الفصل 46. لا تسامحيني
كان يومًا مشمسًا تحت سماء زرقاء صافية.
انقضى الصيف الحار، وبدأ الهواء الخريفي المنعش يتسلل إلى تفاصيل الحياة.
وكأن الجميع يحتفل بقدوم الموسم الجديد، إذ امتلأت الشوارع بالحيوية.
صحيح أن شوتزن مدينة مزدحمة دائمًا، لكن الحيوية اليوم كانت من نوع مختلف.
لقد بدأ مهرجان تأسيس الإمبراطورية.
وكانت الألعاب والأنشطة منتشرة في كل مكان.
وأنا في طريقي إلى المنزل بعد الدوام، وجدت نفسي أتوقف عند كل زاوية.
ليونيل، الذي انتظرني لنعود معًا من العمل، وقف يضحك بهدوء وهو يراني أتردد أمام بسطة مليئة بالإكسسوارات، ثم مد يده وربّت على رأسي.
“أأشتري لكِ هذه؟ السوار هذا؟”
“لا، يبدو غاليًا.”
“وماذا في ذلك؟ أنا أتقاضى راتب ساحر من الدرجة العليا، كما تعلمين.”
“آه، صحيح. هل سددتَ الدين للأمير كارسيون؟”
“……دائمًا تتحدثين عن ذاك اللعين.”
تغيرت ملامح ليونيل، وابتعدت يده عن رأسي وهو يقطّب حاجبيه.
هل كنت أذكر كارسيون كثيرًا؟ لم أكن ألاحظ ذلك، لكن يبدو أنني أفعل، بما أن ردّ ليونيل كان بهذه الحدة.
لكن لم يكن بوسعي غير ذلك.
“ماذا لو أنفقت كل المال ولم تستطع السداد؟”
“من الأساي، هو قال أنه لا حاجة للسداد.”
“قال هذا لأنه طيب القلب فقط. طبعًا يجب أن تُصفّى العلاقة المالية بوضوح.”
وضعت يدي على خصري وبدأت في تأنيب ليونيل.
لكنه أغلق فمه بضيق وأشاح بنظره عني.
“ليونيل.”
“سأسدد بدءًا من الشهر القادم، حسنًا؟”
“لا. لقد وعدتني أن تودع المال في البنك من هذا الشهر. لماذا تغير كلامك الآن؟”
“لكن من كان يتوقع أن يكون مهرجان التأسيس بهذه الروعة؟”
كلامه كان منطقيًا إلى حد ما.
صحيح.
فهو مثلي تمامًا.
نشأنا معًا في ميتم بعيد في الريف، ثم انتقل للعيش في الغابة لاحقًا.
لم يشهد من قبل مهرجانًا بهذا الحجم.
“ظننت أن مهرجان التأسيس يوم واحد فقط. لكن المدينة تحتفل لأسبوعين كاملين! لنستمتع كما يجب، نحتاج المال، لينا!”
“أوه.”
أمسك ليونيل بكتفي وهزّني بحماسة.
وسرعان ما استسلمت لإقناعه.
“ذاك الرجل سيتفهم الأمر. لنبدأ السداد من الشهر القادم، وسأشتري لكِ كل ما ترينه، وسنتذوق كل ما هناك!”
“فقط… توقف عن مناداته بذاك الرجل.”
“لننطلق.”
أخذ ليونيل بيدي ودخلنا إلى قلب الزحام.
أسياخ مشوية بأنواع من الصلصات، شرائح بطاطس مقلية رقيقة، كستناء مشوي… كان هناك الكثير من الأشياء الشهية.
اشترينا كميات صغيرة من كل صنف لنتذوقها جميعًا.
“أليس المهرجان مستمرًا حتى يوم 26؟”
تفاجأت قليلاً من كلام ليونيل.
لكنه لم يلحظ شيئًا، إذ كنت منشغلة بقضم قطعة دجاج من السيخ.
“ينبغي أن نختم المهرجان بطريقة مميزة، أليس كذلك؟ ماذا سنفعل في ذلك اليوم؟”
كان يفترض ضمنيًا أننا سنقضي اليوم سويًا.
ارتسمت ابتسامة محرجة على وجهي، وبدأت أحك خدي بسبابتي.
