الفصل 45. السادس والعشرون من سبتمبر
منذ الصباح الباكر كان لدينا اجتماع بحثي.
باستثناء كولِين، شارك تسعة باحثين ما حققوه مؤخرًا، وكان تبادل المعلومات حول تأثيرات المواد المختلفة عند مزجها مفيدًا للغاية.
قدمت تجربتي الأخيرة التي ذابت بفعل سحر لهيب ليونيل، وأظهرت مزيجًا يقاوم النار أمام أعين الجميع، فقوبلت بموجة من التصفيق.
“طوّريه أكثر قليلاً.”
حتى كولِين شجّعني بحرارة.
واثقةً أكثر بنفسي، عدت من الاجتماع وانغمست في عملي مجددًا.
عرض إيسولا نال استحسانًا أيضًا؛ فقد صنعت مادة لينة تبقى على حالها حتى بعد تقطيعها بالسيف.
قالت إنها استخدمت الوحل، وهي الآن في مرحلة التفكير بكيفية دمجه مع سحر الحماية حتى يُستخدم لحماية الأبنية من الهجمات الخارجية.
فكرتها مذهلة فعلًا.
لا أعلم كيف خطرت لها فكرة استخدام الوحل، ولا كيف فكرت بتحويل مواد البناء إلى شيء ليّن.
الآن أفهم لمَ كانت كريستينا تتغاضى عن حوادثها المتكررة.
“لينا، ماذا تفعلين؟”
ربما كانت تأخذ استراحة قصيرة، فقد اقتربت إيسولا مني وسألت.
رفعت رأسي عن جهاز الطحن ونظرت إليها.
“أطحن صخورًا من أعماق نيفرادا. أظن أن زيادة تركيز مسحوقها سيزيد الفعالية.”
“حقًا؟ لم لا تجربين أيضًا الأحجار السحرية ذات خاصية الماء؟ خطرت ببالي عندما سمعت عرضك قبل قليل.”
“لكن الأحجار السحرية غالية نوعًا ما…”
“ولِمَ تقلقين بشأن تكلفة المواد؟”
صحيح.
أمام الهدف الطَموح ببناء أفضل صرح في التاريخ، من الغريب التفكير بالتكاليف. بل ربما سيتفاخرون بالمصاريف العالية.
“سأذهب فورًا لطلب المواد.”
“فكرة ممتازة.”
نهضت وغادرت المختبر. وما إن أُغلِق الباب خلفي حتى رأيت رجلاً يقترب في الممر فجمدت في مكاني.
كان كارسيون.
“إلى أين تذهبين؟”
“هل أتيتِ لتقابل ايديرا؟”
سألت ببرود. لكنه ابتسم بعينيه بسعادة وكأنه يقول شيئًا رائعًا.
“أتيت لرؤيتك.”
“….”
ما هذا.
حين يقولها بتلك البراءة، لا أستطيع حتى أن أُغضب منه.
شعرت بالحرج وحرّكت نظري بعيدًا، لكن سرعان ما أعادني صوته إليه.
“سألتك، إلى أين تذهبين؟”
“لتقديم طلب مواد.”
“حقًا؟ وأين تقدمين الطلب؟”
“يجب أن أصعد إلى الطابق الثالث.”
حين قلت ذلك، مال بجسده كأنه سيصطحبني. شعور جميل تسلل إليّ وأنا أبدأ السير.
كان يضبط خطواته لتناسب سرعتي، وامتدت ساقاه الطويلتان ببطء إلى جانبي.
خطواتنا كانت تتردد بصوت خافت في الممر.
شعور غريب يدغدغني جعلني أفكر بالكلام، لكن من كسر الصمت أولاً كان كارسيون.
عند بداية صعود الدرج، قال:
“ماذا ستفعلين في السادس والعشرين من سبتمبر؟”
“ماذا؟”
دارت عيناي بحثًا عن المعنى.
سؤال مفاجئ جعلني أعدّ الأيام في رأسي. إنه يوم عادي. يعني… يوم عمل.
“دوام.”
أجبت ببرود.
يسأل وكأنها معلومة غريبة.
لكن هل هناك شيء مميز بذلك التاريخ؟ بدا كأنه يعرف شيئًا لا أعرفه.
