الفصل 18: شخص ثمين
كان قصر إيفلين يخضع لإدارة ممتازة، رغم أنه ظل مهجورًا معظم أيام السنة.
كان ذلك بفضل صاحبه، كارسيون، الذي حرص على توظيف الخدم للعناية به.
بعد أن قضى وقتًا طويلًا في مقبرة عائلة إيفلين، قاد كارسيون جواده ببطء نحو القصر.
لقد مر عامٌ كامل منذ آخر مرة وطئت قدماه هذا المكان.
بدا الجو أكثر حيوية عن المعتاد، ربما بسبب وجود مجموعة الجمع.
“سموك، لقد عدت.”
أومأ كارسـيون برأسه بخفة للخادم الذي تعرف عليه، وسلّمه لجام الجواد دون كلام.
ثم تحرك بخطوات واسعة نحو المبنى الرئيسي.
— تُرى، أين قد تكون لينا؟
راوده السؤال تلقائيًا، فزفر ببطء.
هذا القصر الذي أعاد ترميمه بعد عناءٍ طويل… كيف سيكون شعوره حين يقابل لينا، التي تحمل وجه رينيه؟
مجرد التفكير في ذلك كان كافيًا لإغراقه في فوضى عارمة.
لم يكن واثقًا من قدرته على التمييز بينهما.
ربما، دون وعي، سيمحو اسم “لينا” ويخاطبها باعتبارها “رينيه”.
وحينها، هل ستنظر إليه وكأنه مجنون؟
أم ربما، بنظرة مشفقة، ستتساءل إن كان قد فقد عقله بالفعل؟
شعر وكأن الدخان يملأ حلقه.
اقترب، لأنه أراد ذلك، لكنه تراجع خوفًا من أن ينهار كل شيء مرة أخرى.
في ذلك النزل المتواضع، عندما بدأ قلبه ينفتح، عندما شعر حقًا بأنها… صديقة.
تحركت تفاحة آدم لديه في موجة مضطربة.
وسط هذا الضيق الذي يكتم أنفاسه، مرّ بجانب مجموعة من الفرسان التابعين لفرسان فونيكس، الذين أدوا له التحية.
كان الممر الذي اعتاد أن يكون فارغًا يعج برائحة الحياة الآن.
“يبدو أن أخي استفاد أكثر مما ينبغي.”
ابتسم كارسـيون بسخرية، ثم دخل غرفته.
خلع معطفه وفك أزرار قميصه، بينما دخل الخدم وأعدّوا له حمامًا ساخنًا قبل أن يغادروا.
كان قد أتى إلى هنا لأداء واجب العزاء.
وبهذا، تحققت غايته.
عادةً، بعد زيارته السنوية، كان يقضي بضعة أيام أخرى قبل أن يعود إلى شوتزن.
أسبوعٌ في أفضل الأحوال، يتلقى خلاله تقارير عن أوضاع الإقطاعية، ويتابع أخبار الفرسان التوتين الذين يمشطون سلسلة جبال دينيبروك.
لكن هذه المرة، قرر أن يبقى لفترة أطول.
— يا للسخرية.
لم يستطع مواجهة مشاعره، أو بالأحرى، لم يستطع مواجهة أي شيء متعلق بلينا.
ورغم ذلك، قرر البقاء، لكن فقط… مختبئًا، يراقب من بعيد.
“هاه…”
دخل كارسـيون إلى الحمام وغمر جسده في الماء الدافئ.
حدّق في النقوش الرخامية للحوض للحظة، ثم أمال رأسه للخلف.
كان ذهنه مشوشًا.
بقي مغمورًا تحت الماء، ساكنًا كالميّت.
ثم، حين شعر أنه قد هدأ قليلًا، رفع رأسه ببطء فوق السطح.
لم يكن بإمكانه الهروب إلى الأبد.
ولم يكن يريد ذلك.
“رينيه…”
… سيكون في مشكلة كبيرة إذا ناداها هكذا.
ضيّق حاجبيه وزفر أنينًا خافتًا مليئًا بالإحباط.
ثم حاول مجددًا.
“لينا. لينا. لينا… تبًا.”
أغمض عينيه ببطء وترك مؤخرة رأسه تستند على حافة الحوض بقوة، مُصدرة صوتًا مكتومًا.
كان الصوت مرتفعًا، لكنه لم يشعر بالألم.
لم يكن الألم الجسدي يضاهي الألم الذي يعتصر قلبه.
بعد فترة، نهض من الحوض.
تناثرت قطرات الماء حوله، متلألئة تحت أشعة الشمس الصفراء.
