الفصل الخاص 4. وصيّ
“ما هذا؟”
تراجع كارسيون خطوة إلى الوراء بدافع دفاعي، وكأنه لا يريد أن يُنتزع منه ابنه، بينما بدت ملامحه ممتعضة.
لكن لسوء الحظ، كان ميسون قد لمح ليونيل بالفعل.
“كيييههاها!”
“هل رأيت؟ يكفي فقط أن يراني حتى يُسعده ذلك.”
قال ليونيل وهو يختال، مدعيًا التفاخر، ثم نفخ وجنتيه بتكبّر.
حتى أنا التي كنت أراقبهما من الجوار، وجدته مزعجًا للغاية، فما بالك بكارسيون؟ لا يسعني إلا أن أتمنى ألا يتشاجر هذان الرجلان أمام ميسون مجددًا.
حسنًا…
بعد كل شيء، لقد عشنا هكذا لعدة سنوات بالفعل، لذا لم أكن قلقة جدًا في الحقيقة.
كانا، على الأقل، يحاولان كبح نفسيهما أمام ميسون.
أتذكر مرة، حين انفجر الصغير باكيًا من الخوف، فوقف كلاهما عاجزًا لا يعرف كيف يواسيه.
وفي النهاية، لم يهدأ إلا بعد أن احتضنته أنا.
“سيمنحك وصيّك تجربة لعب من مستوى آخر!”
هتف ليونيل وهو يمد يديه فجأة ليأخذ ميسون من على كتفي كارسيون، فما كان من هذا الأخير إلا أن وجّه إليه نظرة حادة.
“ومن تظن نفسك حتى تكون وصيّ ميسون؟”
“آه، ألم تسمع؟”
أوه لا… لقد وقعت الكارثة.
لم أكن قد أخبرت كارسيون بعد…
ارتبكت تمامًا وبدأت أتمتم بتلعثم.
“في الحقيقة… لم يُحسم الأمر بعد. كنت أنوي أن نناقشه معًا، طبعًا… ههه…”
حاولت التملص وأنا أحك خدي بخفة بإحراج، وفجأة تغير تعبير ليونيل، الذي بدا وكأنه يستمتع بسر مشترك بيننا، إلى ملامح قاتمة.
ليس أن ملامح كارسيون قد أصبحت أفضل حالًا…
“رينيه، أنا أرفض. أن أوكل ميسون لهذا الوغد؟”
“لكنك توكله إليه كل يوم بالفعل.”
غمغم ليونيل، وقد خفت حماسه فجأة.
“ولِمَ نحتاج إلى وصي أصلاً؟ هل ينقصنا شيء؟”
كان وجه كارسيون يخبر بعدم تفهمه التام للأمر.
لم تكن ردة فعله هذه غير متوقعة.
فصحيح أننا نعيش حياة هادئة في الريف، لكن هذا لا يعني أن عائلتنا بلا شأن.
فنحن، من جهة النسب، نملك دماء ملكية، وكارسيون معروف بكونه بطل الإمبراطورية وصائد التنين.
في ظل هذه الظروف، من يجرؤ أساسًا على المساس بميسون؟
الأهم من ذلك كله أننا، كارسيون وأنا، بصحة جيدة، وأمامنا سنوات طويلة لنعيشها.
لكن مع ذلك…
“لا أحد يعلم ما تخبئه الأيام.”
“…..”
تصلّبت ملامح كارسيون على الفور، وراح يحدق بي وكأنه يتحداني أن أتابع كلامي.
وفي تلك اللحظة، استغل ليونيل الفرصة وسرق ميسون من بين ذراعيه..
ابتسم الطفل بفرح أكبر مما كان عليه قبل لحظة، وكأن قلبه بالفعل مع وصيّه المحبوب.
فدائمًا ما يكون ظهور ليونيل متبوعًا بلعبٍ مسلٍ لا مثيل له.
“فكر في الأمر.”
بدأت أحاول إقناعه:
“من الطبيعي أن نرحل عن هذه الحياة قبل ميسون، أليس كذلك؟”
“وماذا في ذلك؟”
“ألن يكون رائعًا لو كان ليونيل سندًا قويًا له في ذلك الوقت؟”
“حين يكبر، سيكون قادرًا على الاعتماد على نفسه.”
“أنا أقصد، ماذا لو أننا…..”
“رينيه.”
قاطعني كارسيون، وقد بدا عليه الانزعاج الشديد من مجرد سماع الفكرة، ثم قال بصرامة وكأنه يضع حدًا نهائيًا للنقاش:
“هذا الوغد يحاول التطفل والعيش على حسابنا، لا أكثر.”
