الفصل 67. مهما تخيلتِ، فالحقيقة تفوق ذلك
“هل تشاجرتما؟”
سألت إيسولا بنبرة هادئة حين شعرت بالجو المتجمد، بعد أن أصبح ليونيل صغيرًا في الأفق.
ضغطت على مشاعري المتفجرة بالكاد، ثم أجبت بإيجاز.
“نعم.”
كان قلبي في فوضى عارمة.
فقط بعد أن قلت لليونيل تلك الكلمات القاسية، أدركت أنها ارتدت عليّ كالسهم، لتطعن قلبي أنا أيضًا.
دعنا نلتقي قبل الموت.
كانت كلماتٍ تقتلع صديقًا يحتل جزءًا ضخمًا من حياتي من صدري. كانت مؤلمة، لكني لم أندم.
كنت غاضبة أكثر من أن أندم.
أخذ حياتي كلها من جذورها، ثم يقول إنه سيعيدها قبل أن تنتهي حياته—ماذا يفترض بي أن أفعل؟
أي علاقة هذه التي تعطيني لغزًا بهذا الحجم؟
كان مجرد التفكير يجعل رأسي على وشك الانفجار.
“يبدو أن ليونيل ارتكب خطأً جسيمًا.”
تمتمت إيسولا وهي تلتقط التوتر الذي مر في لمح البصر. ولم أنكر.
“ارتكب خطأً كبيرًا.”
“كان يبدو كمن يريد الركوع على ركبتيه.”
“بدا كذلك؟”
حين قالت ذلك، بدأ قلبي يلين من جديد.
لا، لا يجوز أن أضعف بهذه السهولة. تماسكي.
عندما رأيت إيسولا تومئ برأسها بعينين متعاطفتين نحو ليونيل، شعرت بقلبي يتقلب بشدة.
آه، حقًا، ليونيل سيجعلني أجن.
يرتكب خطأً لا يُغتفر، ثم يُظهر ندمًا صادقًا لدرجة لا أستطيع أن أكرهه بالكامل.
يبدو أنه بدا بائسًا للغاية، حتى إن إيسولا فتحت فمها من جديد بحذر.
“لم لا تستمعين له على الأقل؟”
“تحدثنا بما فيه الكفاية.”
“هل لا يوجد احتمال للمصالحة؟”
“يعتمد ذلك على ما سيفعله ليونيل.”
“ما الخطأ الجسيم الذي ارتكبه إذن؟”
سألت إيسولا وهي تميل برأسها في حيرة. كان وجهها يقول كل شيء: ليونيل، ذلك الرجل اللطيف والمحبوب، ما الخطأ الرهيب الذي يمكن أن يكون قد فعله؟
مهما تخيلتِ، فالحقيقة تفوق خيالك.
ابتلعت الكلمات التي بلغت طرف لساني، ثم تنهدت تنهيدة عميقة كأن الأرض ابتلعتني.
لم أرغب في الحديث عن ذلك.
لم أعرف حتى من أين أبدأ، أو إلى أين أنتهي.
“الأمر معقد.”
ويبدو أن نبرة الإحباط في كلماتي القصيرة منعتها من السؤال أكثر. وبدلًا من ذلك، غيرت الموضوع بخفة بعد لحظة من الصمت.
“أنا جائعة. ماذا ستأكلين؟”
صحيح.
كنا في طريقنا لتناول الغداء.
إيسولا كانت منهمكة في بحثها، وأنا كنت مشغولة بالتحضيرات قبل الذهاب إلى إقليم إيفلين، فتجاوزنا وقت الغداء.
“لا أدري. سنرى عندما نصل.”
“الآن فقط ستأكلين الغداء؟”
عندها تمامًا، تدخل صوت غير متوقع.
استدار كلانا، إيسولا وأنا، في اللحظة نفسها.
واختلف رد فعلينا تمامًا عند رؤية الشخص الذي ظهر فجأة.
ابتسمتُ بسعادة، بينما شهقت إيسولا وانحنت بسرعة.
“كارسيون! … سموك!”
خرج اسمه مني بلا شعور، ثم تداركت الموقف وأضافت لقبه سريعًا وأنا أنظر إلى إيسولا.
لكن رده كان مذهلًا.
“لا بأس. أعلم أنكما تناديان بعضكم بالأسماء وتتحدثان بدون تكلف. رأيت ذلك.”
