كان مكتب كارسيون مكتظًا بتقارير الأحداث والحوادث التي وقعت أثناء مهرجان التأسيس، وقد أمضى فيه وقتًا طويلاً.
يبدو أن عليه التوقف عن تولي مسؤولية أمن العاصمة.
حين لم يكن لديه ما يشغله، كان التلهي بهذا النوع من الأعمال يساعده على الاستمرار، لكن الآن أصبح لديه العديد من الأمور ليقلق بشأنها.
فكر في أنه يجب عليه العثور على شخص مناسب وتفويضه بالمهمة، ثم حوّل نظره إلى النافذة لبرهة.
أطلق تنهيدة منخفضة وهو يتأمل الغروب المتوهج بلون أحمر.
خطر بباله ليونيل، الذي أفلت من يده قبل بضعة أيام.
من كان يتخيل أنه سيشاهد سحر التبدّل الأسطوري بأمّ عينه؟
وبعدها، جاءه أولاند ليشرب معه، وأكّد له أن يد ليونيل قد تحوّلت إلى يد جرو، لتكون الضربة الحاسمة.
“كان حقاً ريو…”
رغم أنه كان يشعر بذلك، إلا أن التأكد الفعلي كان أمرًا مختلفًا تمامًا.
تنفّس كارسيون بعمق وأطلق الزفير ببطء.
في البداية، ركّز غضبه على ما فعله ذلك الشخص برينيه فقط.
بدا له مجرمًا شريرًا لأنه تجرأ على ختم ذكرياتها.
لكن كلما أمعن التفكير، كل شيء بدا غير منطقي.
في المقام الأول، لماذا كان شخص يمتلك القدرة على استخدام سحر التبدل يعيش كجرو؟
بل كم من الوقت احتاج ليصل إلى هذه المرحلة من التمكن؟ كم يبلغ عمره أصلاً؟ قد يكون أكبر حتى من غريزندورف.
كلما فكّر في الأمر، بدا الأمر مقززًا أكثر.
لا يمكن أن يكون جدها مثلاً؟
ارتجف كارسيون من تصوّر مرعب كهذا وهزّ رأسه بسرعة.
كل ما كان يتمناه ألا يكون من أولئك المنحرفين على مستوى آخر تمامًا.
في تلك اللحظة، سُمع صوت طرق على الباب.
وحين أذن له بالدخول، ظهر إيفان.
“ماذا عن رينيه؟”
“كنت عائدًا للتو بعد أن أوصلتها للمنزل بسلام.”
“فهمت.”
طلب منها أن تبقى في قصر بريتن، لكنها رفضت في النهاية.
قالت إنها ستبقى لحراسة المنزل، فربما يعود ليونيل في أي لحظة.
وكان هذا قرارًا لا يمكن اتخاذه إلا إن كانت لا تعتبر ليونيل شخصًا خطرًا.
وفي تلك النقطة، وافقها كارسيون إلى حد ما.
“سموك”
أسند إيفان جسده إلى حافة النافذة وفتح فمه قائلاً:
“هل نبحث عنه؟”
وكان من البديهي أن المقصود بـ “ذلك الشخص” هو ليونيل.
تردّد كارسيون للحظة، ثم هز رأسه نافيًا.
“لا.”
“هذا مفاجئ. كنت أظن أنك ستأمر بملاحقته فورًا واستجوابه.”
بالنظر إلى ما فعله في العامين الماضيين من تمشيط سلسلة جبال دنيبروك بجنون، لم يكن ذلك مستبعدًا.
خاصة حين نتذكّر كيف وزّع صور رينيه إيفلين في كل مكان.
وطبعًا، كارسيون لم يتغير.
لا يزال هو كما هو.
فمشاعره قد وصلت بالفعل إلى حدّ تعميم مذكرة اعتقال ليونيل في أنحاء المملكة.
لكن…
حين يتبع تساؤلاته التي لا تنتهي بشأن ليونيل، لا يستطيع ببساطة أن يقبض عليه.
