“حَسَنًا إذن… لا بُدَّ أنْ أُقرَّ أنَّ الأمر مُحيِّر قليلًا. لا أرى سببًا يجعل المستشار يَستشيط غضبًا إلى هذا الحَد.”
أمال دانتي رأسَه ببساطة، كأنَّه بريء لا يَفقه شيئًا.
ثمَّ، وكأنَّ فكرةً خاطفةً خطَرَت له فجأة، أطلقَ “آه” خفيفة وعقَد حاجبَيه.
“إلّا إذا… كانت السيّدة وينفيلد ما زالت تَتحمَّل التَبِعات بسبَبي؟ إنْ كان الأمر كذلك، فدعيني أقدِّم اعتذاري مجدَّدًا—هنا والآن.”
جعلت كلماته رئيسَ القُضاة ورايشرت يَتبادلان نظراتٍ مذهولة.
ما خرج مِن فَمِه لم يَكُن مُناسِبًا بأيّ شكل.
بل في الحقيقة، لو أمكَن، لكان رئيس القضاة قفزَ بنفسه ليُسكته.
بوم!
المُستشار، الذي كان يَزداد احمرارًا مع كلّ كلمةٍ من دانتي، انفَجر أخيرًا.
غاضبًا، اندفع خارج القاعة وصفَع الباب بقوّة وراءه.
عمَّ الاضطراب أرجاء المكان.
لكن دانتي اكتفى بالتفاتة هادئة إلى الفوضى مِن حوله، وابتسامةٌ وادعة ترتَسم على شَفتيه.
كان صوته ناعمًا، أقرب إلى الطمأنة، حين قال من جديد:
“يبدو أنّ رئيس القُضاة سيتولّى الجلسة بدلًا عنه.
ومع الأدلّة التي عرضتُها، هل يكفي ذلك لِمُراجعة طلبي والموافقة عليه؟”
في القاعة—التي ما زال الضجيج يملأها—لم يَبدُ مُرتاحًا سوى دانتي.
وذلك المنظر شدَّ حَلق رئيس القضاة بانقباضٍ غير مُريح.
—
“هل تُقسِم، دانتي ااشرت، أنْ تُمضي حياتك إلى جانب السيّدة ريينا؟”
“نَعَم.”
“وأنتِ، يا سيّدة ريينا—هل تُقسمين أنْ تُمضي حياتك مع دانتي فيناشيرت؟”
“…”
التفت البابا، الذي كان يترأّس المراسم، فجأةً عند صمتها.
كلّما طالَ سُكوتها، ازداد شعوره بالحرَج.
“أحم… سيّدة ريينا؟”
“…نَعَم. أُقسِم.”
خرجت الكلمات مُتردّدة، كأنّها انتُزِعَت من بين شَفتيها.
عضَّت ريينا على فمها بشدّة، حتى سال الدم بطَعمٍ معدنيّ خفيف على لسانها.
اليوم، باعَت نفسها.
لكن سواء فعلت أو لم تفعل، لم يَعُد يَهم.
وعند إجابتها المكرهة، رفَع المأذون الإعلان عاليًا.
“ببركة التاج والكنيسة، أُعلِن دانتي فيناشيرت وريينا فيناشيرت زوجًا وزوجة.”
تعالى تصفيق مُهذَّب في الكاتدرائية.
ثمّ اقترب وجه دانتي منها.
لقد حلّت اللحظة التقليدية في طقس الزواج: القُبلة.
ببطءٍ مهيب، رفَع يده الكبيرة حجابها، ولمسَ وجنتها بلُطف.
وفي المقابل، شدّت ريينا على باقتها بقوّة، فتساقطت بتلاتها أرضًا.
أحاطها دانتي بذراعه من خصرها، ليجذبها نحوه.
أمال رأسه قليلًا—
وعندها انفجر التصفيق الخافت في هتافاتٍ صاخبة.