“لماذا؟ هل هناك مناسبة خاصة؟”
سألته بصدق، لكنه بدا متفاجئًا. توقف على الدرج ونظر إليّ وكأن ما قلته لا يُصدق.
ما الأمر؟
من الطبيعي أن أجهل.
“إنه اليوم الأخير من مهرجان التأسيس.”
“مهرجان التأسيس…؟ أليس في 20 سبتمبر؟”
رغم أنني من الريف وفاقدة للذاكرة، إلا أنني أعرف هذا النوع من المناسبات. لكن يبدو أن هناك فرقًا في الطريقة التي يُحتفل بها هنا.
“المدينة ستبقى غارقة في أجواء المهرجان لمدة أسبوعين.”
قال ذلك وهو يضغط بإصبعه السبابة على جبيني.
“آخ… إذًا الأمر كذلك في شوتزن؟”
أنا لم أكن هنا إلا منذ بضعة أشهر. هذه أول مرة أعيش مهرجان التأسيس في شوتزن.
“في الريف نحتفل فقط في نفس اليوم وننتهي. لا يمكننا البقاء نلهو أسبوعين. من الذي سيحضّر لكل هذا؟”
“….”
كارسيون الذي لم يكن يعرف ذلك، بدا وكأنه أخيرًا فهم موقفي، فاعتدل في وقفته.
ثم نظر إليّ بتفكير، وظهر على شفتيه ابتسامة ناعمة.
“على كل حال، احجزي ذلك اليوم.”
“ربما… في المساء فقط…”
“احجزيه كله. سنكون مشغولين من الصباح.”
“لكنني سأكون في العمل.”
“لا تقلقي بشأن ذلك.”
“.…؟”
ما الذي يدور برأسه بالضبط؟
لم أكن أفهم ما يدور في ذهن كارسيون، وارتسمت علامات الاستفهام فوق رأسي.
أما هو، فلم يُبدِ أي نية لتوضيح الأمر، بل ابتسم بغرور وأكمل صعوده على الدرج.
“ما الأمر؟ لماذا تطلب مني إفراغ يومي بالكامل؟”
“ستعرفين حين يأتي اليوم.”
“في أي ساعة ستأتي صباحًا؟”
“سأرسل أحدًا بدلًا مني.”
“لا تقل… موعد؟”
“…..”
“آه….”
هل قلت شيئًا غير لائق للتو؟
شعرت بأن وجهي يحترق من الخجل، وحتى كارسيون، الذي كان يطلب مني تفريغ اليوم بكل برود، احمرّت أذناه في لحظة.
ما العمل الآن؟
الوضع محرج جدًا…
توقف عن الحركة للحظة ثم بالكاد حرّك قدميه من جديد، بينما قطّب حاجبيه.
وبوجه متورد يحدق إلى الأمام، قال:
“قريب من ذلك.”
“.….”
مصيبة.
قلبي يكاد ينفجر من الخفقان.
لا أدري كيف استطعت كتابة استمارة طلب المواد، وتسليمها، ثم العودة إلى المختبر مجددًا.
الهالات السوداء ما زالت تحت عيني، أما كارسيون، الذي بدا وكأنه خصص وقتًا لنفسه هذه المرة، فقد غادر فجأة قائلًا إنه تذكّر وعدًا كان قد نسيه.
كررر. كركركر.
عدت إلى مكاني وأخذت أطحن أشياء متفرقة باستخدام المطحنة، شاردة الذهن.
ولا أعرف حتى ما الذي كنت أطحنه.
***
قصر فيلدر كان يعجّ مؤخرًا بأجواء مزدحمة.
بل يمكن القول إن الأجواء بدت نابضة بالحياة.
فالضيوف باتوا يتوافدون يومًا بعد يوم.
نهوض الأمير الثاني سيدريك.
كان هذا ما يتردد سرًا بين النبلاء.
المستقبل لا يعلمه أحد، لكن ما كان مؤكدًا هو أن سيدريك، الذي ظل محافظًا على موقف منخفض طوال الوقت، بدأ يتحرك من جديد.
وكان من الصعب تجاهل العلاقة الغريبة بينه وبين كارسيون، الذي كان يدعمه في كل خطوة سياسية جريئة يتخذها.
البطل الذي هزم التنين الأسود.
