الفصل 24. سنتلقي مجددًا
“وواااااه!”
“هااااااا!”
صدى الصراخ المفاجئ دوى في أرجاء المساء، كما لو أن ساحة معركة قد اشتعلت فجأة.
لكن الحقيقة أن هذا المكان لم يكن سوى ساحة التدريب في قصر إيفلين، حيث كانت تقام مباراة مصارعة أذرع شرسة بين فرسان فونيكس.
كانت الأجواء مشتعلة إلى درجة أن ستة طاولات قد تحطمت بالفعل وتراكمت بشكل مأساوي في الزاوية.
لم يستطع الباحثون في برج السحر تفويت هذا المشهد المثير، وبالطبع، كنت أنا أيضًا أتابع العرض بكل حماس.
“لا يمكنني الخسارة أبدًااااا!”
“مبدئي هو أن أُقلّ السيدات فقط!”
كان الأمر ممتعًا جدًا، وخاصة عندما كنت أراقب تعابير وجه كولين من حين لآخر.
هل هذا يجعلني شخصًا شريرًا بعض الشيء؟
كانت نتيجة هذه المباراة ستحدد من سيرافق كولين على ظهر الخيل عبر جبال دينيبروك لمدة أسبوع كامل.
في الأصل، كان ماكس هو من سيُكلف بهذه المهمة، لكن سيدريك، الذي أشفق عليه، غيّر القاعدة، وجعل الخاسر في مسابقة مصارعة الأذرع هو من يتحمل هذا العقاب.
لذلك، بذل ماكس مجهودًا خرافيًا في تدريب ذراعيه قبل يوم المباراة، ونجح بالفعل في تجنب الهزيمة في هذا النظام الإقصائي.
نظرت إليه وهو يشاهد المباراة بوجه مرتاح لأول مرة منذ فترة، فشعرت بسعادة غامرة من أجله.
لكن عندما عاد نظري إلى كولين، غمرني شعور بالشفقة تجاهه.
“هاهاها…”
حاول كولين أن يرسم ابتسامة ودودة على وجهه، لكنه لم يستطع إخفاء حزنه العميق عني.
راقبته بعينين مليئتين بالشفقة، ثم عدت لأتابع المباراة مجددًا.
وهكذا، بفضل تضحية كولين، وُلد حدث ترفيهي ممتع في هذه الأراضي الريفية الهادئة.
“إلى أين تذهب؟”
لاحظت بطرف عيني أن كولين كان يحاول التسلل بعيدًا.
هل كان ينوي الذهاب إلى مكان ما ليغرق في اكتئابه؟ شعرت بالقلق وسألته.
عندها، استدار ببطء وأجاب:
“تمرين على الفروسية.”
“آه…”
أومأت برأسي بتفهم.
إذًا، عليه الذهاب بالفعل.
نظر إليّ نظرة حازمة وكأنه يطلب مني ألا أوقفه، ثم رحل بعزم واضح.
ومن خلفه، رأيت تجسيدًا حيًا لشغف الرجل في منتصف العمر.
شجعته بصدق في داخلي.
أتمنى أن تحقق انتصارًا لحقوقك الإنسانية.
***
مضت عدة أيام من جمع مخلفات أنفاس التنين.
وفي النهاية، حصلنا على مجموعة كبيرة ومتنوعة من العينات.
ومقابل العمل الشاق، حصلنا على مكافأة مجزية، الراحة.
“آه، كم مضى منذ أن نمت حتى وقت متأخر بهذا الشكل؟”
استيقظت وأنا أتمدد بكسل.
تثاءبت ونظرت من النافذة، فوجدت الشمس قد ارتفعت عاليًا. يبدو أنه وقت الظهيرة.
بينما حصل الباحثون على يوم راحة، كان فرسان فونيكس قد انطلقوا بالفعل نحو جبال دنيبروك.
الغريب أن الفارس المكلف بحمل كولين كان يبتسم بسعادة كما لو كان قد نجا من الموت.
لا شك أنهم سيعودون مساءً مع كمية هائلة من العينات مرة أخرى.
بصراحة، كنت أُعجب يومًا بعد يوم بكفاءة فرسان فونيكس.
لم يكونوا من بين أقوى خمسة فرق فرسان في الإمبراطورية من فراغ.
حتى أنني بدأت أقلق من احتمال أن تتكدس لدينا مواد بحثية زائدة عن الحاجة!
على أي حال، السرير كان ناعمًا جدًا.
دفنت وجهي في الوسادة وتحركت بكسل تحت الأغطية.
توك.
