الفصل 59. تفكير أناني
ربما لأنه كان لقاءً غير متوقع، لكنني شعرت بسعادة غامرة.
“سأوصِل رينيه بنفسي، يمكنك الانصراف الآن.”
أصدر كارسيون أمرًا خفيفًا لإيفان بإنهاء الدوام.
لا أعلم إن كان ذلك قد أسعده، لكن إيفان نظر إليّ وإلى كارسيون بالتناوب ثم انحنى برشاقة.
“إذن، إلى اللقاء.”
وبدون أي مجاملات إضافية، استدار ومضى في طريقه.
لابد أنه كان يتوق للمغادرة.
حسنًا، من وجهة نظره، هذه مجرد مهمة إضافية، لا شيء يستدعي الحماس.
أما بالنسبة لي، فقد شعرت بنوع من الغصة؛ لأنني كنت أستمتع بأحاديثي مع إيفان رغم كل شيء.
كنت أتابع ظهره وهو يبتعد بخطوات سريعة، حين اقترب كارسيون فجأة مني.
“ألم تنظري إليه بنظرة حنونة أكثر مما ينبغي؟”
“ماذا؟ متى فعلتُ ذلك؟”
ما الذي يقوله هذا الآن!
خرج صوتي عالياً دون قصد، فاسترعت ردّة فعلي أنظار المارة من حولنا. احمرّ وجهي خجلاً.
تباً.
منذ الحفلة الراقصة ولم يمر يوم دون أن تلسعني الانظار.
خفضت صوتي سريعًا ووبخت كارسيون بنبرة خافتة.
“لماذا تقف هنا هكذا في العلن؟ بسببك أنا بالفعل على حافة الاستقالة بسبب الشائعات.”
“استقالة؟”
“شش!”
رفعت سبابتي لأكمم فمه.
كنت أُهمس بالكاد، فكيف له أن يصرخ هكذا بلا وعي؟
نظرت حولي بتوتر لأتأكد إن كان أحد قد سمع.
في هذه الأثناء، عاد كارسيون ووقف باستقامة.
لحسن الحظ، بدا أن مسألة استقالتي ليست ضمن اهتمامات الحشود، بل كانوا فقط ينظرون إليّ وأنا أقف بجانب كارسيون بنظرات فضول.
علينا مغادرة هذا المكان بسرعة.
“لنذهب بسرعة. ألم تقل أنك ستوصلني؟”
حين استعجلته، ردّ كارسيون بتردد وكأنه غير حاضر الذهن، “آه، نعم…”
كان يتظاهر بالانشغال بشيء ما، بينما كان يلمس شفتيه بإبهامه وهو يتفادى النظر إلي.
ما به الآن؟
“……!”
ما إن أملت رأسي باستغراب حتى ارتسمت في ذهني لحظة التقبيل على السطح.
وفي اللحظة ذاتها، شعرت بإصبعي الذي كان قد لامس شفتيه في تلك اللحظة وكأنه يحترق.
“هـ، هيا نذهب للبيت، أليس كذلك؟”
“نعم، لنذهب، الآن حالاً، إلى البيت.”
ردّ كارسيون برأسه الذي كان يومئ مثل فتى صغير، ونظراته تلامسان شفتيّ للحظة ثم تهربان.
***
الطريق من برج السحر إلى المنزل كان قابلاً للمشي بسهولة.
انتهى صخب المهرجان، وبدأ عبير الخريف يتغلغل في الأجواء.
وبيننا، في الممشى الذي تتخلله الأشجار المصبوغة بالضوء الدافئ، بقيت مسافة متر محرج من الصمت.
خطواتنا تتردد في الشارع.
أثناء الإصغاء لأصوات الخطى، رفعت رأسي أنظر إلى الأوراق التي تحولت للون الأصفر.
حينها سمعت صوت كارسيون.
“هل كان إيفان يوصلِكِ بشكل جيد؟”
ما يقول؟ يبدو أن كلامه يحمل معنى خفيا.
هل يزعجه أنني كنت أنظر لظهر إيفان قليلاً قبل قليل؟
نظرت إلى تعابير وجه كارسيون.
من الواضح أنه منزعج، لكنه يحاول التظاهر بعدم المبالاة.
بل بدا لي ذلك لطيفًا بعض الشيء.
ضحكت في داخلي، وأجبت بصوت هادئ.
“نعم، أوصلني بأمان.”
“هل كنتما تمشيان عبر هذا الطريق كل يوم؟”
“نعم. كنا نمشي سويًا هنا كل يوم.”
“..…هكذا إذًا.”
