كانت ريينا تعضّ شفتها السفلية بقوّة.
ملمس يده الباردة على نحو غير طبيعي، طريقة وضعه للمرهم على معصمها، وجديته المريبة وهو يلفّ الضماد كما لو أنّ أيّ خطأ بسيط قد يحطم عظامها.
كل ذلك جعلها تشعر بنفور يعصف بأعصابها.
ارتعشت كتفاها من قشعريرة لم تستطع كبحها.
تشنّج فكّها وهي تغرس أصابع يدها الحرة في ذراع الأريكة بقوة تكاد تمزّق قماشها.
قال بهدوء:
“انتهيت.”
ما إن نطق كلمته حتى انتزعت ريينا يدها من قبضة دانتي كمن يهرب من لسعة نار.
كان معصمها المربوط يشعرها بثقل غريب.
داعبته بأطراف أصابعها، ثم رفعت نظرها إليه بحذر لا تخطئه العين.
لكن دانتي تجاهل نظراتها كليًا.
سواء رمقته بحدّة أم لا، كان منشغلًا بإعادة ترتيب صندوق الأدوية ببرود تام.
وفي النهاية، لم يعد أمامها سبيل للهرب.
وحين طوى الصندوق بإحكام رفع رأسه وأطلق ضحكة منخفضة لم يحاول إخفاءها.
حقًا… كان مشهدها مسلِّيًا.
ريبة صريحة تتجسّد في كامل ملامحها، تستنفر كقطة شاردة تستعدّ للانقضاض على أول خطر.
وكأنها نسيت أنها كانت هي من لحق به حتى وصلت إلى هنا.
وأنها سلّمته معصمها قبل قليل دون مقاومة.
ولكن الآن…
تنظر إليه كما لو أنه رجل يستعد لاقتراف خطيئة لا تُغتفر.
أمال دانتي رأسه قليلًا.
مُسَلٍّ بلا شك… لكن ليس بطريقة مُرضية تمامًا.
تظاهر بالجهل وسأل:
“ما بالك؟”
قالت ببرود محاولٍ للتماسك:
“أظن أنّ الوقت حان لأعود إلى منزلي.”
ضاقَت حدقتا عينيه الذهبيتين ببطء.
“غريب… أليس ثمّة أمر نسيتِه؟”
عقدت ريينا حاجبها في حيرة… قبل أن تتّضح الفكرة في ذهنها، فتشقّ وجهها علامات تردد.
“هل يفترض بي أن أشكرك يا صاحب السمو؟ لكنك أنت من قبض على معصمي أولًا—”
قاطعها بابتسامة متعجرفة:
“لِمَ أدرتِ ظهركِ إليّ إذن؟”
ارتبك وجهها في استياء محتقن.
“لكنّك أنت من—!”
“لقب’صاحب السمو’ هذا… بات يضايقني.”
تشابكت ذراعاه، وأخذ ينقر بإصبعه على ساعده بلهجة ملتوية لا تخلو من التحدي.
“ألستِ من كنتِ تخاطبينني بـ: أنتَ…؟”
“أنتَ… كيف وصلتَ إلى هنا…؟”
تشنّجت ملامحها بقوة، وكأن الذكرى صفعتها بغتة.
“ذاك كان… لأنني صُدمتُ فحسب.”
“أحقًّا؟”
ضحك بخفوت، منكسًا رأسه قليلًا.
شفتاه تلتفّان بابتسامة متعالية يعرفها قلبها جيدًا.
“قوليها مجددًا.
الآن.”
رفعت حاجبيها في رفض قاطع:
“لن أفعل.”
“لماذا؟ أم ترغبين بمناداتي باسمي؟”
تابع مبتسمًا بنبرة ساخرة خافتة:
“لا يبدو لائقًا أبدًا، أليس كذلك؟ رجل وامرأة غريبان عن بعضهما… يتناديان بالأسماء مباشرة. لا سيما وأنّ أحدهما غريب عن هذا المكان.”
كانت نظرته تميل لتكتب: هل أنتِ حقًا موافقة على ذلك؟
ارتفع دفء غاضب في صدرها، فابتعدت عنه خطوة.
