أخيرًا، أنهت ريينا تنظيف المقهى، وأرسلت نظرتها تجوب المكان، زفرة رضا تخترق صدرها.
الأرضيات، الطاولات، الكراسي، المنضدة، وحتى المطبخ—كلُّ زاويةٍ فيه كانت تتلألأ تحت لمساتها الدقيقة، متوهجةً أكثر من المعتاد ببريقٍ ساحر.
اليوم، غادرت شارون المقهى أبكر من موعدها المعتاد، بحجة حضورها ذكرى زواج والديها، وطلبت من ريينا تولّي إغلاق المقهى.
“ريينا! أعتذر جدًّا! في المرّة القادمة، إن كانت لديك أيِّ خطط، فعليكِ أن تُخبريني!”
“شارون، ستتأخّرين إن واصلتِ الاعتذار. أرجو أن تنقلي تهنئتي إلى والديك.”
رغم نظرات شارون المليئة بالأسف، اكتفت ريينا بابتسامةٍ هادئة ولوّحت بيدها مودّعة.
خطط…
كلمةٌ لا تعرفها على الإطلاق.
لحظةٌ وجيزة، اعوجّت شفتاها بخاطرٍ مُرّ، لكنها سرعان ما أبعدته عن ذهنها.
في الحقيقة، شعرت بارتياحٍ غريب.
فلا شيء يصفّي الذهن ويهدّئ الروح مثل العمل البسيط المتكرر.
وهكذا، واصلت ريينا عملها حتى وقتٍ متأخر، قبل أن تُطفئ أضواء المقهى أخيرًا.
الشاطئ، الذي كان يضيئه ضوء المقهى سابقًا، غرق في ظلامٍ دامس.
البحر امتد أمامها، كأنه فقد منارته الوحيدة التي تهديه.
لكن ريينا استقبلت المشهد بهدوء، وأكملت فحصها الأخير بدقة.
ولمّا تأكدت من إغلاق الباب بإحكام، خرجت ببطءٍ نحو الرمال.
همس الشاطئ تحت خطواتها، وحبيبات الرمل تصدر صوتًا ناعمًا بينما تغوص قدمها نصفها في الرمال.
كانت تشعر بمتعةٍ غريبةٍ في هذا الإحساس.
“ششش—”
نسيم البحر البارد الممزوج بملحه يلتف حولها، والموج يتهادى برفق—كل ذلك كان مألوفًا، وهادئًا بطريقة تريح القلب.
ثم توقفت خطواتها فجأة.
جلست على الرمال وكأنها كانت تنتظرها منذ الأزل، ووجهها ثابت على البحر.
كم مرّ من الوقت؟
منذ ظهور الدوق الأكبر فجأة هنا، كانت تذهب مباشرةً إلى منزلها يوميًا، متجنّبة أي فرصةٍ لملاقاته.
رفعت ركبتيها وأسندت وجهها عليهما.
وعلى الرغم من أن عينيها ظلت تراقب الأمواج المتكسّرة، إلا أنّ أفكارها كانت كثيفة، تمنعها من رؤية الحقيقة بوضوح.
‘لماذا أتيتُ إلى هنا أصلًا؟’
حين بحثت عن جواب، تجولت عيناها عبر مياه البحر نحو المنتجع البعيد، نوافذه تتلألأ بين الحين والآخر.
ففهمت.
ذلك هو السبب.
عندما اكتشفت لأول مرة أنّ ذلك المبنى الضخم منتجع سياحي، كاد قلبها ينهار من رهبة الحقيقة.
ومع ذلك، لم تخطر في بالها أبدًا أنّ صاحب هذا المنتجع هو الدوق الأكبر نفسه.
كانت صدمةً لم تكن تتوقعها.
“ششش—”
دفنت وجهها بين ركبتيها.
ومع حجب رؤيتها، لم يبقَ في أذنيها سوى هدير الأمواج.
عندما واجهته لأول مرة، اعتقدت أنّ كل شيء انتهى.
لم تهتم بأي سوء فهم يحمله معها.
حتى لو ظنّ الأسوأ—أنّها تسبّبت بحادث العربة عمدًا لتخدعه.
