الفصل 71. مجرد إحساس
“لأن النتائج التي اختبرتها أنا كانت جيدة.”
كانت تلك إجابته عن سبب دفع سيد البرج له للانضمام إلى فرقة التجميع.
ليونيل أراد بأي طريقة أن يُظهر أنه جاء إلى هنا لأسباب وجيهة. لأنه لا يمكنه البقاء بجانب رينيه إلا إذا كان لديه سبب مقنع.
فالعلاقة بينهما لم تعد تسمح بالبقاء معًا دون سبب.
“أنتِ ستبحثين عن مواد جديدة مجددًا، أليس كذلك؟ ما الذي ستبحثين عنه المرة القادمة؟”
“لا داعي لأن أُطلعك على كل شيء. فقط أرسل لي نيرانًا لاحقًا.”
“…….”
“استمتع بوقتك حتى ذلك الحين. لا أحتاج منك شيئًا الآن.”
قالت ذلك ثم استدارت مبتعدة. ليونيل لم يستطع تركها تذهب هكذا.
حتى لو بقي يحوم حولها، لن يراها إلا كما لو أن المطر هطل فجأة في الصحراء.
لأن رينيه كانت تتعمد تجنبه.
“رينيه.”
توقفت خطواتها فجأة.
واكتفت بإدارة رأسها قليلاً للوراء، ثم ردت بصوت بارد.
“نادِني لينا، مثل الآخرين.”
“…….”
أحس بأن قلبه يتألم. وكأن قلب التنين بداخله قد تمزق إلى أشلاء.
ما كان يريده من الشخص الأول الذي انطبع عليه، كان الحُب.
“أنا من بقي معكِ أطول.”
قبض ليونيل يده بإحكام.
وراح يحدق في الأرض وهو يضغط على أسنانه، ثم رفع رأسه وحدق في رينيه مباشرة.
تجهم ما بين حاجبيها، واهتزت عيناها الزمرديتان كما لو كانت تتحسس الكلمات التي ستخرج من فمه.
“أنا أكثر من بقي بجانبك. أكثر من والديك، أكثر من كارسيون، أنا من بقي أطول.”
“ليونيل.”
“ومع ذلك تتخلين عني؟”
“……إرجاع الذكريات يكفي لحل كل شيء.”
وحين وصل الحديث إلى جوهر المشكلة، بدأ يتنفس بصعوبة كما لو كان لا يستطيع الاحتمال.
ارتجفت عضلات فكّه بوحشية كأنها مكبّلة بقيود الماضي.
وفي اللحظة التالية…
“آه……!”
اقترب ليونيل منها بخطوتين، ثم جذب معصمها بعنف.
ثم صرخ بصوت يتأرجح بين التوسل والتهديد.
“قلت لكِ لا أستطيع إرجاعها! لا يمكن! حتى أني قدمت تنازلات كثيرة باعادة تلك الذكريات فيكِ قبل موتك مباشرة!”
“……!”
اتسعت عينا رينيه.
كانت هذه أول مرة يصرخ فيها ليونيل بوجهها. لطالما كان لطيفًا معها.
كان يتودد إليها بمرح ليحظى باهتمامها، ويتصرف بأدب ليسعدها، ويعاملها بحنان ليحفظ كل ما منحه إياه قلبها.
هذا الصراخ الذي يشبه الانفجار لم يكن ما تمناه ليونيل.
بل كان على النقيض تمامًا مما كان يرجوه. مرّ صمت ثقيل يُثقل الأذنين.
وأخذ ليونيل يعضّ شفته السفلى بصعوبة كما لو كان لا يتحمل.
ملامح وجهه بدت كمن يشعر بالضيق لأن مشاعره لا تصل إليها.
ورينيه كادت تختنق بذلك الشعور. حتى هي أرادت أن تفهمه. حاولت.
لكن……
هل بذلت كل ما بوسعها فعلًا……؟
“ليونيل.”
امتدت يد رينيه لتلمس وجنته.
وبدت كأن شعاع نور نزل على ملامحه التي كانت مشوهة بالندم والعذاب.
