غمر كارسيون جسده في الماء داخل حوض استحمام صنعه من برميل خشبي متعفّن، محدّقًا بسقف الغرفة الرطب.
حتى لو حاول طمأنة نفسه مرارًا، إلا أن مشاعر الإحباط لم تتوقف عن اجتياحه..
“اللعنة…”
دفع ألف لانت مقابل غرفة بائسة بالكاد أفضل من الإسطبل…
هل فقد عقله للحظة؟
خرجت منه كلمات التوبيخ لنفسه دون وعي، لكنه على الأقل كان راضيًا عن كونه وجد مكانًا يبيت فيه.
لو اضطر للتخييم في العراء وصادفه سيدريك، لظل يتعرض لسخريته مدى الحياة.
كما أن حرارة الماء كانت دافئة بما يكفي.
قرر كارسيون التركيز على الأشياء الجيدة فقط.
مع ذوبان إرهاق جسده في المياه، أغمض عينيه للحظة ثم فتحهما مجددًا، وأدار رأسه نحو النافذة الصغيرة بجوار الحوض..
“الموقع ليس سيئًا.”
في الواقع، لم يكن مجرد “ليس سيئًا”، بل كان موقعًا مثاليًا لنصب كمين.
كان هذا النزل يقع في أقصى أطراف القرية، تمامًا على الطريق الذي سيمر منه فريق الجمع صباح الغد. لم يكن هناك احتمال لأن يفوته توقيت مغادرتهم.
لكن فجأة، سخر كارسيون من نفسه بضحكة ساخرة.
“ما الذي أفعله بحق؟”
لو رآه دويمن أو إيفان الآن، لهزّا رأسيهما بيأس ووصفاه بالمثير للشفقة.
كان بإمكانه ببساطة التوجه إلى قصر إيفلين والانتظار هناك، لكنه بدلًا من ذلك، ظل يتتبع فريق الفرسان كما لو كان يلاحقهم..
لكن لينا لم تفارق تفكيره.
أراد البقاء قريبًا منها. ربما إذا بقي في محيطها، سيتمكن من العثور على دليل يربطها برينيه، حتى لو لم تتذكر أي شيء.
ربما من خلال عاداتها، أو الأطعمة التي تحبها..
“الخط وحده لا يكفي.”
كان بحاجة إلى شيء أكثر وضوحًا.
إذا لم يكن هناك دليل قاطع واحد، فعليه تجميع أدلة صغيرة كافية لجعل إنكار الأمر مستحيلًا.
لم يكن من المنطقي أن تتشابه بهذا الشكل مع رينيه، إلا إذا كانت هي نفسها بالفعل.
وكان عليه أن يجد ما يمكن أن يدحض تاريخها مع ليونيل، الذي زعمت أنها عاشت معه منذ أن كانت في السادسة من عمرها.
تنهد كارسيون بعمق. ملأ هواء الحمام الرطب رئتيه ثم خرج منه كمدٍّ وجزر..
“هاه؟”
جاءه صوت متفاجئ من مكان ما في تلك اللحظة.
عاد التركيز إلى عينيه الزرقاوين بعدما كان غارقًا في أفكاره، ثم فتح فمه بدهشة.
“سموك، هل ستبيت هنا الليلة؟”
كانت لينا تلوّح له بمرح.
ظل كارسيون جامدًا كتمثال، بالكاد استطاع رفع زاوية شفتيه بابتسامة متكلفة..
المرأة التي تحمل ملامح مَن يحب، تلوّح له بينما هو بلا قطعة قماش على جسده…
لم يكن هذا وضعًا جيدًا على الإطلاق. بل كان خطيرًا للغاية.
هو في الطابق الثاني، لذا لا يمكن أن تراه، صحيح؟
كان يعرف ذلك منطقيًا، لكنه بالكاد تمكن من الحفاظ على مظهره الهادئ.
“هذا غير متوقع! لم أكن أظن أنك ستقيم في مكان متواضع كهذا!”
بعد أن ألقت نظرة سريعة على محيطها، أضافت بابتسامة مشرقة..
“هل يمكنني الصعود للحظة؟”
***
بعد أن تناولت وجبة عشاء فاقت كل توقعاتي، انتهى بي الأمر بتناول الطعام أكثر مما ينبغي.
لذلك، قررت التجول قليلًا في أرجاء القرية للمساعدة على الهضم..
بالطبع، لم يكن هذا قرارًا طوعيًا تمامًا.
فقد كان جزء منه هروبًا من زملائي الباحثين الذين نزلوا لتناول الطعام في وقت متأخر، بعد أن انشغلوا بالاستحمام وترتيب أمتعتهم.
بعد أن تعرضت للمضايقات طوال اليوم، أصبح تجنّبهم رد فعل غريزي بالنسبة لي.
