بينما كان يبدل ملابسه على عجل، أخذ كارسيون يفكر. مقارنة بسبع سنوات مضت، جدول اليوم انقلب رأسًا على عقب.
لكن لا يمكنه البقاء في القصر الإمبراطوري حتى يحل الليل، وهذا كان جنونًا بحد ذاته.
<لقد حان الوقت لتتدخلي، يا جلالة الإمبراطورة. أرجو أن تقنعي جلالة الإمبراطور جيدًا.>
<…في مثل هذا الوضع؟>
<أرجوكِ.>
رغم أنه ترك الأمور للإمبراطورة إليزابيث بصوت حازم، لم يكن يؤمن بأنها ستنجح في إنهائها جيدًا.
في ظروف أخرى ربما، أما الآن بعد أن أشعل نيران الغضب في قلب هاينريش الثالث، فالوضع مختلف تمامًا.
كان عليه مغادرة المكان قبل أن يرسل الإمبراطور الغاضب أحدًا إلى قصر بريتن.
تحرك كارسيون دون تردد.
دق، دق.
“لينا، هل انتهيتِ من التجهز؟”
“آه، في الحقيقة… أحتاج بعض المساعدة…”
عند سماع صوتها المتوتر، تفاجأ كارسيون قليلًا. كان عليهما الإسراع في الخروج…
“…سأدخل.”
لم يأته رد من الداخل. فاعتبر الصمت علامة موافقة وأدار مقبض الباب.
عندما دخل، رأى رينيه تتلوى وهي تحاول خلع الكورسيه دون جدوى.
بوجه محمر كالطماطم، قالت بتردد:
“المكان لا يمكنني الوصول إليه بيدي… فقط افك الربطة من هذا الجانب…”
“…ابقي مكانك.”
تنهد كارسيون بعمق وتقدم نحوها.
لم يسبق له خلع كورسيه لامرأة من قبل.
بدا معقدًا، لكنه في الحقيقة كان تكرارًا بسيطًا لنمط واحد.
أمسك بالخيط المترهل في المنتصف.
ملمس الشريط على أطراف أصابعه كان غريبًا. وكأن قلبه قد انتقل إلى أطراف أصابعه، حيث بدأ الإحساس يشتعل هناك.
سحب… وسحب…
مع كل عقدة يفكها، أصبح الكورسيه أوسع.
شعر أن رينيه تمسك مقدمة الكورسيه بكلتا يديها وكأنها تصلي، وتضغط عليه بشدة.
هل كان التنفس دائمًا بهذه الصعوبة؟
مع شعور بنفاد الأكسجين، حاول كارسيون تهدئة أنفاسه حتى لا تسمعها.
وعندما مرّ الخيط عبر آخر ثقب، انفك الكورسيه على الجانبين.
أدار كارسيون رأسه بسرعة.
“…انتهيت.”
“شـ، شكراً لك.”
لم يرَ وجهها، لكن أذنيها كانتا بلون أحمر قانٍ.
كارسيون قبض يده ثم بسطها، وزفر أنفاسه الحارة بهدوء.
“سأنتظركِ بالخارج.”
قال جملة مقتضبة وغادر بسرعة.
طَق.
بعد أن أغلق الباب خلفه، أسند رأسه عليه.
“سأفقد صوابي…”
هذا لم يحدث قبل سبع سنوات.
في كل مرة يحاول إعادة تفاصيل ذلك اليوم، يظهر له عائق جديد.
رغم أنه لم يكن يتوقع إعادة الأمور بحذافيرها… لكن هذا…
“هاه…”
أغمض كارسيون عينيه ببطء.
بشرتها البيضاء ما زالت تلوح في ذهنه.
***
“آخ…”
استعاد ليونيل وعيه وهو يشعر بألم ينبض في رقبته.
آخر ما يذكره كان الجدال الصباحي بشأن الذهاب إلى العمل، ثم وصول رجال كارسيون…
<أنا المسؤول عنك.>
<ومن تكون أنتَ…>
<أنا المعلم العظيم للأمير الأعظم.>
<اوه!>
تلك كانت آخر ذكرياته.
بما أنه فقد وعيه، فبالتأكيد فات يوم العمل اليوم؟ هل أخبروا برج السحر أنه في إجازة مرضية؟ هل أنا الآن عند طبيب؟ لكن لماذا لست مستلقيًا على سرير بل على شيء صلب؟
بدا له أن هناك شيئًا مريبًا، ففتح عينيه ببطء.
