الفصل الخاص 5. أيام هانئة
وُضعت شطائر صدور الدجاج المُحضَّرة بصلصة خاصة، إلى جانب سلطة طازجة، على الطاولة.
بما أن الطقس كان جميلاً، جلسنا في التراس، وكان ذلك اختيارًا موفقًا.
“آه، الجو رائع فعلًا.”
حينما أسندت ظهري إلى الكرسي وأخذت شهيقًا عميقًا، ارتسمت على وجه كارسيون ابتسامة راضية.
“ألم تقولي إنكَ جائعة؟ هيا، تناولي طعامك.”
ثم التقط بنفسه شوكة وغرزها في خصلة من الخس وحبة طماطم كرزية، وقدّمها لي. فتناولت اللقمة مباشرة بفمي.
“طعمه ألذ لأن زوجي هو من يُطعمني.”
“يمكنني إطعامكِ طوال حياتك.”
آه، إنه دائمًا يفاجئني بمثل هذه الكلمات فجأة!
كابرت على قلبي الذي بدأ ينبض بخفة، وتظاهرت بالتماسك وقلت أي كلام لمناورة الارتباك.
“تُلقي كلماتك هذه وكأنها لا تعني شيئًا… لكنها جميلة حتى وإن كانت مجاملة.”
“ليست مجاملة.”
“ماذا؟”
“أنا جاد. سأطعمكِ حتى تصبحي جدّة.”
“……!”
ثم التقط شطيرة ووضعها أمام فمي. وبينما كنت أحدق فيه من الدهشة، لوّح بها وكأنه يأمرني بالأكل، فما كان مني إلا أن أخذت قضمة كبيرة كما أراد.
هممم، لذيذة فعلًا.
بينما كنت أمضغها، وأتذوّق المذاق المنعش والخفيف الذي يملأ فمي، كان كارسيون يرمقني بنظرة ثابتة.
“أهي لذيذة ؟”
“أنتَ حقًا.…”
لديه موهبة في جعل قلبي يخفق بكلمات بسيطة. لا بد أنه يعلم أنه وسيم ويستغل ذلك جيدًا. وإلا، كيف يمكن أن يكون واثقًا هكذا في كل تصرفاته؟
“كلي كثيرًا، استعدّي.”
“……؟”
ماذا يعني بذلك فجأة؟
نظرت إليه في حيرة، فبدا في عينيه الزرقاوين أثر لمكر ودهاء.
“ألم تقولي إنك تريدين طفلًا ثانيًا؟ عليكِ أن تكوني بكامل طاقتكِ.”
“……!”
“سأبذل جهدي من الآن فصاعدًا.”
“لا، لا تقل مثل هذه الأشياء في الخارج!”
“رينيه، صوتكِ عالٍ جدًا.”
“م-ماذا….”
اضطربتُ بشدة وبدأت أحرك شفتيّ كسمكة تفتح فمها وتغلقه.
فما كان منه إلا أن مدّ يده بهدوء، ومسح بابهامه صلصة كانت قد علقت عند طرف فمي، ثم ابتسم بعينيه.
هذا الفتى…
منذ أن أصبح زوجًا، ووجهه يزداد وقاحة يومًا بعد يوم!
سعلتُ بصوت خافت وأخذت أُلقي نظرات خاطفة حولي بتوتر. دون أن أشعر، بدأت أتحقق إن كان أحد الزبائن الآخرين قد سمعنا.
يا إلهي.
أن يقول علنًا شيئًا مثل “سأبذل جهدي”…
لكن، لو فكرتُ فيها، فالعبارة وحدها لا تبدو ذات معنى. يبدو أن كارسيون حقًا يزداد براعة ودهاء مع الوقت.
“تشه.”
رمقته بنظرة زائغة لطيفة، فردّ عليّ بابتسامة مشرقة.
آه، خسرتُ. خسرتُ أمام هذا الوجه المتلألئ.
ثم قال، وكأن أمرًا ما أثقل على صدره:
“لكن، تعلمين…”
في تلك اللحظة، تغيرت ملامح وجه كارسيون قليلًا. بدا وكأنه يفكر بشيء مقلق، وما إن سمعته يتابع، حتى وجدت نفسي أوافقه على القلق دون وعي.
“ماذا لو خسرنا الطفل الثاني لصالح ليونيل أيضًا؟”
حتى البطل الذي هزم التنين كان قلقًا من ألا يكسب محبة طفل لم يولد بعد!
“ألم تكن تقول إننا لن نُنجب طفلًا ثانيًا أبدًا؟”
“هذا…. كان لأنكِ تألمتِ كثيرًا، رينيه….!”
ثم توقّف فجأة، وكأن ذكرى مريرة عادت إليه، فغطى فمه بيده، ثم قال بجديّة:
“لا. لا يمكن. لن ننجب طفلًا ثانيًا.”