“هاه؟”
حدقت فيها بعينين مضطربتين، بينما كانت إيسولا قد وجهت اهتمامها إلى كارسيون وكأنها أنهت كلامها معي.
“سموك، هل أترك لكما المكان؟”
“سأكون ممتنًا إن فعلتِ. سأتكفل بغدائكِ.”
ثم وضع كارسيون عملة ذهبية في يد إيسولا.
يا إلهي، كم يبدو هذا طبيعيًا. ولماذا لا تتفاجأ بأنها تعرف أننا نتحدث ببساطة؟
“آه! لا آكل كثيرًا، لا داعي.”
“أعتقد أنني سأبقيها لبعض الوقت، لذا أرجو أن تخبري المعهد بشيء مناسب.”
“آه… نعم، حسنًا.”
حين فهمت إيسولا أن لديها مهمة إضافية، قبلت الرشوة على مضض.
وبعد قليل، عندما أصبحنا وحدنا، سارعت بسؤاله:
“كنت تعرف؟”
“تعرف ماذا؟”
أجاب كارسيون ببرود مستفز، وكأنه كان يعرف منذ البداية أن إيسولا اكتشفت أمرنا.
“أقصد، بشأن إيسولا.”
“أنا أملك نظرة واسعة. رأيت ما لا يُراد لي أن أراه. حتى في اليوم الذي جئت لأخذك، كُشف الأمر أكثر من مرة.”
“……”
كان يبدو غير مبالٍ تمامًا. وكأن علاقتنا أمر لا بأس بأن يُعرف مبكرًا قليلًا.
راقبت جانبه بهدوء وهو يخطو بخطوات متمهلة، ثم فتحت فمي ببطء.
“ما الذي أتى بك إلى برج السحر؟”
“جئت لرؤيتكِ.”
“لكنها ليست نهاية الدوام بعد.”
أبطأ كارسيون من خطواته. فرفعت نظري إليه بدهشة.
“رينيه.”
“هاه؟”
صوته كان جادًا.
توقفت أنفاسي لا إراديًا، منتظرة كلماته التالية.
توقّف كارسيون تمامًا عن السير، وحدّق بي مباشرة، ثم بدأ بالكلام بنبرة إقناع.
“دعينا نُطلع غريزيندورف على اسمك على الأقل. أن ننتظر هكذا دون فعل أي شيء حتى يعود ليونيل…”
“حسنًا.”
“كنت أحاول أن أضع نفسي مكانكِ، لكن… ها؟ هل قلتِ للتو ‘حسنًا’؟”
“نعم. لنخبر السيّد غريزيندورف ونطلب مساعدته.”
“…ما هذا التغيّر المفاجئ في الموقف؟”
رغم أنه أتى ليقنعني، بدا مرتبكًا عندما وجدني مقتنعة بالفعل.
أطرق كارسيون بعينيه إلى الأسفل قليلًا، ورفرف بجفنيه مرتين، ثم عاد لينظر إليّ.
“جيد. لكن، هل حصل شيء ما؟”
لمعت في عينيه الزرقاوين علامات القلق.
تنهدت قليلًا متأملة، ثم بدأت أتحدث بنبرة ثقيلة.
“عاد ليونيل البارحة.”
“…..”
شعرت بأن كارسيون حبس أنفاسه. وغاص وجهه في جدّية قاتمة.
“بهيئة ريو. سحر التحوّل حقيقي. ورغم أنني رأيته سابقًا، إلا أنني دُهشت مجددًا.”
تابعت حديثي وأنا أستأنف السير. لحق بي كارسيون بخطوات بطيئة يوازي سرعتي.
“قال إنه لا يستطيع كسر ختم الذكريات. فقط سيفعل ذلك قبل أن يموت مباشرة.”
“ماذا؟ هذا كلام لا يعقل!”
“وأنا أيضًا أرى ذلك. فعلاً، كلام لا يُصدق. لذا طردته من المنزل. وقلت له أن لا يأتي إلا عندما يكون على شفير الموت.”
“..…”
رفع كارسيون يده ليغطي فمه. بدا شاردًا في أفكاره. ولعل أفكاره لم تكن بعيدة عمّا يدور في رأسي.
“ما الذي حدث قبل خمس سنوات يا تُرى؟”
“من يدري.”
