الفصل 109. رجل كريم
استمر حفل الاستقبال طويلاً.
كان كارسيون يواجه الناس من حوله بابتسامة مهذبة، ممسكًا بكأس شمبانيا بتراخٍ في يده.
ومع ذلك، لم تتوقف عيناه عن تتبع رينيه كلما سنحت له الفرصة.
إنها جميلة حقًا.
فستان الزفاف الذي ارتدته في الحفل الرسمي كان ناصع البياض وكأنها ملاك، أما الآن فهي تبدو كجنية في فستان حفل الاستقبال… جميلة للغاية.
عن أي حديث يتبادلون ليجعلها تضحك هكذا؟
انظر كيف تنسجم مع باحثي برج السحر.
شخصيتها لطيفة، لذا من الطبيعي أن تحظى بشعبية لدى الجميع.
كما هو متوقع، رينيه التي تخصني، هي الكمال بعينه.
لو تمكن أحدهم من فتح رأسه ورؤية أفكاره، لهزّ رأسه باشمئزاز وهو يشيح بنظره.
كارسيون، الذي كان يفكر بذلك، رفع الكأس إلى شفتيه بهدوء.
“لا تستطيع أن تبعد عينيك عن العروس، أليس كذلك؟”
في تلك اللحظة، همس صوت إيفان في أذنه بخفة.
ضحك الحضور المحيطون بكارسيون وكأنهم يوافقونه على كلامه.
لو كان في يوم عادي، لشعر كارسيون بالتعب من المجاملات والضحك الرسمي، لكن اليوم لم يكن كذلك.
ربما بسبب سعادته التي كانت تعانق السماء، ارتسمت على شفتيه ابتسامة صادقة.
“إنها جميلة، أليس كذلك؟”
“…..”
رغم أنه لم يقصد أن يفصح عن ذلك بصوت عالٍ، خرجت كلماته، مما أثار نظرة منزعجة في عيني إيفان.
أما الآخرون، فقد وجدوا في الأمر متعة وضحكوا بحرارة.
يا للعجب، بطل الإمبراطورية يبدو وكأنه مخطوف الروح بهذا الشكل!
كان مشهدًا نادرًا، لا يُرى إلا مرة واحدة في الحياة.
“قيل إنكما أصدقاء منذ أن كنتما في الثامنة من عمركما، أليس كذلك؟”
سألت إحدى الآنسات، لكن أحدهم أجاب قبل أن يفتح كارسيون فمه.
“هل هناك من لا يعرف ذلك؟”
“بالطبع نعرف. فقط سألت مجددًا لأن الأمر يدهشني. أن يبقى قلب المرء ثابتًا هكذا… الآنسة إيفلين محظوظة حقًا.”
نظرتْ إلى رينيه بنظرة صادقة يغمرها الحسد، بعد أن كانت تتأمل وجه كارسيون الوسيم.
كان من الصعب التحدث الآن عن الإمبراطور المخلوع هاينريش الثالث، لكن في وقت ما، حاول جاهدًا تزويج ابنه الثالث إلى إحدى العائلات المرموقة.
ولعل عددًا غير قليل من السيدات الحاضرات كنّ ضمن تلك القائمة.
والآنسة التي طرحت السؤال، كانت من بينهن.
مجرد ذكر اسمها على مائدة العشاء مع كارسيون جعلها تنسج قصة رومانسية حالمة مع البطل الوسيم.
لكن بسبب برود كارسيون الواضح، استيقظت من حلمها سريعًا.
لم تحظَ حتى برؤية وجهه.
فهذا الرجل المتعجرف لم يكن يحضر أي حفل، وكانت تذهب كل مرة متزينة على أمل رؤيته، لتعود بخيبة أمل.
كان ثمينًا إلى هذه الدرجة…
“أتمنى أن تستمتعوا جميعًا دون تقصير.”
كارسيون لم يقدر أن يبعد نظره عن رينيه إيفلين حتى لو بدا الأمر مبالغًا فيه.
عيناه الزرقاوان الباردتان سابقًا كانت تتقطر عسلًا طوال اليوم.
مجرد رؤيته يكفي لجعلك تصابين بالتسوس من فرط الحلاوة.
“هل سترحل الآن؟”
سأل أحدهم بنبرة مفعمة بالأسف، فابتسم كارسيون بابتسامة صغيرة وحاسمة بدلًا من الرد.