لقب لا يُقارن بأي شيء آخر، جعل من مكانة كارسيون الأعلى بين شعب الإمبراطورية.
حتى الإمبراطور هاينريش الثالث، الذي عيّن أوستين رسميًا كوريث للعرش، كان يشعر بالحسرة على أن كارسيون يضيع وقته دون فائدة.
ولذا، إن كان كارسيون نفسه بدأ بالتحرك… فكل شيء بات مجهولًا.
لا أحد يعلم من سيكون وريث هاينريش الثالث.
“يا له من يوم جميل.”
انطلق لحن من أنف سيدريك تلقائيًا.
نظر إلى الأشجار الخضراء تهتز بهدوء تحت النسيم من خلف النافذة، ثم عاد بنظره إلى الأوراق على مكتبه.
ختمها بالحبر وبدأ بمراجعة الورقة التالية.
خشخشة، خشخشة.
كان صوت احتكاك القلم أشبه بالموسيقى الممتعة.
“لم يكن فتى سيئًا.”
ارتسمت صورة كارسيون في طفولته داخل ذهنه.
نحيل، قصير، ومليء بالقلق.
كان دائم التردد والانكماش، يراقب الأجواء من حوله بخوف.
لم يخطر بباله قط أن هذا الفتى سيكون مفيدًا ذات يوم.
ثم سُمع طرق على الباب.
هل جاء ضيف آخر؟
تمنى سيدريك في قرارة نفسه أن يكون أحد نبلاء جناح أوستين.
كان يستمتع برؤية من يدّعون الحياد وهم يهرعون لتعديل مواقفهم.
“أخي.”
لكن من دخل لم يكن كما توقع.
لكنه لم يكن مخيبًا تمامًا للآمال أيضًا.
فهو نفس الفتى الذي كان يثني عليه قبل قليل.
“كارسيون، ما الأمر؟”
أنزل سيدريك قلمه وهو ينظر إلى وجه أخيه المرهق.
“يبدو أنني جعلتك مشغولًا جدًا، لا بأس بأخذ استراحة عادلة.”
“آه، ليس بسببك يا أخي.”
لوّح كارسيون بيده، وكأنه يقول ألا يقلق بشأنه.
في الواقع، العمل المتعلق بسيدريك لم يكن مرهقًا إلى ذلك الحد.
لكن التعب كان نتيجة استخدام كل لحظة فراغ في البحث داخل كتب السحر.
كان يواصل التحمل مدفوعًا بالغضب.
فإن لم يحرر ذاكرة رينيه بسرعة، لن يتمكن من طرد ليونيل اللعين من ذلك المنزل.
على أي حال، كان قد أتى لسبب آخر تمامًا.
“السادس والعشرون من سبتمبر.”
“ماذا؟”
“أرجو إعفاء لينا من العمل في ذلك اليوم. واختر سببًا مناسبًا.”
“ما هذا؟ أعترف أنني معجب بك مؤخرًا، لكن ألا ترى أن هذا الطلب مبالغ فيه؟”
“مبالغ فيه؟”
“أنت تطلب إعفاء موظفة عاملة من واجبها لأسباب شخصية، أليس كذلك؟”
“لكن جلالة الإمبراطورة فعلت شيئًا مشابهًا من قبل. جلسة شاي أو شيء من هذا القبيل.”
“..….”
لم يجد سيدريك ردًا فوريًا.
لكنه لم يستطع أن يمنحه الإذن بهذه البساطة أيضًا.
فهو كان يحاول دومًا أن يتعامل بعدالة مع كل من يعمل تحت إمرته، فهذا ما يضمن ثبات المؤسسة.
لكن كارسيون لم يكن مهتمًا بكل هذا.
“وإن لم توافق، فسأبدأ بدعم ولي العهد في الاجتماعات القادمة.” (لا مبالاة كارسيون بالسلطة تفطس😭😭😭)
تغيرت ملامح وجه سيدريك.
ما هذا الهراء..
رفع كارسيون حاجبه وكأنه يسأل: “هل تجرؤ على الرفض؟”
اللعنة، في هذه الحالة، كان الأمر يعتبر حالة خاصة بالفعل.
لا يمكن السماح بتقوية موقف أوستين أكثر.
فاستسلم سيدريك في النهاية وقال:
“.…سأحاول اختلاق سبب مناسب إذًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 45"