ارتفع شعور بالدوار والاشمئزاز داخلها، وأطلقت تنهيدة طويلة مثقلة بالأسى.
لقد مضى نصف عمرها بالفعل.
لم تكن تتوقع أن تراه مرة أخرى في ما تبقى لها من حياة قصيرة.
قدر بائس، قاسٍ لا يلين.
‘ماذا أفعل الآن؟ أهرب مجددًا؟ ولكن ماذا عن الملازم؟ وماذا عن فلورين؟’
تدافعت الأفكار في صدرها دفعة واحدة، ضغطت على قلبها حتى بدأ رأسها يؤلمها.
ثم—
“ما الذي تفعلينه هنا؟”
لم يكن صوت الأمواج.
بل كان صوت إنسان.
صوت مألوف خافت عند أذنها.
رفعت ريينا رأسها ببطء، وهناك، أمام البحر، وقفت عينان ذهبيتان—أكثر إشراقًا من ضوء القمر، تتوهجان كالشمس—تتصلان مباشرة بنظرتها.
“انهضي.
ستتسخين.”
عند كلماته الباردة والمجردة من العاطفة، شدّت ريينا ذراعيها حول ركبتيها بعناد.
“إنه ليس وسخًا.”
“ما زلتِ سريعة الجدل.”
كان صوته أخف من المعتاد، كأنه يمزح.
أمال دانتي رأسه قليلاً، يراقبها بنظرة هادئة غامضة.
‘استمعي إليّ، يا ريينا.’
عاد ذلك الهمس القديم الذي يهمس به قرب أذنها، شعوراً يلسع قلبها بحرارة.
ارتفع شعور بالحماس والغضب في صدرها، وكادت تختنق.
جاء ردّها قصيرًا، دفاعيًا:
“لماذا أتيتَ هنا مجددًا؟ هل لتعذيبِي؟”
“تعذيبك؟ أنا؟”
ارتفع حاجباه، ثم أطلق ضحكة قصيرة.
“لا، ريينا.
لست أعذّبك، إنما أجعلك تدفعين ثمن خداعك لي.”
“أدفع الثمن؟”
“عقاب صغير من اختراعي.”
قطبت ريينا حاجبيها.
خداع… عقاب…
إذن، كل تلك الصباحات التي كان يأتي فيها إلى المقهى كانت من أجل أمرٍ تافه كهذا؟
“وإلى متى سأتحمل هذا العقاب؟”
“ماذا؟”
ارتفع حاجباه من شدة حدّة نبرتها.
“قلت لك من قبل إنني مستعدة لدفع أي ثمن. حسنًا، سأقبل عقابك.
لكنك وعدت أيضًا بأن تمنحني طلبًا واحدًا.
إن استمريت في المجيء إلى المقهى، سيبدأ الناس بالريبة، وعندها سيصبح كل شيء بلا معنى.”
“أنت مخطئة.”
لامس صوته المنخفض أذنها، باردًا كالليل.
“ظروفك لا تهمني يا ريينا، ما يهم هو أنني أفي بوعدي—أتعامل معك كغريبة.”
“…”
“إن بدأ الناس بالريبة، أو أدركوا أنّك كنت لي يومًا—فذاك شأنك، لا شأني.”
ارتجفت عينا ريينا بعنف عند كلماته القاسية.
كانت عيناه الذهبيتان أبرد من البحر خلفه.
…نعم.
هذا هو حقيقته.
لقد نسيت.
الدوق الأكبر القاسي القلب لفيناشيرت.
يأتي في هذا الوقت فقط ليطعنها بقسوة.
نهضت ريينا ببطء، وتناثرت الرمال عن ثوبها، وهي تمسحه بهدوء.
ظل دانتي يراقبها بصمت.
وحين رفعت بصرها مجددًا، التقت عيناها بهدوء بعينيه.
“كنت حمقاء لأظن غير ذلك. افعل ما تشاء، يا صاحب السمو. ومهما حدث بعد ذلك، فسأتولّى أمره بنفسي، كما قلت.”