لم يكن واثقًا إن كان ذلك هو التصرف الصائب.
لماذا أخفى رينيه وتوارى عن الأنظار؟
لماذا ارتكب فعلاً قاسيًا مثل ختم ذكرياتها؟
هل كان ضروريًا أن يحتكرها إلى هذا الحد حتى جعلها تفقد ذاتها؟
هل اسمه الحقيقي ليونيل فعلاً؟
اسم ريو الذي نادته به رينيه، لا بد أنه لم يكن اسمه الحقيقي.
ما هي هويته الحقيقية إذًا؟
“…اتركه وشأنه في الوقت الحالي.”
غاصت نظرة كارسيون الزرقاء العميقة في الظلام.
كانت عيناه لا تنظران إلى الحاضر، بل إلى الماضي، قبل خمس سنوات.
حين دُمّرت مقاطعة إيفلين تمامًا تحت هجوم التنين الأسود.
كل مكان عبره نَفَسه الناري انصهر بلا رحمة، وكل موقع داسته جثته الهائلة تحطّم كليًا.
الجميع ماتوا.
في ذلك الوقت، فقد صوابه.
فقد كان يظن أنه لن يستطيع العيش بدون رينيه.
ولذا راح يبحث بجنون، يوزع صورها في كل مكان.
لكن عقله كان يعرف الحقيقة.
لم يكن ممكنًا أن ينجو أحد من تلك الأنقاض.
ومع ذلك، نجت.
فقط رينيه بقيت على قيد الحياة.
ولم يكن هناك أدنى شك في أن من حقق تلك المعجزة هو ليونيل.
لكن… كيف كان ذلك ممكنًا؟
بينما تتعمق الأسئلة في قلبه، بدأ الليل يسدل ستاره.
راح إيفان يقدّم تقريرًا عن بعض الأمور المتعلقة بحماية رينيه، مثل ما حدث لها في برج السحر، وبعض تحركات ولي العهد.
لم تكن هناك أية أمور تستدعي القلق في الوقت الراهن.
وبعد مغادرة إيفان، خيّم صمت ثقيل على المكتب الذي خلا من البشر.
وبينما كان كارسيون يحدق في الخارج، الذي أظلم تمامًا، ارتسم الحزن على ملامحه.
كان يحاول ألا يفكر، لكن بمجرد أن يتراخى قليلاً، تعود تلك الآمال المكبوتة في داخله لتطفو مجددًا.
رينيه…
أتمنى لو كنتِ تتذكرينني أكثر…
لقد توقف عن تقليب كتب السحر.
وتوقف عن محاولاته استرجاع ذكرياتها بأي وسيلة.
فقد أصبح من المستحيل عليه أن يشاهدها تتعذب أكثر.
حتى بالنسبة له، كان ذلك تعذيبًا.
تلك اللحظة من سبع سنوات، حين شاهدا عرض الألعاب النارية معًا.
لو أنها تذكّرت تلك اللحظة فقط، لكان ذلك كافيًا.
أما باقي الذكريات، فعليه أن يحتفظ بها لنفسه وحده.
****
في ظلمة الليل.
في قصر “ريوس” حيث يقيم ولي العهد، كان هناك زائرٌ خاص.
الرجل الذي أفرغ كوب الشاي الساخن دفعة واحدة، حدّق بعينَيه السوداوين في أوستين الجالس أمامه.
“يبدو أن رأيك قد تغيّر الآن.”
من يجرؤ على مخاطبة ولي العهد بتلك اللهجة؟ بل حتى نبرته كانت متعجرفة إلى حد كبير.
لو رأى أحدٌ هذا المشهد، لانخلعت عيناه من مكانهما، خاصةً وأن مظهر الزائر لم يكن يختلف كثيرًا عن متشرد.
لكن أوستين لم يتطرّق إلى وقاحته. بل على العكس، عامله كضيفٍ كريم.