سمعت صوتًا صغيرًا من جهة النافذة.
“هم؟”
أخرجت رأسي ببطء كالحلزون ونظرت إلى هناك.
توك.
هذه المرة، رأيت حجرًا صغيرًا يصطدم بالنافذة ثم يسقط بعيدًا.
“من هناك؟”
عبست ونهضت من السرير.
ماذا لو كُسرت النافذة بسبب هذه الحركات الطائشة؟
كنت أخطط لتوبيخ الجاني بشدة.
فتحت النافذة فجأة—
طاخ!
“آااه!”
أُصبت مباشرة في جبيني بحجر صغير.
غطيت جبيني بيدي وحدقت في ما سقط على حافة النافذة—لم يكن حجرًا، بل كانت بلوطة.
“من فعل هذا!”
صرخت بغضب، لكن عندما رأيت الجاني، اتسعت عيناي بدهشة.
كان كارسيون ينظر إليّ من الأسفل.
“آسف.”
اعتذر بنبرة هادئة وكأن الأمر لم يكن مهمًا.
“ما هذه التصرفات الطفولية؟ ماذا لو كُسرت النافذة؟!”
“لن تنكسر، لقد تدربت على رميها بالقوة المناسبة تمامًا.”
“…يا لك من عبقري في اكتساب المهارات عديمة الفائدة.”
لم ينكر كلامي، بل أطلق ضحكة خفيفة مسترخية.
ثم فجأة، سألني:
“هل كنتِ نائمة حتى الآن؟”
“إنه يوم إجازتي.”
“ألا تعتقدين أنكِ نمتِ بما يكفي؟”
أشار إلى الشمس الساطعة في السماء بإيماءة من رأسه.
أطلقت تنهيدة وأومأت باستسلام.
“كم تحتاجين من وقت لتجهزي؟ لنخرج.”
“إلى أين؟”
“لتشتري لي التوت الأزرق.”
“آه…”
تذكرت الآن أنني كنت قد وعدته بذلك.
لم أطلب منه قرضًا، لكنه أعارني مالًا لشراء منزل، لذا كنت أريد أن أشكره بهذه الطريقة.
لكن… لم أكن أعتقد أنه سيهتم لهذه الدرجة.
هل يتذكر هذا بسبب حادثة دعوة سيدريك إلى العشاء؟
“قلتِ إنكِ ستشترين لي هدية شكرٍ لي. وبما أنني من ساعدكِ أولًا، فمن الطبيعي أن تردي لي الجميل قبل أي شخص آخر، أليس كذلك؟”
أوه، هكذا إذًا أيها الوغد.
***
هذه كانت أول مرة أخرج فيها إلى المدينة.
في اليوم الأول من وصولي إلى أراضي إيفلين، تخليت عن فرصة الخروج مع زملائي الباحثين.
لم أكن أعلم حينها أنني لن أحصل على وقت للمرح بعدها، أو أنني سأقضي كل يوم في الذهاب إلى جبال دينيبروك دون استثناء.
لهذا السبب، شعرت هذه اللحظة وكأنها كنز ثمين.
“يبدو الأمر مختلفًا عن رؤيته من العربة.”
كان كذلك بالفعل.
ظننت أنني لن أشعر بأي انبهار لأنني رأيت المكان أثناء مروري، لكن المشي عبر الشوارع المتشابكة كان له شعور مختلف تمامًا، وكأنني دخلت إلى عالم قصصي ساحر.
“هذه البلدة تحتوي على كل شيء. لقد بُذل جهد كبير في تصميمها.”
“ألم يتم إعادة بنائها كما كانت؟”
أوه، يا إلهي..
أغلقت فمي بسرعة بعد أن أدركت ماتفوهت به، وألقيت نظرة خاطفة على وجه كارسيون.
لحسن الحظ، بدا غير مبالٍ بالأمر.
“المظهر الخارجي بقي كما هو، لكننا اهتممنا بتوازن أنواع المتاجر، وكذلك بنظام الصرف الصحي.”
“واو، بناء مدينة كاملة ليس أمرًا سهلًا بالتأكيد.”
لابد أن هناك الكثير من الأمور التي كان عليه أن يهتم بها. لكنه يذكر لي فقط بضع نقاط بسيطة.
خطر لي فجأة أن هذا الرجل يقوم بأشياء عظيمة وكأنها لا شيء.
وأيضًا، الرجل العظيم هذا، لا يبدو أن لديه أي شيء في رأسه الآن سوى التوت الأزرق.
“هناك متجر الفاكهة.”
“…….”