“يا له من هدوء…”
المشي في الريف بعد فترة طويلة منحني شعورًا رائعًا.
هل مررت بالكثير من الأمور المرهقة في شوتزن؟
كنت أعتقد أنني أحب المدينة الصاخبة والممتعة، لكن بعد قضاء بعض الوقت في الهدوء الريفي، اكتشفت أنه يحمل نوعًا مختلفًا من الراحة العذبة.
“جميل جدًا.”
تمتمت بهذه الكلمات بلا وعي بينما كنت أحدّق في السماء المذهلة..
جلبت الشمس الغاربة بلونها القرمزي الداكن شعورًا غريبًا بالدفء والسكينة.
مشيت ببطء، مستمتعةً بالأصوات الصادرة من خلف الأبواب والنوافذ التي مررت بها، وكأنها موسيقى تصويرية هادئة.
كانت جميع النزل في القرية محجوزة بالكامل لفريق الجمع.
كان من الواضح أن فرسان فونيكس مستمتعون بوجبتهم، حيث ترددت أصوات ضحكاتهم عبر أجواء المساء الهادئة.
استمررت في المشي هكذا، حتى وصلت إلى نهاية القرية.
هل ينبغي لي العودة الآن؟
إذا خطوت بضع خطوات أخرى، سأخرج من نطاق القرية وأصل إلى الحقول.
وبينما كنت أتأمل آخر مبنى يشكّل جزءًا من القرية، رمشت بعينيّ في دهشة..
“هاه؟”
لا بد أنني أتوهم، صحيح؟
لماذا أرى الأمير الذي أعرفه في ذلك المبنى المتهالك الذي يكاد يسقط؟
لكن إدراكي للوضع سرعان ما اتضح.
حتى لو كنت أميرًا، فلا يمكنك الحصول على غرفة إذا لم تكن هناك غرف متاحة، بغض النظر عن مقدار المال الذي تملكه.
التقت أعيننا، فلوّحت له بفرح.
“سموك، هل ستبيت هناك الليلة؟”
رأيت كارسيون يرسم ابتسامة صغيرة، وكأنها تأكيد على ذلك..
“هذا غير متوقع! لم أكن أظن أنك ستقيم في مكان متواضع كهذا!”
بصراحة، كان الأمر مفاجئًا حقًا.
كان عليّ أن أعود بسرعة إلى النزل
ناديت عليه بحماس، لكنني سرعان ما نظرت حولي بسرعة.
بعد أن أمضيت يومًا كاملًا وأنا أتعرض لوابل من الأسئلة حول علاقتي بكارسيون، وكيف يمكن أن نكون مقربين إلى هذا الحد، أصبحت أتوخى الحذر تلقائيًا.
وبعد أن تأكدت من عدم وجود أحد، رفعت رأسي وسألته:
“هل يمكنني الصعود للحظة؟”
كارسيون لم يجب، واكتفى بالتحديق بي بصمت.
ما الأمر؟ هل الصمت يعني الموافقة؟ هل هذا إذن بالصعود؟
لأنني كنت قلقة من أن يرانا أحد، لم أضيع الوقت ودخلت إلى النزل بسرعة.
تردد صوت الألواح الخشبية تحت قدميّ، يعلو مع كل خطوة أخطوها.
كان صاحب النزل جالسًا خلف مكتب الاستقبال، لكنه لم يعرني أي اهتمام حتى بعد أن دخلت.
بل كان غارقًا في عالمه الخاص، يبتسم لنفسه وكأنه في حالة سعادة غامرة..
لا علاقة لي به، يبدو كشخص غريب. من الأفضل أن أبتعد عنه.
أسرعت صعودًا على الدرج، محاوِلةً تقدير موقع الغرفة بناءً على النافذة التي رأيتها من الخارج. من المفترض أن تكون هنا تقريبًا…
طَرق طَرق.
“صاحب السمو، أنا هنا.”
خفضت صوتي قدر الإمكان، لكن سرعان ما جاءني رده المرتبك..
“ا-انتظري لحظة!”
شعرت بالرضا لأنني وجدت الغرفة الصحيحة، فاستندت إلى الباب بينما أنتظر…
صرير—
“آه! لماذا انفتح الباب…!”
“هك! انتظري، لا—!”
بسبب وزني، انفتح الباب الخشبي المتهالك بصوت مزعج، ومعه، تجمدت في مكاني وكأن الزمن توقف.
شعر مبلل يقطر بالماء.
بشرة رطبة ومخملية.
جسد متناسق دون أي شائبة.
ندوب متناثرة هنا وهناك.
ومنشفة واحدة فقط، ملفوفة بإهمال حول خصره.