غير أنّ ريينا، وسط الضجيج، أدركت أمرًا غريبًا.
القُبلة لم تحدث.
فتحت عينيها.
كانت شفتاه على مقربةٍ منها، على بُعد أنفاس، لكن لم تلمساها.
عيناه الذهبيّتان الثابتتان كانتا تحدّقان بشَفتيها، حيث ارتسم خطّ الدم الطفيف من عضّتها.
التقت عيناها المرتجفتان بنظراته الهادئة.
ضحك دانتي بخفوتٍ لم تسمعه سواها.
“لا تُظهري هذا العذاب.
أنا أشعر بالمِثل.”
ارتجفت أهدابها مرّتين.
ثم—
استيقظت ريينا.
أضاء الغرفةَ وهجٌ أزرق باهت يتسرّب عبر الستائر.
جَسدُها كان مُثقلًا كأنّه غارقٌ بالماء.
…لقد كان حُلمًا.
بفمٍ جاف، التقطت القارورة من الطاولة وارتشفت منها بنَهَم.
تدفّق الماء على ذقنها، باردًا ينزلق على عنقها ويُبلّل قماش ثوبها الحريريّ.
أنهَت القارورة دفعةً واحدة، وأسقطتها بصوتٍ أجوف، ثم مسحت فمها بكُمّها.
وجال نظرها نحو الزاوية، حيث وُضعت الصناديق التي رتّبتها سلفًا.
“اليوم”، تمتمت ببرود.
خلال ساعات قليلة، ستتصدر العناوين في أرجاء المدينة.
قُبل طلب الدوق الأكبر بإبطال الزواج.
هذا الصباح هو الأخير لها في قصر بيهيرن.
استغرقت حزم أغراضها ساعة بالكاد.
فكلّ ما تملك لم يتجاوز صندوقَين صغيرين.
خفضت عينيها إلى يدها.
ببطء، سحبت خاتم الألماس ذي الثلاثة قراريط من إصبعها—الدليل الوحيد على زواجها من دانتي فيناشيرت.
ظلَّ أثرٌ أحمر مكانه.
دلكته مرّة، ثم نهضت.
اليوم انتهى دورها كدوقة كبرى.
—
مملكة بيرمارك.
في قلب بيهيرن—المدينة التي تُلقَّب بالعاصمة الثانية بعد آربيرن—كانت ساحة فسيحة تزيّنها نافورة عظيمة.
إلّا في ساعات الليل المتأخرة، كانت تضجّ بالحياة على الدوام.
وهناك، كان صبيّ صغير يحمل كومة صحف تكاد تفوق حجمه، يركض بين الحشود ويصيح بأعلى صوته:
“الجريدة! ابتاعوا الجريدة!”
جذب نداءُه الأنظار على الفور.
“أيها الغلام، هاتِ لي واحدة.”
“حالًا يا سيدي! بخمسة كرانغ!”
ما إن حصل أحدهم على نسخته، حتى تدافع الآخرون كالمدّ.
امرأة من السوق، رسّام مسنّ، مجموعة طلاب صغار—يتزاحمون ويتدافعون لنيل نصيبهم.
كانت صحف بيرمارك محبوبة لدى الجميع، من البسطاء إلى النبلاء.
أخبارها المثيرة كانت تسلية يومية.
لكن اليوم، كان الحماس في أوجه.
ارتفعت الأصوات، وتدافعوا حتى كادوا يتشاجرون.
تأمل أحد الرجال المشهد بعبوس، ثم هزّ كتفيه.
لقد كان يعرف السبب.
قبل أسابيع قليلة، تقدّم الدوق الأكبر فيناشيرت إلى محكمة بيهيرن بطلب إبطال زواجه.
فالطلاق وحده كان كافيًا لإحداث صدمة.
لكن الإبطال؟ في مملكة تُقدّس الزواج، كانت فضيحة مدوّية.
وعلى الصعيد السياسي، كانت العواقب هائلة.
