منذ الفجر، لم يستطع كارسيون أن يغمض له جفن من شدة التوتر. حتى كتب السحر التي كانت تشغله مؤخرًا ما عادت تثير اهتمامه.
الجسد الذي بالكاد كان يصمد بالغفوات القصيرة، بدا اليوم أكثر نشاطًا، كأن شيئًا فيه استيقظ.
“هووف.”
تنفس كارسيون بعمق ليحافظ على رباطة جأشه.
انعكس شكله مرتديًا بذلة الحفلات في المرآة. وبعد أن صرف جميع الخدم، بقي وحيدًا لبعض الوقت.
استعاد ذكريات ظهوره الأول إلى جانب رينيه عندما كان في السادسة عشرة من عمره.
رغم مرور سبع سنوات، إلا أن بعض اللحظات لا تزال محفورة في ذاكرته بوضوح غريب. وهذا ما يدل على أن ذلك اليوم كان مميزًا جدًا بالنسبة له.
<كارسيون، كيف أبدو؟>
في قصر بريتن، هنا بالضبط.
استحضر صورة رينيه في ذلك اليوم البريء، وهي تتزين بمساعدة الوصيفات منذ الصباح.
<……>
عندما يكون الجمال طاغيًا، لا يسعك حتى أن تنطق.
كانت كالفراشة وهي تدور بفستان صنع خصيصًا في شوتزن بطلب من الكونتيسة مارين إيفلين، بمناسبة أول ظهور لابنتها.
الملابس حقًا أجنحة.
من دون أي مبالغة، توقف عقل كارسيون تمامًا في تلك اللحظة. وحتى أنه تخيل ضوءًا سماويًا خلفها، وظل محدقًا فيها كالأبله وفمه مفتوح.
كيف كبرت الصغيرة بهذه السرعة؟
هذا… جمال غير عادل تمامًا.
وبالكاد تمكن من استعادة وعيه، فغطى فمه بإحدى يديه وتمكن فقط من إخراج صوته.
<أه… تبدين مقبولة.>
<تشه، هذا كل شيء؟>
<أي نوع من الإطراء تنتظرينه؟>
وبينما كانت تزم شفتيها، حاول الحفاظ على هدوئه. كما يفعل دومًا. تمسك بالروتين، رفع حاجبًا واحدًا، ورسم ابتسامة جانبية. فردت رينيه عليه بابتسامة تشي بأنها اعتادت على هذا الرد منه.
“سمو الأمير، الآنسة لينا قد انتهت من الاستعداد.”
أعاد صوت الوصيفة كارسيون إلى الواقع. فأومأ برأسه، متعهدًا بالتوجه فورًا، ثم تفقد بدلته مرة أخرى.
لقد عدّل بذلته القديمة التي ارتداها في أول ظهور لتناسب جسده الحالي. وكذلك فعل مع فستان رينيه.
كان قلقًا من عدم تمكنه من العثور على التصميم نفسه، لكن لحسن الحظ، احتفظت دار الأزياء التي كلفتها الكونتيسة ماريين بالنموذج القديم. فدفع كارسيون مبلغًا إضافيًا لينجزوا العمل في الوقت المحدد.
هاه، التوتر سيقتلني.
بينما كان يسير في الرواق، ابتلع ريقه الجاف.
اليوم خُصص لرينيه، لكن قلبه هو من كان يذوب قلقًا.
ربما، إن أعاد تجسيد هذا اليوم المميز، سيتمكن من فك ختم الذكريات. ولو لم ينجح من أول مرة، فقد تنجح المحاولة مع التكرار. كان هذا أكثر الحلول واقعية ولطفًا بين ما قرأه في كتب السحر.
اِدفع الباب… حتى يُفتح.
كان عليه أن يخترق تدفق المانا المتشابك. أن يطرق، ويطرق، ويطرق حتى يُكسر القفل المسمى “الختم”.
ربما يصاحب ذلك صداع شديد… لكنه كان مجبرًا على المحاولة.
توقف كارسيون أمام غرفة ما، وأخذ نفسًا عميقًا.
كانت الغرفة التي حصلت فيها رينيه على استعداداتها لأول مرة قبل سبع سنوات، مع نفس مجموعة الوصيفات.
هل سيؤتي هذا ثماره؟ هل بدأ الصداع فعلًا؟ إن كان كذلك، فعليه أن ينسى الحفل وكل شيء، ويظل بجانبها. ماذا لو اشتد الألم؟ إن بدأت تتصبب عرقًا كما في المرة السابقة، فلن يستطيع منع نفسه من استدعاء الطبيب…
في لحظة قصيرة، مرّ في ذهنه مئات الأفكار قبل أن تهدأ.
