“ي-يا صاحب السموّ!”
في لحظة خاطفة، خطف رايشرت البرقية من يد هدسون، ومزّق الظرف بعنفٍ يكاد يلامس الوحشية ليتمكّن من قراءة محتواها.
تجمدت ملامح هَدسون وهو يراقب عيني وليّ العهد تتنقلان بين الكلمات.
تمامًا كما أشار الدوق الأكبر، كان كل ما يتعلق بالأمر مكتوبًا بوضوح.
“…يبدو أنّ أخي الحبيب قد نسي تمامًا ما يفرضه عليه احترام وليّ العهد.”
كيف يجرؤ على ذلك، وهو ليس سوى نصف دمٍ نبيل؟
صرّ رايشرت بأسنانه، ولمع بريقٌ بارد في عينيه، كأنه يحمل تهديدًا صامتًا.
“إذن، إلى أين ذهب الدوق الأكبر بالضبط؟”
وكأنّه نزعه القناع الملكي، تغير صوته وملامحه، لتصبح حادةً، قاطعة، لا تعرف الرحمة.
شعر هَدسون بقطرة عرقٍ باردة تنساب على عموده الفقري تحت وطأة النظرة الثاقبة للأمير.
لقد حان وقت تنفيذ تعليمات دانتي.
“…أقدم لك أعمق اعتذاراتي، سموّك.
لقد أمرني الدوق الأكبر بألّا أفشي مكانه لأيّ شخص…”
“هاه! أتظنّ أنّ الصمت سينفعك؟ هل هو سرٌّ دولة عظيم؟”
ارتسم الشك في عيني رايشرت الضيقتين.
أن يختفي دانتي دون أن ينبس بكلمة، رافضًا حتى الإفصاح عن وجهته… لا بدّ أنّه يُخفي سرًا مهمًا.
اتسعت عينا هَدسون في دهشةٍ متعمّدة، وهز رأسه بسرعة.
“ليس سرّ دولة، يا صاحب السموّ. إنّما… أمرني سيّدي بأن أكون في أقصى درجات الحذر، تحسبًا لأي خطرٍ غير متوقّع.”
“خطرٌ غير متوقّع؟”
أطلق رايشرت ضحكةً قصيرة متعالية، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة.
“ولِمَ لا؟ لأنّ الدوقة الكبرى — تلك المرأة الريفية الساذجة — قد لا تكون وفاتها حادثًا عرضيًا، بل جريمة قتل؟”
وبوجود هَدسون فقط كشاهِد، سمح رايشرت لجزءٍ من حقيقته بالظهور، مستفزًّا كبير الخدم بخبث متعمد.
تجمّد هَدسون للحظة وجيزة، ثم خفّض حاجبيه دون أن ينطق بكلمة.
كان يعرف تمامًا ما يفعله وليّ العهد — يستدرجه، يختبره، ويحاول قبل كل شيء تحقير السيّد الذي يخدمه بإخلاصٍ لا يتزعزع.
لكن معرفته بذلك لم تمنع التوتر من التصلّب في ملامحه.
خفض رأسه وأجاب بهدوء، متجنبًا مواجهة النظرة النافذة للأمير.
“إنّني أتبع الأوامر التي يُصدرها لي سيّدي فقط. أمّا الأسباب، فلا يحقّ لي أن أزعم معرفتها.”
“…هكذا إذًا؟ بلسانٍ ثقيل كهذا، فلا بدّ أنّ الدوق الأكبر يراك جديرًا بالثقة.”
تردّد السخرية في نبرته وهو يهزّ كتفيه، لكن هَدسون أبقى شفتيه مطبقتين بإحكام.
في الحقيقة، كان يشتعل رغبةً في قبض يديه، لكن خادمًا بسيطًا لا يمكنه إظهار التمرّد أمام وليّ العهد.
فذلك لن يُعدّ مجرد وقاحة، بل محاولة اعتداء على العائلة المالكة، يُعاقب عليها بالموت.