“يجب أن تكون حالة التوت الأزرق جيدة.”
“صحيح.”
نظرت إليه بنظرة غريبة قبل أن أدخل المتجر برفقته.
كانت أنواع الفاكهة المختلفة معروضة بشكل مغرٍ، تتباهى بجمالها.
“اختر كل ما تريده.”
“التوت الأزرق يكفي.”
ثم طلب كارسيون أصغر كمية ممكنة.
همم، هل يفعل هذا مراعاةً لي حتى لا أضطر لدفع الكثير؟ لكن هذه الكمية بالكاد تكفي لشخص واحد..
“اشترِ المزيد.”
“ماذا؟ هذه الكمية كافية.”
استدار كارسيون لينظر إليّ.
عيناه الزرقاوان البريئتان كانتا تحملان سؤالًا صامتًا: لماذا عليّ شراء المزيد؟
“أنت تحب التوت الأزرق، أليس كذلك؟ هل هذه الكمية تكفيك؟”
“لا أتناول سوى حبتين أو ثلاث في المرة الواحدة.”
“ماذا؟ هل أنت متأكد أنك تحبه؟”
لم أستطع تصديق ذلك.
بصفتي مدمنة توت أزرق، لم أستطع فهم هذا المنطق أبدًا.
“هذه الفاكهة تُلتهم بسهولة! صغيرة الحجم، لذا يمكنك الاستمرار في تناولها حتى عندما تكون ممتلئا!”
“……حقًا؟”
“أنا أيضًا أعشق التوت الأزرق، لذا أعرف مدى جاذبيته. لذا اشترِ المزيد!”
“….”
لسبب ما، لم يقل كارسيون شيئًا. ربما شعر وكأنه يتلقى توبيخًا بسبب شرائه القليل، لذا لم يعارض عندما أضفت المزيد إلى الكمية.
“المجموع 23 لانت.”
أعلن البائع السعر بعد أن وزن الفاكهة.
فتحت حقيبتي لإخراج محفظتي، وفي تلك اللحظة—
“..…!”
شعرت بقشعريرة مفاجئة وسرت رعشة على طول عمودي الفقري.
التفتُ بشكل غريزي.
لقد كان شعورًا قاتلًا رهيبًا.
ولم أكن الوحيدة التي شعرت به.
في جزء من الثانية، جذبني كارسيون خلفه، يحجبني بجسده.
كل ذلك حدث في غمضة عين.
لم يكن قد سحب سيفه، لكن الأجواء كانت متوترة وكأن معركة دموية على وشك أن تندلع.
تسللتُ خلف ظهر كارسيون، ثم ألقيت نظرة خاطفة قبل أن أختبئ مجددًا.
مصدر هذا الشعور القاتل كان رجلًا يرتدي رداءً أسود.
شعره أسود قاتم بدون أي فجوات.
عيناه سوداوين، وكأنهما تستطيعان سحب من يحدق بهما إلى الموت.
وابتسامة مزعجة تعلو شفتيه.
“من أنتَ؟”
سأل كارسيون بصوت بارد كقطعة جليد.
نظر الرجل إلينا باهتمام، وكأن شيئًا لم يكن.
ثم، بعد لحظة صمت، فتح فمه ببطء.
“يمكنك القول إنني مجرد مسافر عابر.”
ثم التقط تفاحة من على الرف وقضمها بقوة.
لم يستطع البائع حتى أن يطالبه بالدفع، وبدلًا من ذلك، حدق فيه بعينين دامعتين.
واصل كارسيون التحديق في الرجل، يضغط عليه بنظراته الحادة.
لا أعرف إن كان ذلك قد جعله يتراجع، أم أنه لم يكن ينوي إثارة المشاكل من البداية، لكن الرجل ألقى التفاحة على الأرض بلا اكتراث ورفع يديه وكأنه يستسلم.
“لقد ظننت أنك شخص آخر. كان مجرد خطأ.”
“…….”
لم يرخِ كارسيون حذره.
كنت لا أزال أتشبث بثيابه من الخلف، أشعر بتوتره الحاد من خلاله.
ربما تمكن من إخفائه الآن، لكن الشعور القاتل الذي أطلقه الرجل في البداية كان وكأنه يخترق قلبي مباشرة، يثير داخلي خوفًا بدائيًا.
كان واضحًا أنه من النوع الذي يستطيع ارتكاب أعمال وحشية وهو يبتسم.
ألقى الرجل الغريب نظرة ممتعة علينا، ثم استدار تاركًا وراءه جملة مشؤومة.
“سنلتقي مجددًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 24"