“قال ليونيل إنه يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا. هذا غير منطقي إطلاقًا.”
“…سبعة عشر؟”
أنزل يده، وحدّق بي بدهشة. وبادلته النظرات، وتنهدت بغير تصديق تعبيرًا عن موافقتي.
“لا أعرف ما الذي يمكنني تصديقه. ربما حتى عمره كذب.”
هززت رأسي نافية، لكن كارسيون نطق بجواب مفاجئ.
“ربما لا يكون كذلك.”
كانت نبرته تحمل برودة نصل.
شهقتُ من الدهشة بصمت. “ربما لا يكون كذلك”؟ هل يُعقل أنه يصدّق ذلك؟
“رينيه، أين يمكنني العثور على ذاك الوغد؟”
“هاه؟”
ارتبكت، وأدرت عينيّ بسرعة، ثم أجبت.
“رأيته في العمل اليوم. صادفته في المختبر قبل قليل.”
وما إن أنهيت كلامي حتى استدار كارسيون على الفور.
نظر نحو مبنى المختبر الذي صار صغيرًا من بعيد، وكأنه سيخترقه بنظراته.
“لماذا؟ هل تشك في شيء؟”
“…لا.”
أجاب كارسيون بذلك، لكن حنجرته انتفضت بشكل ظاهر كالموجة. ثم خفّت حدة نظرته، وعاد ليكمل سيره.
“كارسيون.”
“دعينا نأكل شيئًا. لم تتناولي الغداء بعد، أليس كذلك؟”
“آه، نعم…..”
أجبت بصوت خافت.
رغم أن رأسي كان على وشك الانفجار من التعقيدات، لكن لا بد من تناول الطعام للحصول على طاقة للتفكير. وهكذا تناولنا غداءً غير مخطّط له معًا.
***
بعد أن أوصل رينيه، لم يعد كارسيون إلى القصر الإمبراطوري، بل بقي داخل سور برج السحر.
ذهب للعمل اليوم…؟
“اللعين.”
مستحيل.
لا يمكن.
لا يمكن أن يكون خسيسًا إلى هذه الدرجة.
بمجرد أن سمعتُ أن عمره “سبعة عشر”، خطرت ببالي فرضية واحدة، كادت تدير رأسي من شدتها.
ومع ذلك، كنت أُمنّي النفس بأنها مجرد فرضية خاطئة.
إن كان ليونيل تنينًا… فهل يمكن أن يكون قد تحوّل إلى جرو بسحر التحول فور ولادته؟
وإن كانت رينيه قد وجدت تنينًا حديث التفقيس من البيضة، فربما…
لا يزال هناك الكثير مما نجهله عن التنانين. تلك الكائنات الغامضة كانت تمثل للبشر كائنات أسطورية مخيفة وساحرة.
ما نعرفه يقينًا هو أنهم يتقنون استخدام السحر ببراعة.
“سأعرف إذا تحقّقت من الأمر بنفسي.”
وصل كارسيون أمام مبنى شاهق. نظر للأعلى مرة واحدة، ثم دخل مباشرة.
صعد على منصة تعمل بالسحر، فانتقل بسرعة إلى الطابق العلوي. يبدو أن ليونيل يحظى باعتراف كبير بقدراته، إذ يستخدم طابقًا كاملًا لنفسه.
ما إن فُتح الباب، حتى نزل كارسيون من المنصة دون تردد. ودفع الباب الثقيل الذي استقبله.
ورأى ليونيل، جالسًا بوجه مكتئب أمام مكتبه في المختبر الفسيح الفاخر.
رفع ليونيل رأسه عندما شعر بوجود زائر.
وفي تلك اللحظة بالضبط—
“هاه!”
صوت تمزق الهواء!
كارسيون أطلق على الفور سيف مانا صغيرًا على هيئة خنجر نحو نقاط ضعف التنين. واحدة نحو القلب، وواحدة نحو كل عين.
طِن! طِن! طِن!
الهجمات التي أُطلقت في نفس اللحظة ارتدت بالكامل، وتبددت سيوف المانا في الهواء.
نظر ليونيل إلى كارسيون بنظرة قاتلة، وكأن التحية العنيفة قد أغضبته حتى النخاع.
التعليقات لهذا الفصل " 67"