لم يكن بإمكانه أن يمنح الأمير أي ذريعة.
“…سيّدنا الدوق يجتمع حاليًا مع المستثمرين في راهلن،” قال هَدسون أخيرًا، ممهّدًا الطُعم الذي تركه دانتي له.
“راهلن؟”
“نعم، يا صاحب السموّ.”
ابتلع رايشرت الطُعم فورًا، معقّدًا حاجبيه وكأنّ الجواب قد خيّب توقعاته.
لقد تخيّل أنّ دانتي في أرض بعيدة أو ملاذ منعزل لإدارة شأنٍ بالغ الأهمية.
لكن راهلن؟ لم تكن سوى بلدة صغيرة، على بعد ساعتين من العاصمة، بين آربيرن وبيهيرن.
وكان رايشرت يعرف المستثمرين الذين سيجتمع معهم دانتي هناك، فالأسماء ليست سرًا.
تلاشى اهتمامه على الفور.
“أفهِم. بما أنّ الدوق لا يستطيع الحضور، وأنت مملّ للغاية، فسأنصرف اليوم.”
نقر بلسانه من شدة الانزعاج، وأحكم قبضته على عصاه ذات رأس الأسد — شعار بيت فيناشيرت.
“بما أنّه أعلن أنه سيزور آربيرن بنفسه، فسأغادر الآن.”
“سأبلّغ سيّدي بزيارة سموّكم فور عودته،” أجاب هَدسون بانحناءة محترمة.
“نعم، نعم. لا شكّ أنّك تخدمه بإخلاصٍ تام. عندها، لا داعي للقلق. إلى اللقاء، هَدسون.”
خفض هَدسون رأسه، مرافِقًا وليّ العهد إلى بوّابات القصر.
ولمّا اختفى رايشرت تمامًا، سمح لنفسه أخيرًا بأن يقبض قبضتَيه بقوّة، حتى غرست أظافره في راحتيه.
“هل أستدعي ساعي البريد مجددًا، سيّدي هَدسون؟” سأل أحد الخدم بتردد.
استدار هَدسون وهزّ رأسه.
“لا. ما عليك فعله هو أن تنسى كل ما رأيت وسمعت اليوم، وأن تتأكد أنّ بقية الخدم يفعلون الشيء ذاته.”
“ن-نعم، يا سيدي… لكن ألا ينبغي أن نُبلغ سيّدنا بالأمر؟”
“ذلك لا يعنيك.”
جاء صوته أبرد من المعتاد، خاليًا من رفقه المألوف.
لم يكن الواقف أمام الخادم الآن كبير الخدم الهادئ، بل الوكيل الصارم الحازم لدانتي.
تاركًا الخادم المذهول خلفه، عاد أدراجه إلى القصر.
—
طَرْقٌ على الباب.
“سيّدي الدوق. إنّه كاليس.”
“ادخُل.”
بإذن دانتي، فتح كاليس الباب بحذر وانحنى احترامًا، بينما لم تفارق عينا الدوق أوراقه.
وضع الكومة الضخمة من المستندات على المكتب، ثم اعتدل في وقفته وانتظر بصبر.
مرّت الدقائق ببطء.
وأخيرًا، رسم دانتي الخط الأخير بقلمه، وضعه في الصينية ورفع نظره.
“ابدأ.”
بإيماءة صغيرة من دانتي، فتح كاليس دفتره الصغير وشرع في تقديم تقريره عن تقدّم أعمال المنتجع.
على مدى الأيام الماضية، كان يأتي كل مساء إلى هذا المكتب في الملحق ليقدّم تحديثات يومية.
سابقًا، كان يقدم تقريرًا أسبوعيًا أو كل عشرة أيام، لكن بوجود دانتي في الموقع، أصبح بحاجة لتقارير أكثر انتظامًا وبشكل مباشر.
كان الأمر متعبًا، نعم، لكنه سرّع اتخاذ القرار، وزاد من الكفاءة، واستفاد كل من كاليس والعمال.