تعكّرت ملامح كارسيون وهو يتمتم بذلك.
هو من أمر بأن يرافقني، والآن يغار؟
عندما رأيت شفتيه تنفرجان بخفة، لم أتمالك نفسي من الرغبة في ممازحته.
ابتسمت بخبث، ثم قلت ما قد لا يعجبه.
“في البداية كنت أخاف دوق هيلغريت، لكن بعدما تحدثنا كثيراً، أعتقد أننا أصبحنا قريبين.”
“هو فعلاً مخيف. لا تغتري.”
“حقاً؟ شكله يوحي بالبرود، لكن الحديث معه كان لطيفًا.”
“لا أظن أنه كذلك.”
“أراه شخصًا طيبًا.”
“تعبير مبالغ فيه لرجل خطير مثله…”
“لهذا السبب تحتفظ به بقربك، أليس كذلك؟”
“..….”
توقف كارسيون فجأة عن الرد بعد أن كان يجيب على كل شيء.
نظرت إليه، فوجدته يعبّر بتعابير معقدة.
“حسنًا، هو فعلاً شخص يمكن الوثوق به.”
“يعرف عنك الكثير.”
“..…؟”
“كنت أسأله عنك في طريق العودة من العمل. كنتُ أتساءل كيف كنتَ تقضي وقتك.”
“..….”
انخفض بريق عينيه الزرقاوين فجأة.
لا أعلم إن كان يستعيد ذكرياته، أم يعيد تقييم علاقته بإيفان، لكنني رأيت حنجرته تتحرك عدة مرات بصمت.
حين انتهى ممر الأشجار وبدأ الشارع الرئيسي، فتحت فمي مرة أخرى.
“كنت أشعر بالارتياح.”
“ممَ؟”
“أن هناك شخصًا يمكن الوثوق به إلى جانبك. أن هناك من يقف في صفك.”
ردّ كارسيون بصمت ثم تنهد طويلاً.
وبعينين مليئتين بالعواطف، نظر إليّ وقال:
“أنتِ أهم من الجميع.”
“تـش.”
خرج مني صوت لا إرادي، بينما كانت عيناي تضحكان رغماً عني.
لم أكن منزعجة.
إحساس أن كارسيون يضعني في الأولوية فوق الجميع غمرني بالسعادة.
“عليكِ أن تستردي مكانكِ قريبًا.”
خرجت منه هذه الجملة فجأة.
مكاني…
رينيه إيفلين. ابنة عائلة إيفلين التي اختفت دون أن تترك أثراً.
هل يمكنني العثور عليه؟
نظرت إليه بعينين معقدتين.
“لاحقًا فقط.”
“لماذا؟”
“لأنه من الصعب إثباته. وهناك أشياء أهم الآن.”
“أهم من هذا؟ ما الذي يمكن أن يكون أهم من هذا؟”
سأل كارسيون بنبرة لا تُخفي حيرته.
في ذهني، ظهر لي وجه ليونيل.
كنت بحاجة لرؤيته والتحدث معه.
هو من أنقذ حياتي، وهو من سرقها حين ختم ذكرياتي.
ما مكانته في قلبي؟
لا أعرف إن كنت أكرهه أم أقدّره، ولا أستطيع تحديد مشاعري تجاهه.
لكن ما أعلمه تمامًا، هو أن حياتي لا يمكن شرحها من دون ليونيل.
هو من خلق الفراغ الأكبر فيها، وهو من يملأه.
“عليّ أن أستعيد ذاكرتي أولاً.”
قلتُها بحزم، فرأيت اضطرابًا في عيني كارسيون.
حرك شفتيه مرات عدة، ثم نطق بنبرة ثقيلة:
“حتى إن لم تستعيدي كل شيء، لا بأس.”
لا بأس…؟
ما هذا الكلام…
“يكفيني أنكِ رينيه. هذا وحده كافٍ بالنسبة لي.”
“كارسيون.”
شعرتُ وكأن صخرة ضخمة تسحق قلبي.
رغم أنه لم يشرح شيئًا، عرفتُ تمامًا ما الذي يقصده بكلامه.
هذا الأحمق، بحق.
“أليس هذا تفكيرًا أنانيا جدًا؟”
“هاه؟”
“أنا أيضًا أريد أن أعرف. أريد استعادة طفولتي، أريد أن أتذكر أمي وأبي، وأريد أن أعرف كيف فقدت خمس سنوات من حياتي، وما الذي أدى إلى ذلك.”
“لكن الألم الشديد…”
“حتى لو اضطررت لتحمل ذلك الألم، أريد أن أستعيد حياتي.”