كان واضحًا أنه راحل.
بل من المؤكد أنه كتم هذه الرغبة طويلًا قبل أن ينطق بها أخيرًا.
شعر الحاضرون بأن لا شيء يمكن أن يثنيه عن قراره، فاكتفوا بتقديم التهاني حفاظًا على كرامتهم وهيبتهم.
“نبارك لكما زواجكما، سمو الأمير.”
“نتمنى لكما أيامًا سعيدة دائمًا.”
“لا تنسَ أن تزورنا في شوتزن مع سموّها زوجتك. سنكون سعداء بدعوتكما إلى أي حفل تقيمه عائلتنا.”
حتى حركاته البسيطة في إيماءة رأسه كانت أنيقة كالبجعة.
نظر كارسيون إلى إيفان قبل أن يغادر.
“هل ستذهب الآن إلى مقاطعة هيلغريت؟”
“أخيرًا ستدعني وشأني.”
“أعتقد أن هذه ستكون آخر مرة.”
“نعم سأذهب بسرعة. بدأت أشعر بالملل من سموك.”
مزحة كهذه لا يمكن أن يطلقها سوى إيفان.
تبادلا نظرات مازحة.
لم تكن هناك حاجة لوداع حنون.
لا لعبارات مثل “سأدعم طريقك دائمًا” أو “ستكون غيبتك مؤلمة”.
فهما رفيقا السلاح، يثقان في ظهر كل منهما على أخطر الجبهات.
ضحكة صغيرة خرجت من الاثنين في الوقت نفسه.
وكان هذا كافيًا ليكون وداعًا بينهما.
تحرك كارسيون مبتعدًا بخطوات طويلة، مغادرًا الحشد.
رينيه إيفلين.
كل خطوة باتجاهها كانت طبيعية تمامًا.
كما تشرق الشمس صباحًا، وتظهر القمر والنجوم ليلًا.
توجهت الأنظار إليه شيئًا فشيئًا، حيث بدا وجه العريس السائر نحو عروسه مشرقًا بالسعادة.
أيمكن أن يكون سعيدًا إلى هذا الحد رغم أنهما معًا منذ أن كانا في الثامنة؟
حسنًا…
فهو حبٌّ اِعتقد أنه فقده إلى الأبد، ثم استعادته من جديد.
رينيه، التي كانت تتحدث مع أفراد برج السحر وتضحك، التفتت إلى الوراء.
رأى كارسيون المشهد ببطء وتفصيل، كأن عينيه تسجلانه بدقة.
تلك العينان الزمرديتان اللتان التفتتا إليه بلطف… كانتا رائعتين للغاية.
شعر وكأن قلبه سينفجر من فيض المشاعر، بلا أي مبالغة.
“رينيه.”
نطق اسم زوجته بصوت خافت، محاولًا قمع الارتجاف الذي بلغ حنجرته.
ابتسمت رينيه ببهجة.
“كارسيون.”
“الحفل سيستمر حتى وقت متأخر من الليل.”
“آه، نعم…..”
توردت وجنتا رينيه بلون وردي جميل.
ارتفعت زوايا شفاه زملائها في برج السحر جميعًا في الوقت ذاته.
تبادلوا النظرات بسرعة، وبتفاهم صامت.
لنفسح لهما المكان. لا يجب أن نزعج العروسين. هيا نلهُ نحن بمفردنا.
كما حدث ذات مرة عندما كانوا في طريقهم إلى مقاطعة إيفلين، وجلسوا على العشب يتناولون الغداء، فنهض الجميع عندما اقترب كارسيون، وابتعدوا ليتركوهم وحدهم…
بدأ الباحثون يتراجعون خطوة بخطوة.
لكن كان هناك استثناء واحد.
ليونيل.
تمسّك بمكانه حتى النهاية، واقفًا بجانب رينيه، وهو يحدّق بكارسيون بنظرات حادة.
لم يكن هناك أحد في هذا المكان لا يعرف أن حقيقته أنه تنين أحمر.
ولأن لا أحد تجرأ على قول شيء لتنين، بدأوا جميعاً يتبادلون النظرات فقط دون كلام.
وفي تلك اللحظة، قفز أولاند من فوق الدرابزين بخفة بعد أن شرب حتى الثمالة في الطابق العلوي وهو يراقب الطابق السفلي، ثم هبط بأناقة.