هذه الأمور…
هذه الاستجابات هي ما يربك رينيه.
“هل تخاف من أني إذا استعادت ذكرياتي، قد أتخلى عنك؟”
أنزل ليونيل رأسه.
“أعدك. لن أفعل ذلك.”
لذلك، أعد لي ذاكرتي. فُكّ الختم.
تلك الكلمات التي لم تُنطق كانت تتردد في الهواء المحيط بهما. تنهد ليونيل بعمق دون صوت.
وبينما كان يتأمل عينيها الزمرديتين، مرت على وجهه لحظة تردّد.
لكن في النهاية، هزّ رأسه نافيًا.
“ستتخلين عني.”
ورغم أن صوته كان خافتًا كمن يوشك على الانطفاء، فقد حمل يقينًا غريبًا.
كما لو أن ذلك قد حدث بالفعل من قبل.
لم تستطع رينيه الرد. أرادت أن تنكر، لكن بما أن جزءًا كبيرًا من ذاكرتها مفقود، لم تستطع.
ثم، سُمعت أصوات فوضوية تقترب.
“سنذهب غدًا مباشرة إلى سلسلة جبال دينيبروك! حددت على الخريطة الأماكن التي لم نزرها في المرة السابقة!”
“ايديرا، أنا أقدّر حماسك، لكني أودّ أن أرتاح يومًا من عناء السفر.”
“شرب النبيذ ليس طريقة للراحة، أليس كذلك يا سيد جايل؟ ما رأيك يا بينجين؟”
“هممم. أوافق.”
كان الباحثون الثلاثة يقتربون من جهة الطريق المؤدي إلى المبنى الجانبي، يتحدثون بحميمية.
أرخى ليونيل قبضته على معصم رينيه الذي كان يمسكه طوال الوقت.
فأدارت رينيه معصمها برفق لتفلت منه.
“آه؟ آنسة لينا!”
لوّحت ايديرا بيدها عند رؤيتها، ثم تجمدت للحظة حين رأت ليونيل بجانبها، قبل أن تعود إلى حالتها الطبيعية.
سألت رينيه بنبرة دافئة وحنونة.
“هل زرتِ مقبرة العائلة جيدًا؟”
“نعم.”
أجابت رينيه بهدوء وهي تومئ برأسها.
فاستغرب جايل وبينجين وجود مقبرة عائلية هنا، وسألت أعينهما آيديرا، التي اكتفت بالإيماء بتعبير مبهم وكأنها تعرف.
ثم……
شعر ليونيل وكأنه ابتلع صخرة ضخمة. كان صدره يضيق ويختنق.
مقبرة العائلة؟ هل قام كارسيون بإنشائها أيضًا؟
طقوس البشر السخيفة للتمسك بالأرواح التي عادت للطبيعة.
ولكن من يرى رينيه ويعرف مدى أهمية الذكريات لديها، سيفهم. حتى إن مات أحباؤهم، فإنهم يفعلون ما بوسعهم لتذكرهم.
مع أنهم سيموتون ويختفون قريبًا هم أيضًا.
يناضلون بكل ما لديهم في حياتهم القصيرة.
“يبدو أنك ستحظى براحة جيدة غدًا، سيد ليونيل. أحسدك حقًا.”
قال جايل بصدق، وهو يعلم أنه سيذهب في رحلة إلى الجبال غدًا. فنظر ليونيل إلى رينيه بطرف عينيه، ثم أجاب.
“لنذهب معًا.”
تدخّلت رينيه في الرفقة التي لم يتّفق عليها أحد.
“لا داعي لذلك…..”
“على أي حال، البقاء وحدي في هذا القصر الواسع سيشعرني بالوحدة. وبصفتي ساحرا، يمكنني مساعدتكم في جمع المواد.”
نظر ليونيل بهدوء إلى الباحثين الثلاثة واحدًا تلو الآخر، ثم حدّق أخيرًا في عيني رينيه الفيروزيتين وأنهى كلامه بحزم.
“تصادف أن لدي خبرة لا بأس بها في أنفاس التنانين.”