“سنوات وأنا أناديك بـ‘صاحب السمو’… ولم تعترض قط.”
سنوات.
لم تحتج أن توضح أكثر… فقد فهم.
سنوات زواجها منه.
اكتفى بأن أومأ ببرود.
“صحيح… ولعلّ ذلك ما يجعلني أكرهه أكثر الآن.”
“هذا غير منطقي.”
“اللامنطق… اختصاصي.”
تعمّقت تقطيبة جبينها أكثر مع تلك الابتسامة المنتصرة.
كان تغيّر مزاجه يربكها بشدة—متعجرف، متقلّب، أناني وبارد القلب كما عهدته… دوق فيناتشرت الذي لا يلين.
لم يكن القدر رحيمًا إذ جمعها به من جديد.
بل جعلها تواجهه مرة أخرى أيضًا.
لعلّها نُذُر شؤم.
رفعت رأسها بعد تردد، لتصطدم عيناها بلمعان الذهب القاسي في عينيه.
“لو ناديتك بغير هذا… هل ستدعني أعود إلى البيت؟ حالًا؟”
قال بثقة لا تخلو من خبث:
“أعدك.”
كاذب.
ضيّقت ريينا عينيها بدقة العارف.
كانت تستطيع تمييز الكذب عنه… دون أن تعلم أيَّ جزء تحديدًا هو الباطل.
هكذا هي وعوده دائمًا.
يفي بها… ولكن كما يشاء هو، لا كما يُطلب منه.
وقد عرفت ذلك بمرارة التجربة.
ومع ذلك… ليس أمامها خيار سوى عقد عهد جديد معه.
ظلمٌ يخنق صدرها.
الليل يوشك على الرحيل.
راقب دانتي الساعة، ثم تنفّس بهدوء.
كان يدرك أنها لن تنطق بسواه أبدًا.
ومع ذلك… تمنّى لو تفعل.
نزوة عابرة… لكنها مسّت كبرياءه الآن.
أزاح خصلاته المبللة عن جبينه، وقال فجأة:
“سيمرّ مساعدي في الصباح لأخذ موجز الأعمال.”
“…”
“وإن رآكِ تغادرين غرفتي… ماذا تظنين أنّه سيستنتج؟ أعلم تمامًا ما قد يخطر ببالي لو كنت مكانه.”
انعكس بريق ساخر في عينيه وهو يتلذذ بارتباكها.
كان بارعًا في إيلام الآخرين… وفي الحصول على ما يريد دومًا.
وللأسف…
نجح مرة أخرى.
عضّت شفتها وأغمضت عينيها لحظة قبل أن تنطق كمن يجرّ سكينًا من صدره.
“أتعرف مدى قسوتك؟ أكثر من اللازم.”
ارتفع طرف ابتسامته بنشوة مُعلنة.
“أعرف.
تمامًا.”
—
وصل الفجر يلوّن السماء بظلال الأزرق الفاتح.
توقفت ريينا عن السير فجأة واستدارت نحوه.
“يجدر بك العودة الآن.
سأتدبّر أمري من هنا.”
إلى أي مدى يخطّط لمرافقتها؟
فقد غادرا المنتجع منذ مدة عبر المسار الخلفي، نزولًا نحو السفح، والبحر بات قريبًا.
رفعت حاجبيها بصرامة:
“كل ما طلبته كان أن تدلّني على طريق الخروج…”
“وهذا ما أفعله.”
وقاحة جعلتها تتلعثم في صمت.
زفرت بانكسار خافت.
هو يعلم تمامًا أنها لم تطلب مرافقة.
لكنها لا تستطيع قول ذلك… لأن مجرد الاعتراف يعني أنها تتلقى منه حماية.
كانت تنظر حولها بتوجس:
“لقد تجاوزنا حدود المنتجع… وإن رآنا أحد… لقد اقترب الصباح—”
“لن يرانا أحد.”
“هناك عمال يباشرون عملهم باكرًا.
هذا مجرد—”
“أأسميه جرأة… أم وقاحة؟”
شبّك يديه خلف ظهره، وحدّق إليها من علٍ، رأسه مائل باستفزاز.