“لقد فقدت وعيكِ بسببها. لا، لا يمكن.”
“كارسيون، هذه حياتي التي نتحدث عنها.”
“لكن… أنتِ على قيد الحياة، أليس هذا يكفي؟”
“ذكرياتي اختفت بالكامل، فهل يكفي فقط أن أتنفس؟ هل يعقل أن أعيش بينما ما يُكوِّنني قد اختفى؟”
“هذا يكفي. طالما أنكِ ما زلتِ تتنفسين، فهذا يكفي.”
“ما الذي تقوله…”
نظرتُ إليه بعينين مضطربتين.
لم أقصد أن ينقلب الحوار بهذا الشكل، لكن كلانا بدا متفاجئًا بنبرة الحديث التي أصبحت خشنة.
تفجرت حنجرة كارسيون بتلك الموجة العنيفة، كأنه كان يحاول ابتلاع شيء يؤلمه.
“أنا أقصد…”
بدأ يحاول التوضيح، لكنه رفع يده فجأة ليغطي فمه. ولم يتمكن من إكمال جملته.
عيناه الزرقاوان غطاهما ظلٌ ثقيل، تجعد جبينه بعمق،
وزفراته خرجت من بين أسنانه محمّلة بكمٍّ هائل من الحزن.
كل تلك التفاصيل جعلت قلبي يؤلمني. مشاعره المكبوتة كانت شديدة القسوة عليه.
هبط علينا صمت غير مريح بعد توقف الحديث المفاجئ.
خطواتنا على الرصيف وضجيج الشارع من حولنا كانا المتنفس الوحيد في هذا الجو المربك.
وبينما كنا نشارك هذا الصمت الثقيل، وجدنا أنفسنا نصل إلى باب منزلي.
عضضت شفتاي السفلى، ثم رمقته بطرف عيني، ثم خفضت نظري نحو الأرض.
هذا ليس ما أردته.
اشتقت إليه كثيرًا، لكننا سنفترق الآن وسط هذا الجو المزعج.
ولا أعرف متى سنلتقي مجددًا.
“…شكرًا لأنك أوصلتني. سأدخل الآن.”
“مم.”
رد كارسيون، فأخرجت المفتاح ببطء.
أدرته، فتحت الباب… هل هذا وداعنا فعلاً؟
أشعر أننا بحاجة للمزيد من الكلام.
لكن ماذا لو تحدثت وازداد الأمر سوءًا؟
هل يمكننا الاتفاق حول استعادة الذكريات؟
كان قلبي يحترق من القلق.
“رينيه.”
قبل أن أغلق الباب، جاء صوته من خلفي.
أسرعت بفتحه مجددًا على مصراعيه.
“نعم؟”
“كنتِ على حق.”
تسلل صوته إلى قلبي كطعنة مفاجئة، فأخذت شهيقًا خفيفًا.
بدا كارسيون متوترًا، وكأنه طفل ينتظر عقابًا.
ثم بدأ يبوح بمشاعره رويدًا رويدًا.
“إذا كان بالإمكان استعادة كل ذكرياتك، فحينها نعم، يجب أن تفعلي. لم أفكر في موقفكِ. لكن…”
عضّ شفته السفلى وأكمل بصعوبة:
“لكن لا تفعلي ذلك قسرًا. في المرة السابقة، شعرت أنكِ ستموتين… ألم الإغماء ذاك… أنا فقط… أعني…”
كلماته كانت مبعثرة، بلا ترتيب. ثم أخفى وجهه بكفّه، كأنه على وشك البكاء. فلم أستطع قول شيء.
“كارسيون.”
مددت يدي ببطء ولففت أصابعي حول يده التي تغطي وجهه.
رفع عينيه إليّ.
أمسكت يده جيدًا وسحبته إلى الداخل. الرجل الضخم تبعني كحَمَل وديع.
طَقطَقة.
صوت إغلاق الباب بدا عاليًا بشكل غريب.
تلاقت نظراتنا بشدة، ولا زلت أمسك يده بإحدى يدي، والأخرى لامست وجنته بحنان.
“لن أضغط على نفسي. سنبحث عن طريقة معًا.”
“رينيه.”
وضع كارسيون يده فوق يدي التي تلامس وجهه.
“امم.”
همستُ بإجابة خفيفة على ندائه.
ثم دفن وجهه في كتفي. أنفاسه المرتاحة دغدغت عنقي، وأشعرتني بدفءٍ خافتٍ مطمئن.
التعليقات لهذا الفصل " 59"