فالعُرف في هذا العالم أن المحتاج هو من ينحني، بغض النظر عن مكانته.
رغم أن الرجل الجالس أمامه قد لا يضع وزنًا أصلاً لما يُسمى “مكانة اجتماعية”.
“هل صحيح أنك قادر على الإطاحة بكارسيون؟”
“تظاهرتَ بعدم حاجتك إلى مساعدتي، لكنك لست بالكثير أيضًا يا ولي العهد.”
“… فقط قل لي كيف تنوي الإطاحة به.”
تمتم أوستن ببرود، لكن لم تكن نبرته متعجرفة تمامًا. فالرجل المتشرد أمامه كان من القوة بحيث لا يضاهيه أحد حتى في فرسان “وينغر” المسؤولين عن حماية ولي العهد.
“هادِيس.”
حتى اسمه ينبعث منه عبق الموت.
نادى أوستين اسمه بينما كان يحدّق فيه، وكأنما يستعجله.
عقله كان يسترجع اليوم الذي جاءه فيه هادِيس لأول مرة.
<أريد قتل كارسيون، وجئت أطلب تعاونك. بدا لي أنك الأنسب.>
<ماذا؟ من هذا المتشرد الذي يزعم أنه سيقتل أميرًا؟>
<يا لك من بشري متعجرف.>
في تلك اللحظة، انبعث من هادِيس هالة خانقة طغت على المكان. وتحولت تلك الهالة المركّزة إلى سيفٍ مهدّد، موجّه نحو عنق أوستين.
في لحظةٍ واحدة، سُحق أوستين بالكامل. حتى التنفّس نسيه.
هذ… هذا سيف مانا…؟!
<أستطيع قتلك الآن ومن دون مساعدة أحد. لكن كارسيون مختلف. لو كنت قد استعدت قوتي كاملة، لما اضطررت إلى طلب معونتك.>
وبينما يتمتم بكلماتٍ مبهمة، تراجع هادِيس وأخفى سيف المانا، كأنه قد أدّى ما يكفي من تهديد.
ثم غيّر نبرته فجأة إلى لهجة هادئة بشكلٍ يثير النفور، وعرض اقتراحًا.
<كونك ولي العهد، يمكنك على الأقل إزالة فرسان توتين من أراضي إيفلين. أليس كذلك؟>
<تح… تحريك الجنود ليس بالأمر السهل. ثم إن الإطاحة بكارسيون لا تحتاج إلى مساعدتك أساسًا، سأتدبّر أمري وحدي.>
كانت صوته يرتجف من القهر، ورغم جهده للمحافظة على هيبته، رفع رأسه بجمود.
<هوووه.>
ويبدو أن ردّه راق له، فقد اكتفى بأن قال له أن يحاول إذًا.
ومع ذلك، ترك له هامشًا من الاحتمال.
<خُطتي ستكون أكثر متعة. إن غيّرت رأيك، تعال وابحث عني هنا. قل فقط إنك تبحث عن هادِيس.>
ثم ترك ورقةً عليها عنوان، وغادر.
في ذلك اليوم، سَخر أوستين في داخله من عرضه. ظنّ أن الإطاحة بكارسيون أمر سهل يمكنه فعله متى شاء، دون الحاجة إلى التحالف مع مجهول الأصل مثل هادِيس.
وكم كان مخطئًا.
“عرضي لا يزال كما هو. أبعد فرسان توتين عن هناك. فإقليم إيفلين سيكون ساحة الانتقام.”
“وهذا كل ما تريده؟”
سأل أوستن بينما كان يحدق بهادِيس. فلتغيير مقرّ إقامة الفرسان، لا بد من وجود مبرر مناسب. ولحسن الحظ، خطر بباله سببٌ معقول.
“أمرٌ آخر.”
في تلك اللحظة، رفع هادِيس سبابته الطويلة وابتسم ابتسامة ملتوية.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 57"