بدأت الرؤية المشوشة تتضح تدريجيًا، فظهر أمامه الخشب.
وضجيج صاخب يملأ أذنيه.
حتى لو أراد التفكير بإيجابية، هذا لم يكن منزل طبيب أبدًا.
“تبا…”
رفع جسده وأخذ يتلفت حوله. عندها تحدث رجل كان جالسًا أمامه بتفاخر:
“كنت مرهقًا على ما يبدو؟ جعلناك تنام قليلًا، لكنك نمت طويلًا.”
“…!”
تجعد وجه ليونيل كصفحة ورقية.
“أنت…”
تمتم بغضب ورفع حذره فورًا.
أولاند، الذي درّس كارسيون فنون السيف منذ أيام وجود إقليم إيفلين، لم يكن شخصًا يستهان به.
الآن فقط أدرك أنه في حانة.
زمجر ليونيل:
“تخدرني ثم تحضرني إلى حانة؟ لديك معدة قوية فعلًا.”
“أتشرب كأسًا؟”
رفع أولاند كأس الشراب بابتسامة مرحة، لكن ليونيل لم يرَ في الأمر سوى استفزاز واضح.
“عليّ رؤية لينا حالًا.”
“أوهوه.”
شَد! طَق!
“…!”
نهض ليونيل بتوتر، لكنه عاد للجلوس مجددًا.
أولاند أخرج خنجرًا من بين ملابسه ورماه.
طرف رداء ليونيل، الذي كان مستندًا على الطاولة، تم تثبيته بطرف الخنجر على الخشب.
لو انحرف قليلاً، لكان الخنجر استقر في ذراعه.
تسلل العرق البارد على ظهره.
“أين ستذهب وأنت لا تعرف مكانها؟ دعهما يستمتعان معًا. أضيف لنا زجاجة أخرى من رم جبل غازني، من فضلك!”
طلب أولاند شرابًا قويًا بكل برود، ورفع زوايا فمه كالشرير.
“دعنا نتشارك كأسًا، لروحان وحيدتان.”
“ومن قال إنني وحيد؟ لدي لينا…”
“رينيه ذهبت مع كارسيون بكل رضا. لقد تخلت عنك.”
“….!”
ارتعش ليونيل بشدة وهو يعض على أسنانه.
ثم بصعوبة نطق بجملة واحدة:
“اسمها لينا.”
“أجل، أجل.”
أولاند استقبل الأمر بلا مبالاة، وصب له كأسًا من النبيذ.
“ها، اشرب. الحب الفاشل يُغسل بالنبيذ.” (معلومة خاطئة جدا)
اشتعل غضب ليونيل، فرفع الكأس وشربها دفعة واحدة.
هتف أولاند: “هكذا! ممتاز!” وهو يملأ الكأس الفارغة مجددًا.
بعد ذلك، انتقل الاثنان إلى الحانة الثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة…
استمرا في التنقل بين الحانات وشرب الكحول.
كان مشهد الرجلين وهما يتعانقان ويمشيان مترنحين في الشوارع ليلاً جديرًا بالمشاهدة.
“هيّا، لنبحث عن الحانة التالية!”
“أنا… أنا من كنت دائمًا أحب لينا أولا…”
“أعرف، أعرف. أعرف كل شيء.”
ربّت أولاند بلطف على قلب الشاب المتألم وسأله:
“منذ أيام كنتَ ريو، كم كنتما لا تفترقان، أليس كذلك؟”
“بالضبط…”
“كنتَ توقظ رينيه من النوم بقدميك الظريفتين هذه، وتركل كارسـيون على ظهره وتنثر عليه التراب.”
“نـنعم… بهذي القدمين…”
“أيام جميلة كانت.”
لكن بعكس نبرة صوته المستغرقة في الذكريات، ومضة دهشة مرّت في عيني أولاند.
هل يسمي هذا خطأً من ساحر ثمل؟ يد ليونيل تحوّلت إلى يد كلب.
“يا للمفاجأة.”
كان يظن أن هراء كارسـيون ليس إلا مزاحًا، لكنه كان حقيقيًا.
حتى أولاند، لم يرَ من قبل سحر التحوّل الأسطوري يتحقق أمام عينيه.
أخفى دهشته بصعوبة، وشدّ ذراعه حول كتف ليونيل بقوة أكبر.
