لم أتوقع أبدًا أن يفي بوعده، الذي نطق به ذات مرة في نزل متواضع، إلى هذه الدرجة.
حدّقت في المشهد أمامي بوجه أكثر ذهولًا مما كنت عليه عندما أُغرق وجهي بالنبيذ. أقسم أنني لم أشعر أبدًا بخفقان قلبي بهذا العنف من قبل.
“أنت… أنت…”
كانت إليزابيث مصدومة بشدة لدرجة أنها لم تستطع حتى إكمال جملتها.
حدّقت في كارسيون بنظرة قاتمة، لكن تحت ضغط هالته الطاغية، اضطرت إلى تحويل نظرها عن وجهه. وسرعان ما وجدت هدفًا جديدًا أسهل—أنا.
لكنني لم أكن كما كنت قبل لحظات.
لم أخفض بصري تلقائيًا كما فعلت من قبل. هذه المرة، وأنا أشعر بوجود كارسيون الداعم خلفي، واجهت نظرة إليزابيث مباشرة.
ثم أدرت وجهي ببطء نحو كارسيون.
كان ينظر إليّ بالفعل.
“ماذا تفعلين هنا؟”
كان في عينيه نفاد صبر، لكن صوته كان دافئًا، كأنه يحاول تهدئتي.
“لقد دُعيتُ إلى المأدبة…”
شعرت بغصّة في حلقي.
كان عليّ أن أبذل كل جهدي حتى لا أبكي كحمقاء. في الحقيقة، كنت خائفة للغاية.
أن أكون وسط هؤلاء أصحاب النفوذ، أشعر وكأنهم يسلبونني روحي، كان أمرًا يفوق احتمالي.
لهذا السبب، بدا وجود كارسيون الآن كدرع منيع يحوطني.
حول كارسيون نظره إلى سيدريك.
ضغط كارسيون على باطن خده بلسانه، كما لو كان يحاول كبح غضبه، ثم أطلق ضحكة خفيفة تنم عن السخرية.
“إذن، كان الأمر كله مجرد لعبة؟ …هاه.”
“كارسيون، لقد تجاوزتَ حدودك الآن.”
تمتم سيدريك بتحذير، وهو ينظر إلى المشهد المدمر أمامه.
لكن كارسيون لم يكن في حالة تسمح له بالإصغاء.
“اسمعوا جيدًا.”
نظر إلى الجميع بعينيه الزرقاوين القاتمتين، متنقلًا بين سيدريك، كيت، وأخيرًا إليزابيث.
“إذا تجرأ أحد على المساس بهذه المرأة، فأنا قادر على فعل ما هو أسوأ بكثير.”
أنهى جملته بحدة، ثم أمسك بمعصمي وساعدني على النهوض.
نظرت إليه بعينين مرتجفتين، لكنه لم يمنحني فرصة للتردد.
بقي صوته الغاضب يتردد في أذنيّ، بينما كان يسحبني خارج قاعة العشاء.
خلفنا، سمعت سيدريك يأمر الخدم بتوخي الحذر الشديد.
إذا تسربت أي كلمة عمّا حدث الليلة، فسيخسر الجميع هنا حياتهم.
خطوات كارسيون السريعة أجبرتني على اللحاق به شبه راكضة.
كانت قبضته على معصمي دافئة، لكنها في الوقت نفسه حذرة، كأنه يخشى أن يؤذيني.
ومن هذا، شعرت أكثر بمدى غضبه.
***
غادرنا القصر الإمبراطوري، مررنا بالحيّ الفاخر، ثم وصلنا إلى حيي.
لم نتبادل أي كلمة طوال الطريق.
كل ما كان يُسمع هو صوت حوافر الحصان الذي يحملنا على الطريق، وصوت دقات قلب كارسيون القوي.
شعرت بدفء جسده من خلفي، وركزت على ذلك بصمت.
ذراعاه كانتا تحيطان بي وكأنهما تحميني، وأصابعه المشدودة على اللجام بدت حازمة.
لقد شعرت وكأنني أميرة في إحدى القصص الخيالية.
رغم أن الواقع لم يكن كذلك على الإطلاق.
