الفصل الخاص 1. المرتبة الثالثة
كانت أوراق الأشجار تتمايل بلطف مع نسيم الجبل.
أغمضتُ عينيّ ببطء، وأنا أشعر كأن أذني تستمتعان بعزف الطبيعة الهادئ.
آه، أشعر وكأنني أعيش أخيرًا… هذا فعلاً يبعث على الاسترخاء.
حين مددت جسدي على المقعد تحت أشعة الشمس الساطعة، بدأ جسدي المنهك، الذي لم أدرك حتى أنه متعب، يذوب ببطء.
حقًا… رعاية الأطفال أمر شاق.
من الغريب أن تكون لحظة الراحة القصيرة بهذه الحلاوة.
استمتعت بأشعة الشمس الذهبية وكأنها مهمة مقدسة يجب أن أنجزها كلما أتيحت الفرصة.
لا أدري كم مضى من الوقت على ذلك.
“رينيه، كنتِ هنا؟”
كنت أرغب في الاستمتاع بوقت أطول وحدي، لكن صوتاً ناعمًا أيقظني.
سيكون كذبًا لو قلت إنني لم أنزعج من انقطاع هذه الراحة الحلوة، لكن الصوت كان صوت زوجي العزيز، وهو كفيل بأن يطغى على أي انزعاج.
فتحتُ عيني ببطء.
كان كارسيون يحدّق بي وهو يبتسم بابتسامة جميلة.
“وأين ميسون؟”
سأل بلا حماس عن مكان ابننا، ثم جلس إلى جانبي فجأة.
وبكل طبيعية، استلقى على فخذي وكأنه أمير مدلل، محولاً فخذي إلى وسادة.
“أخذه ليونيل.”
“مجدداً؟”
هو دائمًا في صراع بين الرغبة في إبقاء ابننا بجانبه، والانزعاج من التصاقه بي كثيرًا، والآن لا يبدو سعيدًا حتى مع ذهابه إلى ليونيل.
كان يعبس بشدة، وكان مظهره وهو منزعج يبدو ظريفًا.
“هل تريدني أن أعيده؟”
“لا.”
ألن تتردد ولو لثانية؟ إنه ابنك، على الأقل تظاهر بأنك تفكر…
كلمات أردت قولها وصلت حتى حلقي، لكنني لم أتمكن من قولها.
ليس لأنني لم أرد، بل لأنني لم أستطع… فقد بدأ كارسيون يعبث بفخذي.
“كارسيون، نحن في الخارج.”
“أعرف.”
“ماذا لو رآنا أحد؟”
“مرّ على زواجنا ثلاث سنوات، إلى متى سترددين نفس الكلام؟”
“تشش.”
رمقته بنظرة مستنكرة دون أن أتمكن من كرهه فعلاً، ثم ضربت جبينه بخفة لأنه كان وقحًا للغاية.
“آي.”
كان صوته بلا إحساس، فقط قالها لأداء الواجب، ففي النهاية، هو البطل الذي واجه تنينًا.
ضحك كارسيون بعينين مقوستين.
“يا له من وقت جميل… أخيرًا أستطيع الاستحواذ على زوجتي بما أن ابننا غير موجود.”
“وتقول هذا بينما كنت تموت من الحسرة إن لم يبحث ميسون عن أبيه.”
“ذاك لأن….”
“هل ذهب الشخص الذي أرسله جلالته؟”
قاطعتُه قبل أن يبدأ بالتذمر، وسألته عن زائره الذي كان مشغولًا في استقباله منذ قليل.
كارسيون أغمض عينيه بتعب، وكأن تذكر الأمر وحده يزعجه.
“أخي يصرّ على تكليفي بكل شيء.”
“هذا لأنك كفء.”
“بل لأنه لا يطيق رؤيتي مرتاحًا.”
“ههه، لستُ في موقع يسمح لي بإنكار ذلك….”
لا يمكنني إنكار الأمر حقًا.
رغم أنه يتولى إدارة إقليم إيفلين المزدحم بالسكان، بالإضافة إلى تأمين الحدود الغربية، إلا أن كارسيون كان غريبًا في هدوئه وكأنه في عطلة دائمة.
وكأن لا شيء مهم يحدث في منطقته.
لأن الأرض التي يحرسها الأمير الثالث بطل الإمبراطورية، ومعه التنين الأحمر، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها.
كل من يحب حياته يحرص على أن لا يلفت أنظار الأقوياء.