“هيا، هذا مجرد البداية! لدي حانة رهيبة جهزتها خصيصًا لهذا اليوم!”
***
في الشوارع، كان الموسيقيون يعزفون أوتار آلاتهم ويطلقون ألحانًا مبهجة من مزاميرهم.
موظفو الحانات يستعرضون مهاراتهم وهم يحملون عشرة كؤوس بيرة دفعة واحدة بلا توقف.
في كل مكان، كان الناس يثرثرون بصخب، يتحدّون بعضهم في الشرب حتى آخر قطرة، يرقصون ويغنّون بلا نهاية.
حقًا، كان اليوم الأخير من المهرجان. والجوّ بلغ ذروته من الحماس.
لم نكن أنا وكارسـيون قد شربنا، لكنّنا انسقنا مع حرارة الشارع وبدأنا نرقص سويًا.
كوّنا دائرة ورقصنا على الإيقاع المتسارع، نخبط بأقدامنا على الأرض.
“آهاها!”
“المكان هنا أمتع من قاعة الحفلة!”
ضحكتُ حين رأيت كارسـيون يضحك بصوتٍ عالٍ وهو يرقص مع غرباء.
وفي تلك اللحظة، صعد شخصٌ فوق طاولة وصرخ: “وووه!”
فوجئنا ونظرنا نحوه، فإذا به يفتح زجاجة خمر ويبدأ برشّها في كل الاتجاهات بحماس.
تبع ذلك صراخ يشبه الهتاف ملأ المكان.
“آآآه! ثيابي تبللت!”
“أوه، لقد أصبحت لزجة.”
كنت أضحك بمرح، لكن كارسـيون عبس، وكأن هذا النوع من الفوضى يثير اشمئزازه.
حاول أن ينفض عن نفسه البلل، لكن دون فائدة.
“هيا نغادر!”
صرخ كارسـيون وسط الضجيج.
“لماذا؟ دعنا نستمتع أكثر!”
لم أكن أريد أن أغادر هذه الأجواء.
على عكس حفلة القصر الخانقة، هنا لم أكن مضطرة لأن أهتم بأي أحد.
الحرية كانت تحتويني بالكامل. لا حاجة للتفكير بمن حولي، أو التظاهر، أو القلق.
كل ما عليّ فعله هو الاستسلام لهذه اللحظة.
“علينا أن نذهب الآن.”
وحين كررها، بدا أنه جادّ فعلًا. فتنهدت ونظرت إلى يده التي كانت تمسك بيدي.
قلبي خفق بشدة.
كسمكة سلمون تشق التيار، اجتزنا الزحام معًا.
“لا أعلم ما خطتك القادمة، لكن يجب أن تكون أكثر متعة من هذا.”
رميت التهديد مازحة بنبرة مرحة، فابتسم كارسـيون بثقة ونظر إلي من فوق كتفه.
لأننا خرجنا من الحفل أبكر مما توقع، صار لدينا وقت فراغ قبل الموعد التالي في جدوله.
وهكذا صرنا نتمشى ونستكشف، حتى فقدت نفسي كليًا في مهرجان الشارع هذا.
لكن لا يمكنني أن أترك ما جهّزه كارسـيون يضيع سدى.
مشينا في شوارع الليل، ومشينا أكثر.
لا أعلم كم مضى من الوقت.
ولكن فجأة، بدا المهرجان وكأنه صار في عالمٍ آخر، بعيد عنّا.
“هل ضللنا الطريق؟”
ربما لأن المكان صار نائيًا. بدا موحشًا قليلًا.
كارسـيون ابتسم بمكر ورفع حاجبه، وهو يستحضر لحظة محرجة من ماضيّ.
“أين ذهبت تلك الشابة الشجاعة التي كانت تبحث عن منزل في موحش أكثر من هذا؟”
آه…
شعرت بيدي تشدّ على يده دون وعي، من شدة التوتر. وحين أدركت ذلك، خجلت وحاولت التراخي.
لكنه شدّ قبضته أكثر بدلًا من تركها.
نظرت إليه بعينين ترتجفان.
وحين التقت عيناي بالعيون الزرقاء التي تبعث على الطمأنينة، لم أعد أخاف من هذا الزقاق المظلم.
نعم…
سأدع هذا اليوم بين يديه بالكامل.
كأن كارسـيون هو الذي يقود الفتاة التائهة بداخلي.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 53"