شعري وبشرتي كانا ما يزالان لزجين من النبيذ، وكنت قد غطيت نفسي بعباءتي، مما زاد من إحساسي بعدم الراحة.
عندها سمعت صوته العميق فوق رأسي.
“لينا.”
كنا قد اقتربنا من وجهتنا.
أبطأ كارسيون الحصان قليلًا بينما واصل حديثه.
“إذا استدعاكِ أحدهم مرة أخرى، أخبريني فورًا.”
“حسنًا، فهمت.”
أجبت بهدوء.
لكن حتى مع ذلك، لم يبدو كارسيون مرتاحًا، فقد زفر نفسًا طويلاً.
لم يكن الصوت مسموعًا، لكني شعرت به عبر ظهره الملتصق بي.
“… لا، قد لا يكون لديكِ الوقت لإخباري.”
“ذلك ممكن، نعم.”
“هل يجب أن أوكل إليكِ فارسًا لحمايتك؟”
“لست بحاجة إلى ذلك.”
ضحكت بشكل غير متعمد، فقد بدا متوترًا بشكل مضحك.
قبل لحظات، كان يهدد العائلة الإمبراطورية بأكملها، والآن، بدا وكأنه لا يستطيع التوقف عن القلق عليّ.
“ما المضحك؟”
تساءل بصوت جاد.
لقد بدا وكأنه يعتقد أنني لا آخذ الأمر بجدية كافية.
لم أتمكن من كبح ابتسامتي.
“إنه أنت، يا صاحب السمو.”
عندها، وصلنا أمام منزلي.
أوقف كارسيون حصانه تمامًا، ثم ترجل منه برشاقة.
مدّ يده نحوي ليساعدني على النزول.
“يمكنني النزول وحدي.”
“لكن ليس الليلة، دعيني أساعدك.”
“أنت تسخر مني لأنني غُمرت بالنبيذ، أليس كذلك؟”
“بالطبع لا.”
قطب حاجبيه قليلاً، كما لو أنه ما زال غاضبًا من الذي حدث.
على الرغم من أنه قد قلب الطاولة رأسًا على عقب انتقامًا لي، إلا أنه لم يكن قد هدأ تمامًا بعد.
“شكرًا لك، على الغضب بدلاً مني.”
قلت بإخلاص.
لقد شعرت أنني كنت على وشك الانفجار من الغضب والظلم، لكن عندما ثار كارسيون من أجلي، شعرت بتحسن مفاجئ.
كما لو أن شخصًا قد وضع مرهمًا على جراحي.
“لقد كتمتُ غضبي كثيرًا.”
تمتم بوجه عابس.
“ما هذا الكلام؟! ظننت أن كارثة ستحلّ، لقد كدتُ أموت من الخوف!”
“…..”
نظر إليّ بصمت، وكأنه يحدّق في كائن محيّر.
ثم، بعد لحظة، مرر يده في شعره وأدار وجهه بعيدًا.
“هيا، ادخلي.”
قال وهو يتقدم نحو المدخل.
“هل سترافقني حتى الباب؟”
“بالطبع، من يدري ماذا قد يحدث لكِ في هذه اللحظات القليلة؟”
“هاه! ألا تعتقد أنك تبالغ في حمايتي؟”
“أنتِ الآن…”
نظر إليّ نظرة غريبة، كما لو أنه لا يصدق أنني أضحك بعد كل ما حدث.
لكنه لم يكن يعرف أن السبب في ضحكي… كان هو.
“حسنًا. شكرًا لإيصالي حتى النهاية.”
لقد قلتُ “شكرًا” عدة مرات اليوم.
اعتقدت أن هذا سيكون أسوأ عشاء على الإطلاق، لكنه تحول إلى أفضل عشاء أيضًا.
مدّ كارسيون ذراعه لي. وضعت يدي برفق فوق ذراعه. لم يكن حفلاً راقصًا، لكنه كان يرافقني كنبيل.
كنت قد سمعت توبيخًا منه للتو، لكنني لم أستطع منع نفسي من الضحك مجددًا. نظر إليّ كارسيون بوجه مليء بالكلمات غير المنطوقة، ثم بدأ في السير.
خطوة بعد خطوة على الدرج.