“ما هذا القلب المتقلّب؟”
نظرت إليه بذهول، فراح يوضح.
“لا، حقًا لا يمكن. لن يكون في الأمر خير. ستعانين، وبضع طَلَعات يطير بها ليونيل على ظهره، وسيصبح والداه مجرد ذكرى.”
بدا وكأن سحابة كآبة بدأت تغلّف كارسيون من كل اتجاه.
يبدو أن عليّ أن أُخرجه من هذا الحُزن قبل أن يغوص فيه أكثر.
فتحدثتُ بأقصى درجات البهجة.
“ربما يُولد طفل بطبع مختلف.”
رفع كارسيون رأسه، وكأن خيطًا من الأمل قد امتدّ إليه.
“قد يكون من النوع الذي يخاف من الطيران عاليًا. فأنا، على سبيل المثال، أخاف.”
“حقًا؟”
“أجل. لو وُلد طفل يشبهني، فسيكره الطيران حتمًا.”
“.…هكذا إذن.”
أقنعته بسهولة أكثر مما ظننت.
“وقد يُحبّ ميسون اللعب مع شقيقه أكثر.”
“في تلك الحالة، سيكون ليونيل في نفس وضعي أنا.”
“..…”
إذن هكذا تنتهي القصة.
حسنًا، لم يكن ما قاله خاطئًا، لذا اكتفيت بهز رأسي موافقة.
غدت ملامح كارسيون أكثر إشراقًا.
حين أراه على هذه الحال، يبدو لي بسيطًا للغاية.
قد يولد طفل يحمل نفس طبع ميسون تمامًا… لكن، أياً يكن، فذلك أمر مؤجل إلى وقت لاحق.
“هذه السندويشات لذيذة حقًا.”
قررت أن أستمتع بالسعادة التي أمامي الآن أولًا.
***
مضت بضعة أيام.
بسبب وصول زائر غير متوقّع، عمّ جو من الحركة مجددًا في قصر إيفلين.
وبمساعدة الخادمات، تأنقتُ وتهيأتُ كما ينبغي.
“يا لوقاحته فعلاً.”
قال كارسيون، الذي بدا أنيقًا للغاية، معبرًا عن انزعاجه.
فرددتُ عليه بصوت منخفض بالكاد يسمعه.
“هل يعقل أن تقول إن جلالة الإمبراطور وقح؟ أيّ وقاحة هذه؟”
“كان عليه على الأقل أن يُخبرنا بأنه سيأتي.”
“ولو فعل، لكنتَ رددت عليه قائلاً ألا يأتي، أليس كذلك؟”
“… في صف من أنتِ؟”
عندها أطبقتُ فمي سريعًا عند صوته المتجهم.
وفي تلك اللحظة، فُتح الباب، وأعلن الحارس عن وصول الإمبراطور.
كان سيدريك، الذي لم أره منذ فترة، يبدو متعبًا… لا، بل مرهقًا جدًا.
يا تُرى، كيف تمر أيامه في القصر الإمبراطوري؟
“لا بد أنك تعبت من السفر الطويل.”
قال كارسيون ببرود، وبصوت يخلو من أي روح، كأنما يستقبله على مضض.
حتى من دون أن ينطق بشيء، بدا وكأنه يقول له بوضوح: ‘لماذا أتيت من الأساس؟’
ويبدو أن سيدريك شعر بذلك أيضًا، فكانت كلماته الأولى حادّة.
“أردت أن أرى كم أنتما مشغولان حقًا.”
كان قد اختلق عذرًا في السابق بأنه مشغول بسبب ازدياد عدد السكان في الإقطاعية.
لكن مهما حاول التظاهر، فلم يكن ليبدو أكثر انشغالًا من سيدريك الذي يدير شؤون الإمبراطورية بأسرها.
بل على العكس، من وجهة نظري، بدا كارسيون متفرغًا أكثر مما ينبغي.
“كما ترى.”
قالها كارسيون بوقاحة وهو يرفع كتفيه ببرود. كتمتُ رغبة عارمة في توبيخه.
“كما ترى” ماذا؟ لقد انكشف كذبك للتو، وأنا أخجل نيابة عنك!
ومن تلك اللحظة، وجّه سيدريك اهتمامه إليّ.
“مرّ وقت طويل.”
“يشرفني أن ألتقي بجلالتك.”
رفعتُ أطراف تنورتي بكلتا يديّ، وانحنيت في تحية مهذبة، ثم نهضت وأشرت له بلطف للدخول إلى غرفة الاستقبال.
“لقد أعددنا بعض الحلوى والشاي.”
استقبلته بابتسامة مشرقة، لكن وجه سيدريك بدا وكأنه يقول: “ها قد أصبح الزوجان كلاهما بلا حياء.”