“أأنا غير مرئيّ بالنسبة لكِ؟”
قالت بجفاف:
“لا أعلم لماذا تقول ذلك الآن.”
“أظنني قلت لكِ سابقًا… نظرات الآخرين لا تهم.”
ليست هي ما ينبغي لكِ القلق بشأنه أصلًا.
ارتجف صدرها بذكريات تكره عودتها.
كان يعكس الكلام دومًا بمهارة خبيثة.
وعدها بالإنصات… ثم تصرّف وكأنّ الوعد لا قيمة له.
بردت نظرتها وهي تقول بنبرة صارمة:
“يبدو أنك أنت من نسيَ وعده.”
صوتها اخترق أذنه بحدة.
“لقد تعهدت بتنفيذ طلبي.”
“…”
“أفهم… مخاوفي لا تعنيك شيئًا.
لذلك تفعل ما تشاء، أليس كذلك؟”
ارتجفت قبضتاها.
ألم معصمها المضمّد أعاد إليها وعيها.
حدّقت فيه ببرود قاطع.
لقد وصلت حدّها.
لم تعد قادرة على احتمال نزقه وهيمنته.
انطلقت الكلمات من فمها كأنها صفعة:
“لماذا تصمت؟ إن كنت تنوي معاملة كهذه، لما وعدتني من البداية؟ لا بد أنّك تجد إغاظتي ممتعة… كم أنا ساذجة عندك، تتلاعب بي متى شئت—”
“كفى.”
قاطعها بلهجة مقتضبة وهو ينظر في ساعته.
“تابعي طريقكِ.
الآن.”
“…ماذا؟”
“يمكنك الذهاب يا ريينا.”
كأن صراخها لم يبلغ مسامعه أصلًا.
نبرة ثابتة لا حياة فيها.
رمشت بدهشة، عاجزة عن الكلام للحظة.
ملامحه خالية من أي تعبير—باردة، متجمدة كعادتها.
أدار ظهره.
ابتعد بخطوات ثابتة.
بقيت تنظر إلى ظلّه يبتعد… قبل أن تغمض عينيها بقوة.
حتى الضحك… لم يعد يجد سبيله إلى شفتيها.
—
“صاحب السمو، إنه أنا كاليس.”
“ادخل.”
فتح الباب، فتجمّد كاليس في مكانه للحظات.
خرج دانتي من الحمّام مرتديًا رداءً، قطرات الماء تتساقط من شعره المبتل.
“…هل أعود لاحقًا؟”
“ابدأ.”
“ن-نعم يا سيدي!”
انتظم كاليس فورًا، دفتره في يده، رغم أنّ عينيه كانتا تخونانه بالنظر إلى الدوق على الأريكة.
الرداء المخملي الأسود ينسدل على جسده العريض.
خصلاته الذهبية اللامعة تعانق ضوء الصباح المتسلّل من النوافذ.
كاد كاليس يحدّق في دهشة.
لوحة تمشي على الأرض.
ليس غريبًا أن تتهافت سيدات المجتمع على مديحه.
سارع إلى تدارك شروده حين وضع الدوق كأس الماء جانبًا.
“في الصباح الباكر، مكتب البرقيات—”
“قبل ذلك.”
ارتبك كاليس وهو يهيّئ قلمه لتدوين ما سيُقال.
“من الآن فصاعدًا…
يدخل العمال والموظفون من البوابة الرئيسة فقط، وليس الخلفية.”
“…البوابة الرئيسة يا سيدي؟ إلى متى؟”
فقد اعتاد العمال الدخول من الخلف بسبب إغلاق بوابة الموظفين للصيانة.
نقر دانتي بإصبعه على الكأس بلهجة متهاونة:
“من الآن… وإلى الأبد.
لا أحد يستخدم البوابة الخلفية سواي.
أوضح ذلك للجميع.”
“م-مفهوم تمامًا يا سيدي!”
ورغم حيرته من القرار المفاجئ…
اقتنع بأن للدوق سببًا خفيًا لا يحتاج لشرحه.
وقرر تذكير الجميع بذلك بأقرب وقت قبل أن يتابع موجزه الصباحي.
التعليقات لهذا الفصل " 31"