تقطر… تقطر…
تساقطت قطرات الماء من خصلاته الذهبية المبللة، متباعدة بشكل غير منتظم، كأنها تؤكد لي أن هذا المشهد حقيقي.
هل توقف الزمن؟
كلانا لم يتحرك. لولا صوت الماء المتساقط، لكنتُ صدّقت فعلًا أن العالم كله قد تجمد..
“…كيآآ.”
بعد صدمة متأخرة، رفعت يدي لأغطي عينيّ. لكن… لا يزال بإمكاني رؤيته بين أصابعي قليلًا.
ضيّق كارسيون عينيه بشك..
“ما هذا الصراخ المصطنع؟”
“لماذا… لماذا أنت عارٍ تمامًا؟! قلتُ إنني سأصعد!”
صرخت في ارتباك، لكن ما زاد من اضطرابي أنه، بدلًا من أن يشعر بالإحراج، وضع يده على خصره وتقدم نحوي خطوة… ثم أخرى.
لا، لا تقترب!
هذا محرج جدًا!
لكن، على عكس أفكاري الجريئة، لم أستطع أن أنبس ببنت شفة.
الأسوأ من ذلك، أنه انحنى قليلًا واقترب من وجهي. تسللت رائحة جسده العميقة إلى أنفي، فأحسست بدوار.
“لم أوافق على صعودكِ.”
“أوه… لكنك لم تقل شيئًا، فاعتقدت أن ذلك يعني الموافقة! لو كنت تستحم، كان عليك أن تخبرني!”
أغلقت عينيّ بإحكام، وأردفت كلامي بحزم. كان الأمر محرجًا للغاية..
لو كنت أعلم، لما صعدت أبدًا!
… لحظة؟
لماذا لا يقول شيئًا الآن؟
فتحت إحدى عينيّ بحذر، ووسعت أصابعي قليلًا.
كان كارسيون لا يزال أمامي، على مقربة شديدة. لكنه لم يعد يحدّق بي بنظراته الفاحصة، بل كان ينظر إليّ بملامح محايدة تمامًا.
“ما بكَ؟”
“ماذا تقصدين؟”
“لماذا لا تقول شيئًا؟”
“…هاه.”
تنهد كارسيون بعمق فجأة.
لم أفعل شيئًا يستحق هذا التنهد!
شعرت بالإحباط، لكنني لم أجد ما أجادله به.
حينها، وقف كارسيون مستقيمًا أخيرًا، ونظر إليّ كما لو كنت مصدر صداعه، ثم مدّ سبابته ودفع جبهتي بها برفق.
بدفعة واحدة، تراجعت إلى خارج الغرفة، متعثرة عند العتبة.
“انتظري في الخارج قليلًا.”
“آه، كنت سأفعل ذلك على أي حال! لو كنت أعلم أنك تستحم، لما اقتربت حتى!”
“إذن، اخفضي يديك وأنتِ تتحدثين.”
“…!”
أوه.
أحسست بحرارة مفاجئة في وجنتي..
يجب أن أعود إلى النزل بسرعة
لم يكن عليّ الصعود في المقام الأول. كل ما جنيته هو الإحراج لا غير..
بينما كنت أحاول مغالبة التوتر ومغادرة المكان، أضاف كارسيون تعليقًا متأخرًا.
“لا تذهبي إلى أي مكان. ابقي في الممر.”
“هاه؟”
“سأرتدي ملابسي بسرعة، لذا انتظريني.”
“……”
رمشت بعيني في ذهول، عاجزة عن الرد.
تجسدت في عينيّ صورته وهو يعقد حاجبيه قليلًا، ويمرر يده في شعره قبل أن يشيح بوجهه إلى الجانب.
ربما كان بسبب وهج الشمس الغاربة المتسلل عبر النافذة، لكن بدا لي أن وجهه احمر قليلًا..
“عُدّي حتى العشرة فقط.”
“وهل هذا يكفي؟”
“لا تعدّي بسرعة، خذي وقتك.”
لم أستوعب كلماته تمامًا، لكن رغم ذلك، أومأت برأسي بذهول..
أُغلقت الباب، واختفى كارسيون عن ناظري. بقيت أحدق في الباب لبعض الوقت، ثم أسندت ظهري إلى الجدار وبدأت العدّ في داخلي..
واحد… اثنان… ثلاثة…
هل بسبب ضربات قلبي؟
أشعر أنني أسرعت في العدّ أكثر مما ينبغي. يجب أن أبدأ من جديد.
خفضت سرعتي عن قصد، وأخذت أعدّ ببطء شديد، وكأنني سلحفاة.
وحين وصلت إلى العشرة، وبطريقة غريبة، انفتح الباب تمامًا في تلك اللحظة..
التعليقات لهذا الفصل " 14"