أخفى كارسيون توتره وبدأ يتقدم إلى الداخل. صوت كعب حذائه على الأرض بدا وكأنه دقات قلبه نفسها.
وما إن خطا بضع خطوات…
حتى توقفت قدماه.
كانت أمامه فتاة ترتدي فستانًا رائعًا، ظهرها مواجه له.
كان المنظر مألوفًا لدرجة أنه شعر أنه قادر على الحفاظ على هدوئه بسهولة.
طَرق، طَرق.
كوَّر يده وطرق على الجدار ليُعلم بوصوله.
استدارت رينيه ببطء، وكأنها لوحة فنية ترسم نفسها أمام عينيه. الضوء الداخل من النافذة الكبيرة بدا كما لو أنه سُلِّط خصيصًا ليضيئها.
شعر وكأن درب التبانة يتلألأ فوق شعرها الأسود الجميل. وبشرتها البيضاء الناعمة بدت كالحليب، وعيناها المستديرتان وشفتيها الشبيهتين بحبات الكرز، بدتا كأنهما وُجِدتا خصيصًا لسحره.
أما فستانها الوردي الفاتح فقد سحبه مباشرة إلى الماضي.
واو…
كانت مذهلة بحق.
رغم أنه كان يعتقد أن ذكريات ذلك اليوم ما تزال واضحة، إلا أن رينيه اليوم خطفت أنفاسه كالصاعقة، وأطاحت بكل ما ظنه محفوظًا في ذاكرته.
يبدو أن المرء يستطيع أن يقع في الحب مرة أخرى، حتى وإن كان قد وقع مسبقًا.
كتم كارسيون أنفاسه، ثم بصعوبة نطق أخيرًا.
“……تبدين مقبولة.”
أجمل مَن في العالم، رينيه.
استعار كلمات ذلك الصبي الخجول الذي لم يستطع أن يعبّر بصراحة عن مشاعره حينها.
حتى في أذنه، بدت كلماته غبية لأبعد حد.
تبدين مقبولة؟
بل… لا أستطيع أن أشيح بنظري. أريد رؤيتكِ إلى الأبد.
لماذا كان نفسه من الماضي بهذا القدر من الحماقة والسخف؟
رغم أنه كان يسبّ نفسه في أعماقه، لم يستطع كارسيون أن يمنع نظراته العميقة والمليئة بالحنان من التعلّق برينيه.
كأنما كان يتعامل مع كنز نفيس، مدّ يده نحوها وقد ضمّنها بكل ما يمكنه من حب.
ورينيه، كأنها في حلم، مدت يدها وأمسكت بيده.
كارسيون طبع قبلة على ظاهر يدها برفق.
كان من المفترض أن يتصرف تمامًا كما فعل قبل سبع سنوات، لكن جسده لم يطاوعه.
كان من المستحيل أن لا يعبّر عن مشاعره تجاه هذه السيدة الجميلة.
هل سأتمكن من اجتياز هذا اليوم كما ينبغي؟
كارسيون أرسل تشجيعًا حذرًا إلى نفسه البائسة، في الماضي والحاضر على حد سواء.
***
بعد ساعات من التزيين والتجهيز، صعدتُ مجددًا إلى العربة.
لكن هذه المرة تحت مرافقة كارسيون.
لم أعد أفرّق إن كان ما يحدث لي الآن حلمًا أم واقعًا.
أخذت أعبث بطرف الفستان الفاخر الذي أرتديه لأول مرة في حياتي، ثم رفعت رأسي.
كارسيون كان ينظر من النافذة، ثم صادف أن أدار وجهه ناحيتي، والتقت أعيننا على الفور.
“سُموّك.”
“أه، ماذا هناك؟”
خرج صوته متوترًا من بين أسنانه.
“نحن الآن… ذاهبان إلى حفلة راقصة؟ فعلًا؟”
“نعم. ألم أقل لكِ من قبل؟”
“حقًا؟!”
“لماذا تسألين مرارًا؟ هل لا ترغبين بالذهاب؟”
“…ليس هذا ما أقصده تمامًا.”
عضضتُ شفتي السفلى برفق، وأعدت بصري نحو النافذة.