أنا أعرف تمامًا الأجواء المشحونة، بل المعادية، بين كارسيون وليونيل.
لذلك لم يكن بوسعي إخباره بأن يوم 26 مخصص بالكامل لموعد مع كارسيون.
حدّقت في الزينة المعلقة في الشوارع، وتلفّظت بكذبة بيضاء:
“أظن أنني سأكون مشغولة في ذلك اليوم.”
“لماذا؟ كولين ليس لديه أي حس. كيف سمح لكِ بالعمل في يوم كهذا؟”
“ليس الأمر كذلك… فقط، لدي دوام.”
آه، لماذا أنا سيئة جدًا في الكذب؟
كان ينبغي أن أختلق عذرًا أكثر إقناعًا، لكنني لم أستطع استخدام كولين كذريعة.
بمجرد أن أتذكر وجهه الطيب، لا يمكنني أن “أبيعه” بهذا الشكل.
“أنا أيضًا لدي دوام. لنخرج في المساء إذًا.”
“همم…”
“سمعت أنه سيكون هناك عرض للألعاب النارية في الليل. بيلا وجيف أخبراني بأفضل مكان للمشاهدة.”
“هما أيضًا… لما يقولان لك شيئًا كهذا؟”
“أنا لا أمانع، بالعكس، يعجبني.”
“قد أضطر للبقاء في المختبر لوقت متأخر. البحث هذه الأيام… يأخذ وقتًا طويلًا.”
“حقًا؟”
نظر إليّ ليونيل بعينين مشككتين.
وكنت على وشك الانكشاف، فغيرت الموضوع بسرعة.
“بالمناسبة، ما زلت تصنع الجرعات، صحيح؟”
“هاه؟”
“أتحدث عن جرعاتي. لقد كسرتها كلها ذلك اليوم، ولم يتبقَ أي منها.”
“آه، هذا…”
أجاب ليونيل بصوت مرتبك:
“بما أنه لا يوجد عينة، لم أعد أتذكر التركيبة تمامًا.”
“ماذا؟”
“وتركت دفتر الملاحظات في الكوخ… لا أظن أنني أستطيع إعادة صنعها بسهولة. ما العمل؟”
“.….”
هكذا إذًا، لا عجب أن كارسيون يشك.
بصراحة، أنا أيضًا أشعر بعدم الارتياح في مثل هذه المواقف.
لو علمت أن ليونيل قادر على استخدام سحر التحول، لكنت صدّقت تمامًا كلام كارسيون حين قال إن “ليونيل هو الكلب ريو وأنا رينيه إيفلين.”
آه…
تنهدت بعمق.
“لا بأس، ما دمت قريبًا مني. ونادرًا ما أعاني من الصداع.”
ابتسم ليونيل بصمت، وكأنه يقول لي: ثقي بي.
ثم عدنا لننشغل بمشاهدة أجواء الشارع.
ورغم أننا لم نبالغ في الإنفاق، اشترينا بعض التذكارات الجميلة.
نبتة النفل ذات الأربع ورقات التي يُقال إنها تجلب الحظ، كتاب صور يروي أسطورة التأسيس بأسلوب خيالي، ومجموعة قواعد أكواب صغيرة مزينة بسيف ودرع.
وهكذا، لم ننتبه للوقت حتى تأخر الليل.
رغم أن الشوارع كانت لا تزال مضاءة بالفوانيس.
في الأوقات العادية، كان الناس سيعودون إلى منازلهم مبكرًا، لكن في تلك الليلة ظلوا يتجولون في الشوارع حتى وقت متأخر.
حتى أنا، مع أن عليّ الذهاب إلى العمل صباحًا، بقيت أتجول حتى وقت متأخر.
كانت مشكلة حقيقية.
كان هناك الكثير من الأشياء الممتعة.
وأنا أتبادل الأحاديث التافهة مع ليونيل في طريق العودة إلى المنزل، فكرت أنه ربما يجب أن أتنازل عن بعض النوم خلال فترة المهرجان.
كنت أتمنى لو أتمكن من الاستمتاع بهذه الشوارع مع كارسيون أيضًا، وهذا ما كان يحزنني قليلًا.
هل هو مشغول كثيرًا؟ هل يجب أن أنتظر حتى اليوم الأخير؟
بتلك الأفكار، ذهبت إلى النوم.