لكن، ما حيلتي؟
إن لم أتعامل معه بهذه الطريقة، فسيأخذ كارسيون إلى شوتزن، أليس كذلك؟
وأنا أعترض بشدة على العيش بعيدًا عن زوجي.
كما كنت أرد بلطف على مبعوثيه وأعيدهم، لن أفعل مع سيدريك غير ذلك—أهدئه وأصرفه بلين.
وهكذا، بعد قليل، جلسنا نحن الثلاثة حول الطاولة نحتسي الشاي.
كان النسيم العليل يدخل عبر النوافذ المفتوحة.
“حتى الرياح هنا تبدو مسالمة ومسترخية.”
قال سيدريك بنبرة فيها معنى واضح، وقد فهمتُ المغزى، فأطرقت رأسي بهدوء ورفعت فنجاني.
أما الرد فقد جاء من كارسيون.
“لو غبتُ عن هذه الأرض، فلا أحد يعلم ما قد يحدث.”
“أما في شوتزن، فكل يوم ساحة حرب.”
كان يقصد بذلك: “أرجوك، ساعدني وتعال معي.”
رغم أنه حاول قولها بنبرة رسمية، إلا أن في صوته استغاثة لم يستطع إخفاءها.
ما الذي يشغل باله إلى هذا الحد؟
أليس لديه الحليفتان القوى: الإمبراطورة كيت، والإمبراطورة الأم إليزابيث؟
سرعان ما زالت حيرتي، حين بادر سيدريك بالبوح بصراحة.
“الحاشية الموالية لأمي وتلك التي تلتف حول كيت… باتتا تتواجهان علنًا وبحدة. وأنا عالق بينهما حتى أوشك على الجنون.”
“هذا يزيدني نفورًا من الذهاب.”
قال كارسيون وهو يعقد ساقيه بتكاسل وكأنه يشاهد الحريق من الضفة الأخرى.
ثم التفت إليّ وأردف.
“ولدنا الثاني في الطريق، لذا لا يمكنني الذهاب.”
“أوه، هذا يعني…”
رمق سيدريك بطرف عينه بطني للحظة، ثم صرف بصره.
كان واضحًا أن التوقيت أزعجه، لكنه التزم الأدب وقال.
“هذا خبر مفرح. متى موعد الولادة؟”
“ليس بعد.”
“…؟”
أمال سيدريك رأسه في حيرة. فأوضح كارسيون.
“لم يحدث بعد، لكننا نخطط لذلك.”
“…..”
ارتسم الغضب على وجه سيدريك بوضوح، بينما رفعتُ فنجاني مجددًا لأغطي على توتري.
وفجأة، عمّ الاضطراب خارج الغرفة.
كان ميسون، في عمره الذي يحب فيه المشي أكثر من أي شيء، يخطو بخطوات صغيرة ويقرع الباب بيده:
“ماما… مامـا.”
“هل أتى ميسون الصغير خاصتنا؟”
نهضتُ بسرعة وفتحتُ الباب.
تلاقت عيناي بعيني المربية التي كانت تمشي على مهل إلى جانبه، وبدت على وجهها علامات الحرج كأنها تقول: “أعذريني على المقاطعة.”
لكن… المقاطعة الحقيقية سببها سيدريك، لا أنتما.
أشرت لها بنظرة مطمئنة، ثم انحنيت وحملت ميسون بين ذراعيّ.
وفي لمح البصر، كان كارسيون قد اقترب ووقف بجانبي.
“أعطني إياه، سأحمله.”
“بابا.”
ولدهشة الجميع، انضمّ ميسون إلى والده دون أي مقاومة.
وكان هذا وحده كان كافيًا ليملأ قلب كارسيون بالفرح.
ضمّه إليه بقوة، بينما لمحْتُ نظرات سيدريك نحونا… نظرات امتلأت بالغيرة.
يبدو أن خمول الريف خير من عرش الإمبراطورية، أليس كذلك؟
كم أنا ممتنة لأننا تمكنا، رغم كل ما مرّ بنا، من الحفاظ على أرض إيفلين وجعلها موطننا.
وقبل كل شيء… ممتنة لأن كارسيون وميسون إلى جانبي.
حياة أعيشها مع أحبتي…
أتمنى أن تدوم لنا هذه الأيام المسالمة إلى الأبد.
– نهاية القصة الجانبية –
────── •❆• ──────
بس كذا انتهت القصة😭؟ يالله يارب المؤلفة تنزل أكثر. هو من شفت رواياتها الثانيات كلهم فصول جانبية فوق ال10 ففي أمل نشوف ابنهم الثاني هههههه
و دمتم على خير حتى لقاء آخر~
التعليقات لهذا الفصل " 115"