“ماذا؟”
تفاجأت تمامًا، لكن كارسيون أشار إلى ليونيل بإصرار، وكأنه على يقين من كلامه.
وكان ليونيل قد أكمل تحوّله إلى تنين صغير لتوه، وما إن انتهى من تعويذة التحوّل حتى ردّ وهو يعبّر عن استيائه:
– ولماذا قد أعيش على حساب أحد؟
صدح صوته داخل رأسي، فالتفتّ بسرعة إلى ميسون.
لكن الطفل، وقد اعتاد اللعب مع التنين، لم يُبدِ أي ذرة خوف.
بل على العكس، بدا متحمسًا وهو يتسلق ظهر التنين الأحمر.
– أنا غني! عندي كنز ضخم في عريني!
“وماذا يفيدك ذلك؟ ما دمت بلا منزل وتعيش هنا معنا!”
– لو منحتني أرضًا أعيش عليها، لذهبت فورًا!
“لقد منحتك بالفعل.”
قالها كارسيون وهو يومئ بذقنه إلى مكان بعيد.
أطلقت تنهيدة طويلة دون صوت. نعم، لقد منحه قطعة أرض…
لكن أين؟ في قلب جبال دينيبروك الموحشة! من ذا الذي يعيش هناك؟
تلك لم تكن سوى منحة اسميّة، لا تصلح لشيء.
مع أن الحقيقة تبقى، حتى لو منحه أرضًا حقيقية، ليونيل ما كان ليغادر ويتركنا ليعيش هناك وحده.
“بابا!”
صرخ ميسون بحماس في تلك اللحظة، وهو يلوّح بذراعيه وساقيه كما لو كان يقول: هيا، انطلق!
– حسنًا، سأكون والدك!
“من والد من، أيها الوغد…!!”
كان يعلم تمامًا أين يضغط، وهذا ما فعله.
ثم بدأ ليونيل الطيران بخفة وأناقة، مبتعدًا شيئًا فشيئًا، بينما راح كارسيون يزفر بغضب وهو يراقب التنين الأحمر وهو يبتعد.
لو رآنا أحد، لظن أن الطفل قد اختُطف!
“إلى متى ستستمر في مناداته بالوغد؟”
“هل هذا ما يهم الآن؟”
انفلت صوتي عاليًا دون أن أشعر، فأجفل كارسيون من ردّة فعلي.
فهو لطالما كان يحدثني بنعومة وهدوء.
“أنا آسف.”
أغلق عينيه ببطء وبدت عليه ملامح الندم، فبدا لي لطيفًا للغاية.
يا له من أمر بسيط، صوتي ارتفع قليلًا فحسب، ولا بأس في ذلك.
لكن، بما أنني شعرت برغبة في المزاح، تعمّدت أن أبدو متجهمة، وما إن فعلت، حتى راح كارسيون يحدّق في وجهي بعينيه اللامعتين، وكأنه يتوسل إليّ أن أرضى عنه.
رجل بالغ يتصرف بدلال خفيّ…
في تلك الحالة، لا يمكنني أن أستمر في مداعبته طويلاً.
“هل نخرج في موعد؟”
ابتسمتُ ورفعتُ زاوية فمي بخفة، ففتح عينيه الزرقاوين قليلاً بدهشة، ثم سرعان ما انحنى شكل عينيه بابتسامة رقيقة.
“لنفعل ذلك.”
نادراً ما أتيحت لنا فرصة أن نبقى بمفردنا خلال النهار. بدا لي أنه سيكون ممتعًا أن نذهب إلى المدينة ونتجول قليلاً معًا.
ـــ شششش…
امتزج صوت الريح وهي تشق الهواء مع رقص أوراق الشجر.
نظري ونظر كارسيون توجها في الوقت نفسه إلى نفس الجهة.
“كياا! بابااا!”
كان ليونيل يحلق على ارتفاع خطير يكاد يلامس رؤوس الأشجار.
أما ميسون، الذي كان على ظهره، فقد مد ذراعيه إلى الأسفل مستمتعًا بعناق الأوراق كأنها بساط أخضر.
كم يبدو الأمر ممتعًا بالنسبة له.
لطالما كان عليه أن يمد يده عاليًا كي يلمس تلك الأوراق، أما الآن فقد أصبحت تحت قدميه، وهو يطير بها بسرعة هائلة.
إنه يلهو معه جيدًا حقًا…
نظرت إلى كارسيون بطرف عيني.
“أ… هيا بنا بسرعة.”
على ما يبدو، لم يكن من السهل منافسة ليونيل كرفيق للعب.
***
كان الشارع المزدحم ينبض بالحياة.