لم أكن أنا ولا كارسيون ولا سيدريك نصرّح بذلك، لكننا كنا نعلم ضمنًا أن السلام سببه تلك الهيبة.
أن تحافظ على السلام بوجودك فقط، أليس هذا بحد ذاته قدرة عظيمة؟
كنت أتفهم سبب رغبة سيدريك في إغراقه بالمزيد من المهام.
لكن من ناحيتي، كنت أرجو في قلبي أن يكون كارسيون قد رفض جيدًا، لأنني لم أرد أن يُؤخذ مني.
“هدأته وأعدته، أعطيته حتى تقريرًا عن ازدياد عدد سكان الإقليم مدعيًا أنني مشغول.”
“أحسنت.”
لا أعرف لماذا يبدو لطيفًا هكذا وهو يتذمر كطفل، رغم أن كلامه عن مواضيع جادة.
ربما لأنه كان يستلقي على فخذي.
داعبتُ خصلات شعره الذهبية الناعمة وسألته:
“لكن، ماذا لو أرسل جلالته شخصًا آخر في المرة القادمة؟”
لم يكن سؤالي بدافع القلق فقط، بل كان أمرًا محتملًا للغاية.
ففي المرة الماضية، رغم أنه صرف المبعوث بالكلام المهذب، عاد وأرسل وزيرًا آخر يحمل نفس الأمر الممل للصعود إلى شوتزن مجددًا.
“لا أعلم، سنرفض مجددًا عندما يحين الوقت.”
أجاب كارسيون بلهجة متجهمة.
يبدو أن تقديم مبررات معقولة في كل مرة لرفض الأوامر الإمبراطورية أمر مرهق بالنسبة له أيضًا.
ربّتُ بإصبعي السبابة على ما بين حاجبيه المشدودين، فبدأت ملامحه تتراخى شيئًا فشيئًا.
رغم ذلك، لم تختفِ ملامح التبرم تمامًا، وكأن مجاراة سيدريك ما زالت مزعجة له.
“بالمناسبة، بماذا رفضتَ أول مرة؟”
بدأ سيدريك بإغراءات الصعود إلى شوتزن منذ العام الماضي.
قال إن شؤون الدولة كثيرة، ويجب أن يتحمل كارسيون بعض المسؤوليات كونه أحد أفراد العائلة الإمبراطورية.
فردّ عليه كارسيون دون أن يرف له جفن:
“قلت إن الإشراف على مقاطعة إيفلين والحدود الغربية وحده مرهق بما فيه الكفاية.”
“فردّ بأنّه سيرسل طاقم دعم لك، حتى لا يكون عليك سوى استلام التقارير فقط، وطلب منك أن تصعد إلى شوتزن.”
“فحينها استخدمت عذر ميسون.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على طرف شفتي كارسيون.
قال إنه لا يستطيع الابتعاد عن ابنه الصغير ولو خطوة، واستدلّ بجراحه الماضية الناتجة عن افتقاده لحب والديه في طفولته، مما ألجم سيدريك عن الرد.
فكيف له، هو الذي أدار ظهره للأمير الثالث الضعيف والمريض في الماضي، أن يُصرّ الآن؟ لم يكن أمامه سوى الرضوخ حتى يكبر ميسون.
لكن سيدريك لم يكن من النوع الذي يستسلم بسهولة. بل، ينبغي القول إنه من النوع العنيد إلى حد مزعج.
أنا وكارسيون شعرنا بالارتياح، واعتقدنا أنه لن يُزعجنا بشيء لعدة سنوات على الأقل، ما دام ميسون لا يستطيع نطق الكلمات بعد، ولكن سيدريك تصرف بدهاء.
ففي الوقت الحالي، هناك خمس مربيات في منزل إيفلين وحده.
كتبنا إليه نخبره أن هذا العدد مبالغ فيه ولا حاجة له، لكنه ردّ بأنّ الإفراط خيرٌ من النقص.
وبهذا، أصبحت جميع المربيات لا يفعلن شيئًا سوى مراقبة ميسون الصغير.
لأن ابننا العزيز كان خجولا، فلا حاجة حقيقية لهن.
مع ذلك، لم يكن وجودهن عديم الفائدة تمامًا.
“لا أعلم إن كنّ مربيات أم جواسيس.”
قلت مازحة وأنا أضحك، فتنهّد كارسيون بوضوح، دون أن يخفي ضيقه.
