خفضت نظري، محاوِلةً تجنب التواصل البصري معه قدر الإمكان.
شعرت بنظرات المارة تلاحقنا، لكن لم يكن هناك ما يوقف كارسيون الآن.
سألني بصوت تغمره المشاعر:
“هل هناك شيء آخر تذكرتِه؟ غير لقائنا الأول.”
“أمم… أتذكّر أننا كنا نتدرب معًا على المبارزة. كنت أنا أحمل سيفًا خشبيًا، وأنت سيفًا حقيقيًا، وخسرتَ حينها في مبارزة ضد السيد أولاند. ثم ارتميت على الأرض تعبًا.”
“……نعم. لا بأس، أخبريني بالمزيد.”
“أتذكّر أن السيد دويمن أحضر لنا عصير فواكه خاصًا. لكن ريو ضرب مقعدك، وانسكب العصير على ملابسك.”
“ذلك الوغد. قلت إنه تعمد فعل ذلك.”
“أنا آسفة.”
“اعتذري لأنك دافعتِ عن ذلك الكلب، وقلتِ إنه لا يعرف شيئًا.”
“أنا آسفة.”
اعتذرت له بكل صدق. ودون أن أشعر، كنت أنا أيضًا قد عانقته بشدة، دون أي خجل أو مراعاة لنظرات الآخرين.
وكأننا عائلة اجتمعت بعد فراق سنوات، لم نتوقف عن احتضان بعضنا البعض.
بدا لي من طرف عيني أن إيفان غادر المكان بصمت، وكأنه لم يعد يحتمل المشهد، لكن لم يكن لدي الوقت لأهتم.
اذهب، ارحل.
في هذه اللحظة المؤثرة، ماذا عساي أن أفعل؟ آه، يا لقلبي.
الذكريات التي عادت كانت حلوة بشكل لا يوصف.
أردت المزيد، و المزيد منها.
حين أعود من إقليم إيفلين، أرجو أن يكون غريزندورف قد أكمل المفتاح الذي يفتح الختم بالكامل.
“عليّ أن أقدّم شيئًا من الشكر لغريزندورف.”
“نعم.”
لم أتمكن إلا من الإجابة باختصار. كانت مشاعري جياشة، وانعقد صوتي.
ظهرت الكثير من الذكريات بشكل مفاجئ.
وكان من الصعب سردها جميعًا. كان هناك أيضًا شظايا ذكريات، كقطع مكسورة.
وجه أبي الجاد وهو يمسك بريشة الكتابة. وجه أمي المبتسم بلطف.
خدم القصر ينشرون الغسيل تحت شمس الظهيرة.
لماذا أخذ ليونيل كل هذا مني؟
رغم أنني لم أستعد سوى القليل، شعرت بالامتنان حدّ العجز عن تحمّله.
ذكرياتي التي تشكّلني، كانت حياتي نفسها.
الذكريات التي أكتسبها في الحياة، هي الهبة الحقيقية.
“مهما حاولت، لا يمكنني أن أفهم ليونيل.”
اعترفت بهمسي وأنا أدفن وجهي في صدر كارسيون.
شعرت بقوة يديه الكبيرتين والصلبتين تحتضنان كتفيّ.
“مهما كان السبب، لا يمكن تبرير ما فعله…”
“……”
صمت كارسيون طويلًا.
ثم، كأنما يهمس بتنهيدة، قال:
“صحيح.”
***
كان النزول إلى إقليم إيفلين معًا أمرًا غير متوقع.
ليونيل، الذي كان يسير خلف قافلة الباحثين وهو يراقب رينيه، شعر بأن الأمر سار بشكل جيد في النهاية.
فهو مطرود من المنزل على أي حال، ولو أراد رؤية رينيه، لكان عليه التردد على برج السحر باستمرار، لكنها الآن ذاهبة إلى إقليم إيفلين.
فبأي حجة سيتبعها هناك؟ بينما كان يفكر بذلك، استدعاه سيد برج السحر.
وطلب منه أن يرافق قافلة الباحثين إلى إقليم إيفلين.
يا لها من غنيمة!
وكان السبب أن مادة البناء التي ساعد في اختبارها سابقًا قد حصلت على الموافقة النهائية للإنتاج بكميات كبيرة.
كما طُلب منه المساعدة في اختبارات تطوير مواد إضافية.
وبذلك أصبح يعمل رسميًا مع رينيه.
شعر ليونيل بسعادة بالغة، حتى إنه لم يلاحظ النظرة الغريبة التي رمقه بها غريزندورف للحظة.
وهكذا وصل إلى إقليم إيفلين. ليونيل، بصراحة، دُهش.
“مجنون.”
كارسيون كان حقًا مجنونًا.
هل أعاد بناء كل هذا؟ ليس مبنى أو اثنين، بل أعاد ترميم الإقليم بأكمله، ولا يمكن وصف هذا إلا بالجنون.
وفي الوقت نفسه، شعر بالهزيمة.
فمع هذا القدر من التعلّق، لم يكن غريبًا أن يخسر رينيه مجددًا لصالح ذلك الرجل.