***
ما المشكلة بالضبط؟
طقطق بأصابعه على الطاولة وهو غارق في التفكير.
لقد أرسل إيفان لحراستها، ونزل أولاند معها أيضًا إلى إقليم إيفلين.
رغم أن فرسان توتين انسحبوا من جبال دينيبروك، وفرسان فونيكس قللوا عدد المشاركين في فريق الجمع الثاني، إلا أن من بقي كافٍ لملء ذلك الفراغ.
وفي الحقيقة، كان لإيفان وأولاند دور بارز في مواجهة التنين الأسود. فقد تمكّنا من توجيه ضربات مؤثرة عدة مرات.
“لكن لماذا لا أزال أشعر بالقلق…..؟”
منذ أن غادرت رينيه من شوتزن، لم يذق النوم براحة ليلة واحدة.
حسنًا، متى نام مرتاحًا خلال السنوات الخمس الماضية على أي حال…؟
ومع ذلك، كان هذا نوعًا مختلفًا من الأرق.
لقد استعدتها بشق الأنفس، وإن فقدتها مجددًا، فماذا سأفعل أنا…؟
لم يتمكّن من إتمام أفكاره، فسند وجهه بكفّيه. خرج من بين أسنانه أنين حاد كصوت الحديد.
ليس من المبالغة القول إنه وفّر لها أقوى حماية ممكنة. بل لعلها حماية أقوى حتى من تلك التي حظي بها هاينريش الثالث نفسه.
ومع ذلك، فإن هذا القلق ينبع من القلب. إنها مسألة نفسية يجب عليه هو نفسه تخطيها.
“تبًا…..”
أغمض جفنيه ببطء، ثم فتحهما مجددًا.
لو استمر في الجلوس هكذا، سيجُن من الأفكار التي تتلاطم في رأسه.
حدّق في الأوراق التي عليه تسليمها صباح الغد وكأنها مصدر كل معاناته، ثم نهض من مكانه.
اقترب من النافذة وحدّق في القمر المستدير.
أراد تهدئة قلبه بالنظر إلى السماء الليلية، لكن ستار الليل المظلم بدا وكأنه سيبتلع القمر والنجوم معًا.
تلك النجوم التي لطالما جلس مع رينيه يحدّقان بها ويتبادلان الحديث، بدت وكأنها على وشك أن تُبتلع في الظلام الدامس.
مجرد أوهام. فالسماء الليلية تظل سماء. تعود كل يوم كما هي.
لذا، هذا الإحساس المشؤوم كله مجرد قلق غير مبرر ينبع من قلبه فقط.
طَرق.
في تلك اللحظة، سُمِع صوت طرق على الباب. يا للصدفة.
لو كان وحده، لربما ابتلعته الأفكار السوداوية تمامًا.
“سموك، أتيتكم ببعض الشاي إذ بدوتم منشغلين حتى وقت متأخر.”
“شكرًا، دويمن.”
ربما لأنه كان برفقته منذ الطفولة، فإن دويمن غالبًا ما كان يقدّم له ما يحتاجه تمامًا في الوقت المناسب بشكل يثير الدهشة أحيانًا.
أحيانًا تكون كلمة لطيفة، وأحيانًا مجرد صمت يرافقه، وأحيانًا – كما الآن – فنجان شاي دافئ.
“كيف عرفتَ أنني بحاجة لهذا بالضبط؟”
“مجرد إحساس.”
ابتسم دويمن بود، وهمّ بوضع الفنجان على المكتب، لكن كارسيون خطا من عند النافذة ليمنعه.
أشار بيده أنه سيشربه حالًا، فمدّ له دويمن الصينية.
طَق-
“آه…”
“أوه!”
تحطّم!
انزلقت يده فاصطدمت بالفنجان فوق الصينية، وتحطّم فنجان الشاي الخزفي إلى شظايا متناثرة، وسُكِب الشاي الساخن على الأرض.
حدّق كارسيون في المشهد الفوضوي بعينين مشوشتين.
إحساس مشؤوم أحاط بقلبه.
كان… مجرد إحساس.
التعليقات لهذا الفصل " 71"