***
قطرات… قطرات…
ليونيل مسح جسده المبلل وهو يجفف شعره الرطب بالمنشفة.
نظر إلى انعكاسه في المرآة بوجه خالٍ من التعبير، ثم أغلق عينيه ببطء..
وحين فتحهما مجددًا، كانت يده التي تمسك بالمنشفة مغطاة بفرو كلب.
ثم سرعان ما ومض نور خافت ليعود جلده أملسًا كبشر من جديد.
“همم، الشعور جيد.”
أمر لا يمكن للناس العاديين حتى تخيله.
من يتخيل أن شخصًا أمامهم يستخدم سحر التحول الأسطوري، الذي يُروى عنه في الحكايات فقط؟
لكن كارسيون كان واثقًا.
تلك النظرات يوم أمس، حين أمسكه من عنقه. ذلك التهديد الخالص في عينيه، وكأنه يستطيع تمزيق أي أحد في لحظة إن أراد.
“هل كان بسبب العينين؟”
ليونيل حدق في عينيه الداكنتين المائلتين إلى الحمرة في المرآة.
سحر التحول لا يغير كل شيء. الشكل يتغير، لكن تبقى بعض خصائص الجسد الأصلي.
وأشهر ما لا يتغير… هو لون العينين.
“ليست عيونًا نادرة، ومع ذلك…”
يا له من شخص غريب، ومرعب أيضًا.
ليونيل صرف نظره عن المرآة وارتدى ملابس النوم.
حين كان يعيش بصفته “ريو”، لطالما حسد كارسيون.
ولذا، منذ أن أصبح “ليونيل”، بدأ يقلد تصرفاته وعاداته.
كان يعيش في عالمه الخاص مع رينيه فقط، إلى أن ظهر فجأة الأمير الهابط من العاصمة.
نقي، نبيل، وفيه شيء متعالٍ بشكل مزعج.
ومع كل ذلك، أصبح أقرب شخص إلى رينيه. ذلك الشخص المزعج والبغيض والمثير للغيرة.
ليونيل أراد أن يكون كارسيون.
وفي النهاية، قبل خمس سنوات… أخذ مكانه.
استعاد في ذهنه قصر إيفلين المحترق وسط اللهب.
هدير التنين، وصراخ الناس، والنيران التي أحرقت كل شيء.
طق.
خرج ليونيل من الحمّام، دافعًا ذكريات الماضي جانبًا.
رينيه، التي استحمت قبله، كانت قد نامت بالفعل.
هي أعادت ترتيب الغرفة التي كانت تستخدمها كمكتب، لتكون الآن غرفة نومه.
لكنه، قبل أن يدخل، توقف فجأة.
“همم، كارسيون…”
وسط سكون الليل، سمع همهمة خافتة.
حين فتح الباب بحذر، وجد رينيه تتأوه في نومها، وكأنها ترى كابوسًا.
ها هي تحلم بذلك الوغد مجددًا.
هذه ليست المرة الأولى منذ أن بدآ العيش في شوزن معًا.
حين كانا يعيشان في كوخ غابة هيلدين، لم تكن تعاني من هذا.
لا بد أن زيارتها لأراضي إيفلين أثّرت فيها بشدة.
اقترب ليونيل من سريرها.
وضع يده على جبينها مستجمعًا تركيزه، ثم أغمض عينيه.
“لن تصابي بصداع في الصباح.”
توهج ضوء خافت من راحة يده، واخترق رأس رينيه.
منذ ما حدث قبل خمس سنوات، كان ختم الذكريات غير مستقر.
وكان عليه لمس رأسها كثيرًا لتثبيته.
لكن خلال السنوات الأخيرة، لم تحدث مثل هذه الحالات.
والآن… بدأ الختم يهتز مجددًا.
وبعد أن ثبّت الختم المتزعزع، فتح ليونيل عينيه ببطء.
ملامح رينيه أصبحت أكثر ارتياحًا.
وبينما كان يمسح على وجهها النائم برفق، مرت ومضة ألم في عينيه الحمراوين.
وتسللت من بين شفتيه همهمة مشحونة بمشاعر معقدة.
“لا تسامحيني.”
التعليقات لهذا الفصل " 46"