كان ينوي تناول الطعام في غرفته ثم أخذ قسطٍ من الراحة.
لكن خطته تبددت بمجرد أن غادر الحمام.
ما إن ارتدى رداءه الحريري وفتح باب غرفة النوم المتصلة بالحمام، حتى وجد زائرًا غير مدعوٍّ يجلس بكل أريحية على الأريكة.
ارتفع حاجب كارسـيون قليلًا.
“ما الأمر؟ أليس من المفترض أن تستأذن قبل دخول غرفة شخص آخر؟”
“إذن، هذه هي الغرفة التي نشأت فيها؟ لقد أعدت ترميمها بشكلٍ جيد.”
جلس سيدريك متكئًا، ساق فوق الأخرى، وهو يتفحص الغرفة بنظرات تقييمية.
ضيّق كارسـيون عينيه قبل أن يجلس مقابله.
“لست هنا للإطراء، صحيح؟”
“بالطبع لا.”
“إذن، ما الذي تريده؟”
“هل يجب أن يكون هناك سبب دائمًا لرؤيتك؟ نحن أشقاء، أليس كذلك؟”
“وهل نحن كذلك؟”
رمقه كارسـيون بنظرة مستنكرة.
ما هذه المهزلة؟
ظهر سيدريك فجأة، فقط ليبدأ بلعب الألغاز؟
حتى لو أرادوا استخدام كلمة “أشقاء”، فالعلاقة بينهما لم تكن يومًا ودية.
قبل أن يأتي كارسـيون إلى إقطاعية إيفلين للعلاج، كان مجبرًا على تحمل نظرات الاحتقار من سيدريك ومن الإمبراطورة إليزابيث.
وحين عاد إلى شوتزن بعد أن كبر، كانت نظرة الإمبراطورة قد أصبحت أكثر تساهلًا، لكن سيدريك بدأ في معاملته بحذرٍ شديد.
وبعد أن قضى كارسـيون على التنين الأسود، زادت الفجوة بينهما أكثر من أي وقتٍ مضى.
ثم يأتي الآن ليتصرف وكأنهما أخوان حميمان؟ هراء.
لذا، لم يكن أمام كارسـيون سوى أن ينظر إليه بعين الريبة.
“لم أرك في الليل مؤخرًا، أين كنت تنام؟”
“ليس من شأنك.”
“لا تكن قاسيًا، كنت قلِقًا عليك. ماذا لو كنت تنام في العراء؟”
“……”
نمت في العراء. ماذا ستفعل حيال ذلك؟
لكن كارسـيون لم يكترث.
لولا أن سيدريك بدا مستمتعًا جدًا بفكرة السخرية منه، لما ألقى له بالًا.
“تحديقك المستمر يجعلني أرغب في إنهاء حديثي بسرعة.”
تنهد سيدريك، ثم تحدث أخيرًا.
“إنه عن الآنسة لينا.”
“……”
كان كارسـيون يتوقع أن الحديث سيدور حول مجموعة الجمع.
لكنه ذكر لينا بدلًا من ذلك.
إذن، لقد جاء ليثير أعصابي.
لم يُخفِ كارسـيون استياءه.
أما سيدريك، فقد استمتع بملاحظة انزعاجه، بينما كان يداعب ذقنه بيده.
“أنت حقًا… غارقٌ في ظل رينيه إيفلين أكثر مما توقعت.”
“أغلق فمك.”
كانت هناك حدودٌ للصبر المفروض بحكم ترتيبهم كأمراء.
اشتعل الغضب في كارسـيون عندما تفوّه سيدريك باسم “رينيه” بتلك السهولة.
لم يكن بإمكانه التحكم في مشاعره، بعدما فقد كل شيء.
والآن، وُضعت المرأة، التي كانت تجسيدًا لكل شيء فقده، على طاولة النقاش.
“آه، على أي حال، لنعد إلى حديثنا السابق. الآنسة لينا مشرقة ولطيفة للغاية، ألا توافق؟”
“……؟”
“لديها سحرٌ حيويّ، إن صح التعبير.”
“……ما الذي تحاول قوله؟”
اهتزّت عينا كارسـيون الزرقاوان.
لم يكن بإمكانه فهم المغزى وراء إطراء سيدريك للينا.
في الوقت ذاته، تردّد صدى كلمات سيدريك الساخرة التي تفوّه بها قبل أيام، داخل رأسه.
<لهذا السبب لا يمكنك أن تكون أكثر من مجرد صديق.>
إذن؟ ماذا يريد أن يقول؟
هل يمكن أن يكون…؟
لا، هذا مستحيل.