كانت تعلم أن هذه الكلمات تُعد وقاحة في حضرته، لكنها لم تكن سوى تمردٍ طفولي عنيد.
رفضت النظر إليه مجددًا.
انحنت بخفّة، ثم استدارت بعيدًا.
“توقفي.”
انشقّ أمره الحاد عبر الريح، كالثلج.
لكن ريينا واصلت السير بثبات.
خطوة، ثم أخرى.
ترك آثار أقدامها مطبوعةً في الرمل.
ضحكة مريرة ترددت على الشاطئ الخالي.
ثم دوّت خطوات سريعة وقوية على الرمل.
“آه!”
أمسك بمعصمها، فدارت بجسدها نحوه.
اتسعت عيناها دهشةً.
كانت عيناه الذهبيتان تتوهجان غضبًا، وقد حُفرت ملامحه بحدة.
“هذه آخر مرة أحذرك فيها.”
زمجر صوته كصفعةٍ على أذنيها.
“حاولي إدارة ظهرك لي مرة أخرى.”
“…”
تألقت عيناه كذهب مصهور، حادّتان بلا رحمة، فتجمد جسدها.
انعكس الخوف على وجهها، كما لو كان يراه في مرآة أمامها.
امتد الصمت طويلًا لا يُحتمل.
وأخيرًا، ارتجفت شفتاها:
“…أطلِق سراحي.”
أفلت دانتي معصمها دون كلمة.
خفق الألم في موضع قبضته، فشهقت وهي تفركه برفق.
لاحظ ذلك، فنقر بلسانه، ثم أمسك معصمها مجددًا—لكن هذه المرة برفق، رافعًا إياه في كفه.
قطب حاجبيه وهو يدرس الاحمرار المتورم على جلدها.
وحين حاولت سحب يدها، أمسك بها بلين، ثم فتح علبة صغيرة في يده الأخرى.
“تعالي معي.”
“…إلى أين؟”
لم يجبها.
وبينما كان ممسكًا بمعصمها، تقدّم بخطى حازمة.
“انتظر—يا صاحب السمو، إلى أين نذهب؟”
“إلى المنزل.”
منزل؟
توقفت ريينا.
“لن أذهب.
سأرفض هذا. “
خرج صوتها ثابتًا، وإن ارتجف قليلًا.
عندها، ابتسم دانتي ابتسامة خفيفة كما يفعل حين يُسعده عنادها.
“ليس ذلك المنزل، إنما المنتجع.”
تدفقت أصوات الأمواج في أذنها مجددًا، أعلى من ذي قبل.
وفي ضوء القمر، بدا وجه دانتي منحوتًا من صخر.
“اجلسي.”
وحين خرج للحظات، أخذت ريينا تتأمل الغرفة الغريبة.
هل هذه غرفة ضيوف في المنتجع؟
أثاث فاخر، لوحات شهيرة، زينة متلألئة—مكان رحب وأنيق.
تجوّلت عيناها، ثم تذكرت فجأة.
ذلك الفندق القديم الذي كانت تمرّ به حين تُركت، حين كانت تتسوّل في الطرقات.
تذكرت كيف كانت تقف متجمدة أمام أبوابه، والدفء ينساب من الداخل، وعطر فاخر يتسلل إلى الليل.
“إذن هكذا كانت تبدو تلك الغرف…”
ارتخت عيناها، حاملةً شعورًا خافتًا بالحنين.
“ما زال فارغًا.
لم يصل معظم الأثاث بعد.”
ارتجفت عند صوته والتفتت.
عاد دانتي، يحمل صندوق دواء صغيرًا.
جلس بجوارها، فتحه، وكشف عن صفوف مرتبة من المراهم والضمادات والأدوية—جميعها جديدة.
أخرج مرهمًا صغيرًا وفتح غطاءه.
“يدك.”
سقطت الكلمة في الصمت، منخفضة وواثقة.
عاد ذلك القلق يتردد في صدر ريينا.
ومع إخفائها اضطرابها، مدت يدها ببطء.
وفي قلبها فكرت:
‘قبل أن يكتشف هذا القلب المكسور… عليّ أن أهرب مجددًا.’
التعليقات لهذا الفصل " 30"