمي رمل صحراء سيربات. سيتحمل أكثر.”
“كيف تعرف مثل هذه الأمور؟”
“لا رغبة لي في الشرح.”
أظهر ليونيل بوضوح كم هو منزعج. وكأنه ينتقم من شكوك ايديرا السابقة فيه.
ثم التفت إليّ، كأنه ينتظر المديح، تمامًا مثل كلب صغير يطلب الإطراء.
هذا غريب. لابد أن نظري فيه خطب ما.
فرغم أنه يحدق بي بوجه هادئ، إلا أنني أرى صورة “ريو” يلهث فوق ملامحه.
“ش، شكرًا على المساعدة.”
“طبعًا، لينا.”
رد وهو يبتسم بشموخ وكأنه لم يفعل شيئًا يُذكر.
لا أعلم لما يبدو مسرورًا إلى هذا الحد بسبب مجرد جملة.
إن كان يظن أننا تصالحنا بهذا، فهو مخطئ.
نظرت إليه، حائرة وسط مشاعري المعقدة.
***
عند سفح أحد جبال سلسلة دينيبروك.
كان فرسان فونيكس يكدّون في جمع المواد وتحميلها على العربات بلا توقف.
“ألا تظن أن عليهم إرسال المزيد من الدعم؟”
أبدى أحد الفرسان تساؤله، ووافقه ماكس الرأي.
حتى وإن كانت المهمة بسيطة، إلا أن كمية العمل المطلوب إنجازه خلال يوم واحد كانت كبيرة.
فمهما فعلوا، فلن تتمكن مجموعة مكوّنة من عشرين فارسًا بالكاد من التنقل جيئة وذهابًا بالعربات من إنجاز الكثير.
لو أنهم أرسلوا ثلاثمئة شخص كما في دفعة الجمع الأولى، لكان بالإمكان تحقيق كفاءة تزيد بخمسة عشر ضعفًا على الأقل.
ولو حصل ذلك، لما اضطروا للبقاء في مقاطعة إيفلين كل هذه المدة.
الفصل كان أواخر الخريف.
ومن المرجح أن عليهم قضاء الشتاء في الجنوب هذه السنة.
“قضاء الشتاء في مكان دافئ ليس بالأمر السيئ.”
قال أحد الفرسان بنبرة متفائلة، وكأنه قرأ أفكار ماكس. أومأ ماكس برأسه وترك المجرفة جانبًا للحظة.
“ألا تفكر في الوقوع في الحب؟”
“ربما أبدأ علاقة في مقاطعة إيفلين؟”
“انسَ الأمر، مصيرنا أن نظل محبوسين في الجبال طوال الوقت.”
“ننزل قبل غروب الشمس، أليس كذلك؟ يمكننا رؤيتهن في الليل فقط.”
“يا لكَ من معتوه.”
“لا تتظاهر بالنقاء، أيها الوغد.”
تبادل الفرسان أحاديث سخيفة وضحكوا فيما بينهم. في مثل هذه الأعمال المرهقة، كان تبادل النكات بلا تفكير وسيلة فعالة لقتل الوقت.
لكن الحديث قُطع فجأة بصوت فارس آخر.
“هم؟ ما ذلك؟”
اعتدل في وقفته ونظر نحو الغابة، فاستدار الجميع ليتبعوا نظراته.
كان شيء ما، كالدخان الأسود، يتماوج مقتربًا منهم.
عتمة قاتمة كانت تتمدد وتبتلع الطريق الذي سلكوه، فتتسع شيئًا فشيئًا.
تجمدت وجوه الفرسان العاملين على المنظر، وقد طغى الذهول على أعينهم.
***
في الحديقة خلال وقت متأخر من بعد الظهر.
كنت أمشي جنبًا إلى جنب مع ليونيل على الممر الذي غمره ضوء الغروب الحزين. كنت عاجزة عن تهدئة اضطرابي، فدعوت ليونيل بنفسي لنتحدث.
لكن ربما لأن قلبي كان مثقلًا…
لم يسعني أن أفتح فمي بسهولة.
مضى وقت طويل ونحن نسير بخطى بطيئة، وصوت وقع أقدامنا يتداخل مع صوت الريح في أذني.
لففنا الحديقة مرة، ثم بدأنا اللفة الثانية، وعندها فقط تمكنت أخيرًا من فتح فمي.
شعرت بصبر ليونيل وهو ينتظر حتى أكون مستعدة للكلام دون أن يضغط علي.
“لدي الكثير من الأسئلة.”
ربما كان ليونيل غارقًا في أفكاره الخاصة أيضًا.
“كلما فكّرت أكثر، أدركت أنني لا أعرف شيئًا عنك.”
“أجل.”
“طوال السنوات الخمس الماضية، صدقت كلامك فحسب. صدقت أنك نشأت في دار أيتام، وأننا التقينا ونحن في السادسة، وأنك ساحر.”
“……”
“قبلت كل ذلك ببساطة وكأنه حقيقة، لكن الآن، بات لدي الكثير من التساؤلات.”
“……”
“أنت تمزج بين الكذب والصدق.”
“……”
تباطأت خطواتنا تدريجيًا. وبدون أن نتفق، توقفنا في اللحظة ذاتها.
فتح ليونيل فمه كما لو أنه اتخذ قرارًا، وشعرت فورًا بأنه سيقول لي ولو جزءًا صغيرًا من الحقيقة. خفق قلبي بعنف.
“دعيني أعرّف عن نفسي.”
كان صوته وكأنه يقول: لنبدأ من جديد.
صوت صغير، لكنه صادق ويحمل نبرة مؤثرة. أنصتُّ بصمت.
“اسمي جينيرتس. هذه أول مرة أكشف فيه اسمي الحقيقي لإنسان.”
“……؟”
اهتزت نظراتي.
صُدمت من حقيقة أننا لم نكن نعرف حتى اسم بعضنا حقًا، لكن في الوقت ذاته، شعرت أنني أخيرًا اقتربت خطوة من ليونيل الحقيقي، فارتجف قلبي.
“عمري سبعة عشر.”
“……تلك لم تكن كذبة؟”
“أجل. مدهش، أليس كذلك؟”
ابتسم ليونيل ابتسامة خفيفة.
لم أصدّقه، فرمش جفنيّ بسرعة لمرتين أو ثلاث، ثم حدّقت به كما لو أنني أقول: تابع، أنا أستمع.
كانت نظراتنا تتلاقى في ارتجاف غريب.
هل بدأت علاقتنا المختلّة تتوازن ولو بشكل أخرق؟
“صاحب السمو هيلغريت! سيد أورلاند!”
دوّى صوت مرتجف في الهواء، مقاطعًا اللحظة.
التفتُ أنا وليونيل في آن واحد.
كان ماكس يركض نحونا، وهيئته في حالة يرثى لها.
التعليقات لهذا الفصل " 73"