كنا نعبر مسافة قصيرة داخل القصر الإمبراطوري، والحدائق المشذبة كانت تعجّ بأزواج من النبلاء يتمشّون معًا.
كان واضحًا أنهم من النخبة.
أنا… لا أنتمي إلى هذا العالم.
لكن، مهما قلت، فلن يتراجع كارسيون.
إنه رجل يفترض أنني “رينيه إيفلين” رغم عدم وجود دليل قاطع، ويبحث عن الدلائل لاحقًا.
حتى لو سمّاني “لينا”، هو مقتنع تمامًا أنني صديقة طفولته.
لم يكن بحاجة إلى أن يقول ذلك، كنت أعلم.
نظرت إلى كارسيون في صمت.
رغم كونه أميرًا وبطلًا للإمبراطورية، كان ينتظر كلامي بتوتر.
كتمت تنهيدة وابتسمت بلطف قبل أن أتحدث.
“حفلة راقصة… لا أصدق الأمر ببساطة.”
“لا تقلقي. فقط ابقي إلى جانبي.”
هل كان الأمر كذلك في يوم ظهوركما الأول؟ رغبتُ بسؤاله، لكنني ابتلعت الكلمات وبدلًا منها اكتفيت بالابتسام وهززت رأسي.
لأخفي مشاعري المتضاربة، أعدت نظري إلى النافذة.
علاقة معقدة ومتشابكة.
ما كان علي قوله فيها، قلته بالفعل من قبل.
وسمعت الإجابات أيضًا.
كارسيون لن يتخلى.
ربما كنت سأشعر بالإهانة في الماضي لو اعتُبرت مجرد بديل.
لكن الآن، لم أعد أشعر بذلك.
لم أكره الأمر.
شعرت أنني إن تركت نفسي أُجرف في هذا اليوم، فقد أجد ما يملأ ذلك الفراغ الغامض داخلي.
كنت مثل طفلة تائهة وسط محيط شاسع، وكان كارسيون يبدو كمنارة ترشدني.
تعالي، اتبعيني، سأرشدك.
لا أدري إن كانت مجرد أوهام في رأسي، أم أن مشاعره كانت تصلني من خلال روحه.
لكن، بطريقة عجيبة، حين توقفت العربة ومدّ كارسيون يده نحوي بعد أن نزل، شعرت فعلًا أنه مرشدي.
قلبي أخذ يخفق بشدة.
أمسكت بيده ونزلت من العربة.
كان عالمٌ واسع وفخم ينتظرنا.
فبما أن الحفل الراقص يُقام في القصر الإمبراطوري ويُعد ختامًا لمهرجان تأسيس الإمبراطورية، فقد تمت دعوة عدد كبير من النبلاء.
بينما كنا نصعد الدرجات الواسعة، بدأت أشعر بنظرات الترقب حولنا.
حتى الجنود الذين كانوا واقفين بصرامة وعلى مسافات متساوية حرّكوا أعينهم نحونا.
الهمسات التي بدأت صغيرة سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم.
-أليس هذا الأمير الثالث؟ لم يسبق أن حضر حفلة راقصة، أليس كذلك؟ سمعنا أنه حضر حفل الشكر مؤخرًا أيضًا. والدي يقول إن نشاطه السياسي أصبح ملحوظًا هذه الأيام. لكن من تكون تلك الفتاة بجانبه؟ أشعر أنني رأيتها من قبل… يا إلهي، إنها تلك الفتاة!-
شعرت أن وجهي احمرّ بشدة.
فكرت أن علي أن أشرح قبل أن تتضخم الشائعات أكثر.
لكن لمحة من عيني كارسيون، تخبرني أن لا بأس، كانت كافية لتبدد كل قلقي.
عندما وصلنا إلى مدخل قاعة الحفل، أخبر الخادم الذي يحرس الباب الداخلين بوصولنا.
وتم تقديمي كشريكة له، دون ذكر اسم.
“سمو الأمير كارسيون فريدريك برنهارت وشريكته الكريمة!”
فُتح الباب، وانفتح معه عالم من البذخ والروعة.
وفي تلك اللحظة، شعرت على بشرتي بنظرات كل من في الداخل.
رغم أن تقديمي كان بسيطًا، بلا أي ألقاب، إلا أن أعين النبلاء قرأت من وجهي ألف تقديم وتقديم.
المندهشون، المتفاجئون، رأوا فيّ صورة يوم من الماضي.
يوم يشبه يوم حفل الظهور الأول لـ كارسيون ورينيه إيفلين.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 50"