أمسكنا بأيدي بعضنا البعض وسرنا جنبًا إلى جنب، مستغرقين في شعور يشبه أولى أيام المواعدة.
منذ ولادة ميسون، لم تتسنَّ لنا فرصة كهذه إلا نادرًا.
“الوصي؟ تبًّا له.”
على الرغم من يدينا المتشابكتين بود، إلا أن صوته الخافت الذي وصل إلى أذني كان خشنا.
“كنت لأطلب من السيد أولاند، معلمي، أن يتولى الأمر بدلًا من ذلك.”
“لكن أليس المعلم أكبر منّا سنًّا؟”
“وما المشكلة؟”
“ألا تعتقد أن من غير المناسب أن نطلب من شخص فرص وفاته قبلنا أعلى منّا؟”
“….رينيه، لا تتحدثي عن أمور كهذه بذلك الوجه الهادئ.”
“هم؟”
أنت نفسك قلت أشياء أسوأ عن ليونيل، فلم هذا الاعتراض؟
ورغم أنني شعرت بالاستغراب، إلا أنني التزمت الصمت، لأني أعلم ماذا يعني المعلم أولاند لكارسيون.
فرغم طريقته الفجّة، فقد كان ذلك الرجل هو من جعل كارسيون المريض الهزيل يصبح قويًا كما هو اليوم.
“حسنا، هو ليس الخيار الأنسب.”
“إذًا لماذا اعترضتَ عليّ منذ البداية؟”
وعندما عبرت عن امتعاضي، هزّ كارسيون رأسه نافيًا أن يكون السبب هو كِبَر سنّ المعلم.
“بعيدًا عن احتمال موته أولاً، هو يتنقل كالريح في كل مكان.”
ضحكتُ بصوت خافت. كان هذا سببًا معقولًا بالفعل.
ليس فقط أنه لن يتمكن من أداء دور الوصي، بل إن احتاج ميسون إليه في لحظة حرجة، فقد يضطر للبحث عنه في أنحاء القارة كلها.
والآن وقد تطرقنا إلى الموضوع، شعرت بالفضول فجأة.
“ألم تتلقَّ رسالة من معلمك أولاند مؤخرًا؟”
سألتُ وأنا ألوّح بيدينا المتشابكتين كالأرجوحة، فأجابني كارسيون فورًا بأنه تبادل الرسائل معه منذ وقت قريب.
“يبدو أنه لا يزال على الساحل الذي اكتشفه العام الماضي.”
“لماذا يقيم هناك كل هذا الوقت؟”
“قال إنه تعرّف على متعة الصيد. ودعاني للانضمام إليه، لكن هل جنّ؟ أتراني أذهب إلى هناك؟”
رغم ما يقوله، إلا أنني أعلم أنه يرغب بذلك.
كنت على استعداد للسماح له بالذهاب لبضعة أيام إن أراد.
“أسبوع واحد لا بأس به، أليس كذلك؟”
تحسست رأيه بنبرة مترددة، لكن ردّه جعلني أتراجع عن كرمي بسرعة.
“إن ذهبتُ، فربما يحتجزني هناك لثلاثة أشهر.”
“إذًا لا. مستحيل. لن أدعك تذهب.”
“هاهاها. ما هذا الآن؟”
ضحك كارسيون بمرح حتى ظهرت تفاحة آدم في حنجرته، وكأنه سعيد بقيودي كزوجة عليه.
تمتمتُ بجدية.
“أريد أن أنجب أخًا صغيرًا لميسون.”
“هاها… ماذا؟”
توقف عن الضحك فجأة، وحدّق فيّ بدهشة.
“أتعلم، كارسيون؟”
“نعم؟”
“وصي الطفل الثاني أيضًا سيكون ليونيل.”
“…هل كان عليكِ حقًا قول هذا الآن؟”
قطّب كارسيون حاجبيه، وكأنني أفسدت الأجواء الجميلة، فابتسمت له بعينين منحنية.
“وليس ميسون والطفل القادم فقط، بل ليونيل وعد بأن يكون سندًا لكل ذريتنا، جيلاً بعد جيل.”
“…هل قال ذلك الفتى هذا حقًا؟”
كانت نبرة كارسيون قد هدأت مقارنةً بما كانت عليه عندما صاح: “من تظن نفسك؟” بل إن طريقة مناداته له تغيّرت من “ذلك اللعين” إلى “ذلك الفتى”.
في الحقيقة، أعتقد أنه يثق به كما يثق بمعلمه أولاند.
لا أدري لمَ، لكن قلبي امتلأ بالدفء، وكأن مشاعر ليونيل الصادقة قد وصلتني.
التعليقات لهذا الفصل " 114"