“يجب أن أطردهن جميعًا.”
“لكننا لا ندفع رواتبهن على أية حال.”
فهنّ تابعات للقصر الإمبراطوري مباشرة، أي أنهن من موظفي سيدريك.
وأظهرن ولاءً مطلقًا للإمبراطور، مما يعني أنهن لم يترددن في إيصال حقيقة مريرة لسيدريك، وهي أن ميسون لا يفتقد والده كثيرًا.
وبذلك، تلاشت فائدة العذر الذي استخدمه كارسيون.
وبما أن سيدريك حصل على هذه المعلومة الجديدة، فقد بدأ من جديد بإرسال مبعوثين، حاثًّا كارسيون على الانضمام للسياسة المركزية في شوتزن.
وفي كل مرة، كان كارسيون يجتهد في تأليف أسباب جديدة ومبتكرة تجعله مضطرًا للبقاء في مقاطعة إيفلين.
“يبدو أن الدم لا يكذب. أفعال سيدريك لا تختلف كثيرًا عن والده.”
كان هدف سيدريك واضحًا. يريد أن يعزز موقعه بوجود شقيقه، ويريد منه أن يحدّق بنظرات صارمة في وجه النبلاء ليخيفهم.
فهو يرى أن أخاه ثمين جدًا على أن يُركن في مقاطعة نائية كهذه.
“لكن، ألا تظن أن سيدريك يختلف قليلًا عن هاينريش الثالث؟”
بصراحة، كنت أحب سيدريك. لم أكن مرتاحة تمامًا لوضعه في نفس المرتبة مع الإمبراطور السابق الذي أُعدم.
صحيح أن عالم السياسة يقتضي أحيانًا أن تظهر فيه الجوانب المظلمة، لكن سيدريك على الأقل بدا صادقًا في رغبته بخدمة البلاد.
ولم يكن من النوع الذي يُظهر شيئًا ويُخفي نقيضه.
“ربما.”
أجاب كارسيون باقتضاب، متظاهرًا بعدم الاكتراث، وهو يشيح بنظره جانبًا. يبدو أنه يجد صعوبة في مدح شقيقه ولو بشيء يسير.
آه… كم أنه غير صريح.
“كياهاها! كياهاهاها!”
في تلك اللحظة، انطلقت ضحكات طفل بريئة وعذبة. أنا وكارسيون رفعنا أبصارنا في الوقت نفسه إلى الأعلى.
“… أليس هذا خطرًا؟”
ضاق كارسيون عينيه فجأة، ثم قفز واقفًا وأشار بسبابته إلى السماء.
“ليونيل! أنزل ميسون حالًا!”
“دعه وشأنه، ميسون يبدو مستمتعًا.”
قلت له محاولة تهدئته، فاستدار إليّ بملامح مصدومة وكأنني طعنته في الظهر.
حككت خدي بخجل.
“هل تظن أن ليونيل قد يُسقطه حقًا؟ لا تنسَ أنه تنين، رغم مظهره ذاك.”
“لكنه أضعف مني.”
يا له من طفل كبير…
عجزت عن الرد للحظة، لكنني تمالكت نفسي وتابعت محاولتي لإقناعه.
“أنت فقط قوي جدًا. وبالنسبة لليونيل، فإن ردود أفعاله سريعة كفاية ليمسك حتى طفلًا يسقط.”
“رينيه، نحن نتحدث عن ابننا. يجب أن نكون أكثر حرصًا…”
“ربما لا تعرف، لكن هذه ليست أول مرة يلعب معه بهذه الطريقة.”
“ماذا؟”
“كلما حاولت إبعاده عني، يبكي باستمرار. لكن بمجرد أن يحمله ليونيل على ظهره ويطير به، ينساني تمامًا.”
ثم رفعت عينيّ مجددًا.
كان ليونيل، على هيئة تنين صغير، يحلّق في سماء المقاطعة وعلى ظهره ميسون يضحك بسعادة غامرة.
“ليونيل يساعدني لأتمكن من أخذ قسط من الراحة.”
“يعني أن…”
“مم؟”
انبعث من كارسيون جو كئيب فجأة.
وبما أن كلماته خرجت كهمسة بالكاد تُسمع، اقتربت منه خطوة، فاستدار إليّ بوجه كمن سيتجهش بالبكاء.
“يعني أنني… في المرتبة الثالثة بالنسبة لميسون؟”
التعليقات لهذا الفصل " 111"