راودت ذهنه المحادثة التي جرت بينه وبين كارسيون يوم اكتشف حقيقته، يوم عُرف أنه تنين.
يومها، تخلى ليونيل عن كبريائه وتوسّل إليه.
<دعني أخبرها بنفسي. سأخبر رينيه عندما يحين الوقت. أُقسم بقلب التنين.>
<أنت تطلب الكثير.>
رغم أنه راهن بكل شيء وتوسّل إليه، إلا أن كارسيون سخر منه بأنفاسه. ولم يكن يبدو كشخص ينوي حفظ السر.
يا ترى، إلى أي مدى تحدّث؟ ماذا تعرف رينيه الآن؟
لو التقت أعينهما على الأقل، لربما استطاع تقييم حالها، لكن لم يكن من السهل لقاء رينيه حتى بعد استلام غرفته في قصر إيفلين وترتيب أغراضه.
“عذرًا، السيدة ايديرا؟”
أمسك بالباحثة ذات الشعر الوردي التي صادفها في الممر، فنظرت إليه بعين حذرة.
“ماذا هناك؟”
“هل رأيتِ لينا صدفة؟”
“ولماذا تسأل عن الآنسة لينا؟”
سألت ايديرا بصوت واضح فيه التذمر. كانت هذه المرأة هي من حللت الجرعة التي تعيد إحكام ختم الذكريات كلما تراخى.
صحيح أن أقوى الذكريات في جوهر الختم لا يمكن تحريرها إلا بواسطة ليونيل نفسه، لكن…
على أي حال، قرأ ليونيل في عيني ايديرا أنها لا تثق به.
ليته كان يستطيع قراءة قلب رينيه بهذه الطريقة أيضًا.
“لا بأس. سأبحث بنفسي.”
لوّح بيده وتابع سيره.
ويبدو أن ايديرا لم تكن ترغب بمساعدته إطلاقًا، إذ لم تحاول منعه.
تافهة.
نقر لسانه ساخطًا، لكنه لم يتوقف.
رغم ما في الأمر من تعب، فلا بد من أن يجد رينيه إن هو طاف أرجاء القصر.
وهكذا، بعد بضع ساعات…
“ما هذا؟ أهي ليست في القصر؟ هل عليّ أن أخرج إلى المدينة؟”
أوقف أحد الخدم المارين وسأله:
“هل رأيت الآنسة لينا؟”
“من تقصد…؟”
“رئيسة قافلة الباحثين.”
“آه، تلك السيدة! التي تشبه الآنسة إيفلين تمامًا.”
طعن.
كأن قلبه خُرق بوخزة. لكن ليونيل بالكاد تمكن من الحفاظ على تعابير وجهه.
“نعم، هي.”
فكّر الخادم لحظة وهو يقطب جبينه، ثم هزّ رأسه.
“سمعتُ أنها أتت كرئيسة، لكن لم أراها بنفسي. هل وصلت اليوم؟”
“لا بأس إن لم ترها.”
تنهد ليونيل بهدوء. على ما يبدو، لم تدخل القصر معهم.
يا ترى، متى وأين تفرّقت عنهم؟
لقد سأل بالفعل كل باحثي برج السحر، لكن لا بينجين ولا جايل كان لديهما فكرة عن مكانها.
فرسان فونيكس قالوا إن الباحثين نزلوا في الجناح الفرعي، فربما يجدر به أن يذهب هناك.
لم يرى أيًا من إيفان وأولاند، اللذان كانا برفقتها في الطريق أيضا، فربما هي بالفعل خارج القصر.
“إلى أين ذهبتِ على وجه الأرض….؟”
“أكنتَ تبحث عني؟”
بينما كان يسير في الحديقة ببطء، دوّى صوت بارد في أذنه.
استدار ليونيل من فوره، وقد فزع.
كانت رينيه.
“أين كنتِ؟”
كانت نهاية الخريف.
في شوتزن، يستلزم الأمر ارتداء ملابس سميكة، لكن في إقليم إيفلين، حيث الطقس معتدل على مدار العام، لا حاجة لذلك.
لذا، كانت رينيه ترتدي ملابس ثقيلة لا تناسب طقس هذا المكان.
ما يعني أنها لم تفرغ أمتعتها بعد.
“كنتُ في الخارج.”
جاء الرد قصيرًا وباردًا.
خشي ليونيل أن ينتهي الحديث عند هذا الحد، فأضاف سريعًا:
“متى سنبدأ اختبار المواد؟ أعتقد أنه من الأفضل أن نحدد الموعد مسبقًا…..”
“بصراحة، لا أفهم لماذا أرسلك غريزندورف مع القافلة.”
“……!”
“لسنا بحاجة إليك.”
“…….”
كانت كلماتها الباردة كالسكاكين، تخترق صدره. حتى التنفس صار مؤلمًا.
لكن، وسط كل هذا، أدرك أمرًا واحدًا.
من خلال التقاء الأعين والكلام، استطاع أن يفهم.
إنها لا تعرف. هي لا تملك أي فكرة عن كونه تنينًا.
كارسيون، أيها الوغد.
مهما كانت دوافعك، لقد لبيتَ رجائي في النهاية.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 70"