بعدها أمسك بأذن ليونيل وسحبه بلا رحمة.
“آااااه! قلت إنه يؤلمني، أيها الإنسان الغبي!”
“أيها التنين عديم الإحساس. تعال قبل أن أضطر إلى استخدام كلمات أقسى.”
“أذني ستتمزق!”
حتى وهو يُسحب جراً على يد أولاند، ظل ليونيل مليئاً بالحنين حتى اللحظة الأخيرة.
كارسـيون شكر معلمه بإيماءة خفية، ثم مد يده نحو رينيه.
“ما الذي سنفعله بشأن ذلك الأحمق؟”
“أهممم….. ألا يمكنك أن تتفهمه فحسب؟”
“……”
أطلق كارسـيون صوت تأفف مع عبوس واضح على وجهه، وكأنه يقول: “لقد سامحته كثيراً من قبل، هل يجب أن أتحمله مجدداً؟”
لكن الكلمات التي جاءت بعد ذلك حولت وجهه إلى تعبير أحمق تماماً.
“في النهاية، أنا أصبحت لكَ، أليس كذلك؟”
“…أه، صحيح. أنتِ لي. وأنا لكِ أيضاً.”
ابتسامة رينيه أصبحت أعمق.
وكان في عينيها الفيروزيتين اللتين طالما أحبّهما كارسـيون، نظرة مليئة بالثقة والحب نحوه.
وهكذا، أصبح كارسـيون رجلاً كريما يستطيع أن يتغاضى عن كل شيء.
بذل جهداً كي لا يتصرف بعجلة، ثم قاد رينيه بيده بأدب شديد.
وسرعان ما، لم يبقَ في قاعة الحفل سوى الأشخاص الآخرين غير العروسين.
راح الجميع يحدقون باتجاه المكان الذي اختفيا فيه كارسـيون ورينيه، مستسلمين لمشاعر عميقة قبل أن يعودوا إلى تبادل الأحاديث المبهجة.
لقد كان يوماً تذكارياً، زاد من صلابة العلاقة التي لم يكن لأحد أن يتدخل فيها، علاقة صديقين منذ الطفولة.
***
“كارسـيون!”
ما إن دخلنا غرفة النوم، حتى تغيّر كارسـيون فجأة.
م-مهلاً! على مهل!
دون أن أتمكن من منعه، سحبني كارسـيون بقوة إلى أحضانه.
كما لو أنه لن يتركني أبداً بعد الآن.
بعينين مليئتين بالعشق، وكأنه لا يعرف ما يفعل من شدة الحب.
تحت ذلك النظر الحار، شعرت بأن وجهي يحترق خجلاً.
هل كان كارسـيون خائفاً من أن يفقدني مجدداً؟
لكني لن أختفي بعد الآن.
ولن أبتعد عنك أبداً.
في لحظة، كنت في أحضان كارسـيون وهو ينظر إلي من أسفل.
“كارسـيون.”
عندما تباعدت شفاهنا قليلاً، ناديت اسمه بسرعة.
كارسـيون واصل التحديق فيّ بعينين ثابته كما لو كان قد اتخذ قراره.
“نعم، رينيه.”
“على مهل. لن أهرب إلى أي مكان.”
“أعرف. لكن….”
انخفضت نظرة كارسـيون قليلاً وهو يتلعثم في كلماته.
استطعت أن أشعر به وهو يحدّق في شفتيّ عن كثب، وشعرت بالخجل من ذلك.
فجأة عضضت شفتي بخفة، وعندها نظر إلي بعينين ناعمتين وكأنه يطلب مني ألا أفعل.
تسارع نبض قلبي بقوة تحت نظرته تلك.
هل يمكنه سماع صوت قلبي؟
شعرت وكأن أحدهم يقرع طبلاً في أذني.
احمرّ وجهي، بل احترق جسدي كله خجلاً.
ثم انحنى كارسـيون وغرس وجهه في صدري.
من النافذة، لاحت لي السماء الليلية المزينة بالنجوم للحظة.
لكن هذا كل شيء.
فكل حواسي كانت مشغولة بكارسـيون، فلم أعد قادرة على التفكير بأي شيء آخر.
التعليقات لهذا الفصل " 109"