فالإبطال أكّد مزاعم معارضيه: أنّ زواجه لم يكن سوى وسيلة لانتزاع اللقب.
وها هو العدد الجديد صدر.
والجميع يتلهّف لقراءته.
فتح الرجل صحيفته، ويداه ترتجفان من الترقّب.
—
تصفّح دانتي العناوين بفتور.
ثم، بضحكة حادة، ألقى الصحيفة جانبًا.
“لقد نجحوا في جعلي نفاية خالصة.
رغم أن الأسباب بقيت طيّ الكتمان.”
وقف عند النافذة ينفث الدخان.
سيجاره الخفيف لم يترك سوى أثر ضئيل، حملته نسمات الخريف الباردة.
كانت الأسابيع الماضية لا تُطاق—مناظرات لا تنتهي، إجراءات مملة، ووجوه كريهة.
وأخيرًا، بالأمس، ثُبّت قرار الإبطال.
وبالطبع، جرى الاتفاق على إبقاء أخطاء الدوقة بعيدة عن أعين العامة.
نفض دانتي رماد سيجاره بلا مبالاة.
“سَموّكُ”، قال صوت.
“اليوم بعد الظهر.”
“بعد الظهر؟” رفع حاجبيه نحو خادمه، والسيجار بين شفتيه.
“إنها سترحل اليوم.”
تردّد هدسون قليلًا، وهو يراقبه.
“آه.”
زفر دانتي، والدخان يتصاعد مع تنهيدته الجافة.
“فهمت. نسيت ذلك وسط كل هذه الفوضى.”
فمنذ تقديم العريضة، لم يقضِ وقتًا يُذكر في بيهيرن.
كانت استدعاءات التاج في آربيرن متواصلة، ورجال الأعمال يلتفون حوله كالغربان، يلتمسون استمرار رعايته.
الفولاذ، الأدوية، التجارة—كل الصناعات كانت تعتمد عليه.
وجميعهم خشوا أن يفقدوا ودّه.
ابتسم، أنيقًا كعادته، لكنه ردّ عليهم بسخرية لاذعة وإهانات جارحة.
سحب نفسًا جديدًا من سيجاره، والابتسامة لا تفارقه.
“هل أرافقها إذن؟ لعلّ ذلك يهدّئ من غضب العامة قليلًا.”
لم يُجب هدسون.
اكتفى بالانحناء.
نقر دانتي بلسانه.
كان وفيًّا، لكنه عنيد كالثيران في مثل هذه الأمور.
ساد الصمت.
وأخيرًا، سحق دانتي السيجار في المطفأة وقال:
“والترتيبات؟”
“الأموال المخصّصة لها أُودعت بالفعل في مصرف بيهيرن، باسم السيّدة مارغريت.”
كالعادة، لم يُخيّب الخادم ظنه. أومأ دانتي برضا.
ثم لوّح له بالانصراف.
انحنى الرجل وخرج بهدوء.
ساعِديني.
ولِمَ أفعل؟
ألا تعرف، أيها النبيل، معنى أنْ يُلزِم النبل صاحبه بالواجب؟
طفَت الذكرى دون استدعاء. ابتسم دانتي ساخرًا.
امرأة جريئة، تلك.
أن تجرؤ على التفوّه بهذا، وهي تدّعي أنها لا تعرفه.
غارقًا في خواطره، مدّ يده لسيجار جديد من علبته الذهبية.
وفجأة—
طَرق الباب. طَرق الباب.
اتجه بصره نحو المدخل.
لم يسبق لأحد أنْ ولج مكتبه من دون إذن—حتى هدسون.
ارتفع حاجباه.
لقد كان أمرًا نادرًا.
نادرًا للغاية.
“ادخُل.”
انفتح الباب ببطء.
وعند رؤية الشخص الذي ظهر، كاد دانتي أن ينفجر ضاحكًا بدهشة.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 9"