لا يُعقل أن يفكر سيدريك في جعل لينا محظية له، بينما زوجته، الأميرة كيت، ما زالت حية تُرزق تحدّق به بعينين يقظتين.
أن يستخدم سلطته للضغط عليها حتى لا تستطيع الرفض…
في غضون لحظات، أكمل كارسـيون في ذهنه سيناريو رواية مأساوية من الدرجة الثالثة.
ثم، بغضبٍ جامح، ضرب الطاولة بقبضته وهتف:
“هذا غير مسموح!”
رفع سيدريك حاجبًا، ينظر إليه بفضولٍ متزايد.
“ما الذي ليس مسموحًا، تحديدًا؟”
“هذا …!”
كيف يُفترض به أن يصوغ ذلك بالكلمات؟
عضّ كارسـيون على شفتيه، مترددًا.
أما سيدريك، فقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مرحة، وهو يراقب توتر شقيقه الأصغر.
ثم جاءت كلماته، مفاجئة تمامًا لما كان يتوقعه كارسـيون.
رغم أنها لم تكن أفضل بأي حال.
بل لعلّها كانت أسوأ من فكرة وقوعها في مرمى غضب الأميرة كيت.
“كنت أفكر في دعوة الآنسة لينا إلى القصر الإمبراطوري، كصديقة لأمي. اعتقدت أن طاقتها المشرقة قد تساعد في تهدئة أعصابها.”
“……”
فَقَد كارسـيون القدرة على النطق للحظات.
كان هذا تأثير والدته عليه..
حتى بعد أن صار بالغًا، لم يكن قادرًا على التنفس بحرية عند ذكرها.
“هذا مستحيل.”
خرج صوته منخفضًا، دون أي أثرٍ للدفء.
لا يزال الغضب يتأجج بداخله كلما تذكر ما حدث قبل سبع سنوات، في حفل تقديم رينيه للمجتمع.
<كيف تتجرّأ فتاة تافهة مثلكِ على الادعاء بأنها صديقة لأحد الأمراء؟>
استحضر كارسـيون وجه رينيه، التي كانت تكتم دموعها، تقضم شفتها السفلى..
كانت واقفة هناك، يديها متشابكتان على تنورة فستانها، مظهر بائسٌ وضعيف.
<أقنعي كارسـيون بالعودة إلى شوتزن فورًا. إنه ليس شخصًا يجب أن تبقيه بجانبكِ.>
<جلالتكِ!>
حينها، كان قد هرع إلى القصر، بالكاد قادرًا على التنفس.
كان نادما لأنه لم يصل عاجلا.
تلك العيون الخضراء المزرقة التي كانت تنظر إليه بشفاهٍ مضغوطة في صمت.
بعد ذلك، أصبحت الذكريات ضبابية.
يتذكر فقط أنه أمطر إليزابيث بكلماتٍ حادة لا يتذكر تفاصيلها.
يتذكر وجهها المتجمّد من الصدمة.
ويتذكر كيف أمسك بمعصم رينيه، وأخرجها من ذلك المكان اللعين.
بعد أن استعاد كارسيون قدرًا من هدوئه، بدأ يستجوب رينيه بإلحاح عمّا قيل لها قبل وصوله. لكنها ظلت صامتة حتى النهاية.
تلك المشاعر التي كادت تنفجر في ذلك اليوم…
“جرّب فقط أن تمسّ حتى طرف إصبعٍ من رينا.”
هل كان ينوي تكرار الأمر ذاته؟
كان من الواضح كيف ستعامل إليزابيث لينا، التي تحمل وجه رينيه نفسه. لم يكن هناك أدنى شك في ذلك.
“حتى لو كنتَ أخي، لن أتركك تفعل ذلك.”
أمام تلك الهالة القاتلة، لم يستطع سيدريك سوى أن يرفع زاوية شفتيه بالكاد.
لم يكن حديث القضاء على التنين مجرد هراء، على ما يبدو.
للمرة الأولى، شعر سيدريك بفارق المستوى بينهما كفرسان. كان أمرًا محبطًا، لكنه لم يستطع إنكاره.
“… كنتُ أمزح فقط.”
ورغم تراجعه بهذه الطريقة المهينة، لم يكن قد خرج من هذه الزيارة خالي الوفاض.
في أعماقه، ارتسمت على شفتيه ابتسامة راضية.
لقد تجاوز كارسيون مرحلة الارتباك. لم يكن الأمر مجرد التباس بالنسبة له بعد الآن.
لينا كانت بالفعل شخصًا ثمينًا بالنسبة له.
التعليقات لهذا الفصل " 18"