“متى التقيتِ بذلك المدعو ليونيل لأول مرة؟”
“….؟”
كان سؤالًا غريبًا.
طرفتُ بعينيّ عدة مرات قبل أن أجيب:
“كما قلتُ من قبل، لقد نشأنا معًا في الملجأ.”
“لقد بحثت في جميع ملاجئ الأطفال بالقرب من غابة هيلدين.”
“.…”
“لكن لم يكن هناك أي طفل باسم ليونيل أو لينا.”
“آه… لكنك لم تبحث في جميع ملاجئ القارة، صحيح؟”
“…هذا صحيح.”
كان صوته مثقلًا.
وشعرت أن قلبي يزداد ثقلًا أيضًا. حدّقتُ فيه بعينين معقدتين قبل أن أسأله بحذر:
“هل لا تزال ترى فيّ صديقة طفولتك، رينيه، وليس أنا؟”
“…..”
تحرك حلقه بشكل واضح.
صمته كان بمثابة تأكيد.
شعرت أن قلبي يغرق.
هل يمكن أن نصبح صديقين حقيقيين يومًا ما؟
هل كان كل هذا الغضب الذي أظهره من أجلي لأنه ما زال يظنني رينيه إيفلين؟
هل سأظل دائمًا مجرد بديل لشخص آخر؟
“آداب تناول الطعام، طريقة مخاطبة العائلة الإمبراطورية، كيفية تلقي المرافقة—لا يمكن أن تكوني قد تعلمتِ هذه الأشياء في ملجأ. وبالتأكيد لم تكتسبيها من العيش في الغابة.”
“….؟”
شدّت يدي على ذراعه لا إراديًا.
لقد تصرفت دون تفكير، كما لو كنت قد فعلت هذا طوال حياتي.
“عندما كنا على العشاء، كان هناك عدة شوكات وسكاكين، صحيح؟”
“أجل…”
“هل وجدتِ صعوبة في اختيار الأداة الصحيحة؟”
“لا، فقط استخدمتُ ما شعرت أنه مناسب…”
جسدي تذكر كل شيء بشكل طبيعي.
حتى عند وصولي إلى القصر، كنت قد رأيت تعبير الدهشة على وجه كبير الخدم عندما قدّمتُ التحية كنبيلة راقية.
آنذاك، شعرتُ بالفخر لأنني لم أرتكب أي خطأ…
“لا يمكنني تجاهل هذه الاحتمالية.”
أنهينا صعود الدرج، والآن كنا نسير في الممر.
كان صوت كارسيون يتردد بوضوح أكبر مما ينبغي، كأنه يهزّ عالمي الداخلي.
“حتى الآن… أنتِ تشبهين كثيرًا الطريقة التي كنتُ أرافق بها رينيه.”
كان صوته هادئًا، لكنه يحمل تحت سطحه مشاعر متضاربة.
جعلني الليل الصامت أشعر بالاضطراب أكثر.
من أنا حقًا؟
قبل خمس سنوات، كان ليونيل هو الشخص الوحيد بجانبي.
كان ملجأي الوحيد.
الشك فيه كان يبدو وكأنه خيانة لا تُغتفر، لكن…
“لقد وصلنا.”
تمتم كارسيون، وكأنه مستاء لأننا انتهينا من المسير.
وقفنا وجهًا لوجه أمام باب منزلي.
حان وقت الفراق، لكنني لم أتمكن من تحريك قدمي.
وفجأة—
تك!
انفتح الباب بعنف.
“أوه؟ لينا، ماذا تفعلين عند الباب؟ ومن هذا؟”
خرج ليونيل، وعلى وجهه تعبير بريء، بينما ينظر بيني وبين كارسيون.
شعرتُ ببرودة الجو بجانبي، فقرصتُ ذراع كارسيون تحذيرًا له حتى لا يتصرف بطريقة غير لائقة.
نظر ليونيل للحظة إلى أيدينا المتشابكة، ثم رفع بصره نحونا.
“إنه صاحب السمو كارسيون.”
لذا احذر، ليونيل.
التقت أعيننا، وبدا أنه استوعب الرسالة، ثم التفت إلى كارسيون بابتسامة هادئة..
“أنا ليونيل، وأعيش مع لينا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 38"