“حتى اليوم، نقدر أنّ ثلاثة أسابيع تفصلنا عن الإكمال الكامل. معظم اختبارات السلامة اكتملت — التدفئة، مطابخ المطاعم، ومرافق الغسيل في القبو.”
أومأ دانتي برأسه.
“الغرف العادية من الطابق الثاني إلى الرابع جاهزة. أما الأجنحة في الطابق الخامس، فهي تفتقد بعض الأثاث، لكن من المتوقع وصول السفينة التي تحملها قريبًا.”
كان هذا الأثاث قد طُلب خصيصًا من الخارج قبل عامين، حين كانت أعمال المنتجع في بداياتها، وكان يفترض أن يصل منذ ستة أشهر على الأقل.
“متى بالتحديد؟” قاطع دانتي، حاجباه معقودان.
“آه… تقول إدارة ميناء سيرمار إنه سيكون الأسبوع القادم…”
“أهذا مزاح؟”
حَدّة صوت دانتي المفاجئة جعلت كاليس يرتجف ويعبث بنظارته.
“إنها فقط… قبل عام—”
“أعلم.”
زفر دانتي زفرة حادّة، واضغط أصابعه على صدغيه.
كان يعلم السبب، فالحرب الأهلية في الخارج أغلقت الموانئ وخطوط الملاحة قرابة عام كامل، ولم يسمح للسفن بالإبحار إلا بعد هدنة هشة قبل أشهر قليلة.
ومع ذلك، فإن عدم فقدان الشحنة تمامًا كان عزاءً ضئيلاً.
“تابع.”
“نعم، يا سيّدي!”
كبح دانتي انزعاجه ولوّح له بمواصلة الحديث.
لم يقاطع بعد ذلك، إلا بإيماءة أو نقرات حادة من لسانه أحيانًا.
استمر التقرير وأسئلة دانتي أكثر من ساعتين.
وفي النهاية، أنهى كاليس تقريره، فانتقل دانتي إلى موضوع آخر.
“هل وصلت برقيات جديدة من القصر؟”
كان صوت كاليس مبحوحًا قليلًا بعد طول الحديث.
“لا، يا سيّدي. آخر برقية أرسلتها كان يجب أن تصل إلى السيد هَدسون قرابة الظهر.”
أمال رأسه في حيرة طفيفة.
لكن دانتي اكتفى بإيماءة صامتة.
عدم ورود ردّ يعني أنّ هَدسون تعامل مع الأمر بمهارة.
لقد عمَد إلى تقسيم رسالته إلى جزأين لتسهيل تغطية الأمر، ولم يكن هناك احتمال أن يعلم رايشرت بوجوده في فلورين أو سبب تواجده هناك.
كانت السريّة تامة.
وهذا يعني أنّ رايشرت أضاع وقته بلا جدوى.
ارتسمت على شفتي دانتي ابتسامة ساخرة وهو يزفر دخان سيجارته.
كان واثقًا أنّ هَدسون تعامل مع الأمير ببراعة.
نظر إلى الساعة وأشعل سيجارًا آخر.
لقد تجاوزت الساعة العاشرة.
“يمكنك الانصراف.”
“نعم، يا سيّدي! أتمنى لكم ليلة هادئة.”
ارتسم ارتياح واضح على وجه كاليس عند سماع الإذن، فانحنى بسرعة وغادر.
عمّ الصمت المكتب.
نهض دانتي، زافرًا سحابة طويلة من الدخان.
كانت النافذة خلف مكتبه كبيرة، تطل على حدائق الملحق ومسارات المشي وما وراءها البحر والشاطئ البعيد.
ضيّق عينيه، ونفض رماد السيجار، وثبّت نظره على شيء واحد.
ذلك المقهى الصغير البالي، الذي لا تزال أنواره مضيئة رغم تأخّر الوقت.
التعليقات لهذا الفصل " 29"