عضّت رِيينا شَفَتَيها بقوةٍ على غير وعي، في لحظة شعور بالعجز التام.
وكان سبب ذلك الرجل الأشقر الذي ظهر مع طلوع الفجر، واستقرّ في المقعد الأفضل المطلّ على البحر.
حتى وإن اكتفى بالجلوس ساكنًا، كان يجذب كلّ الأنظار في المقهى.
ولم يكن لون شعره وعيونه البارزتان وحدهما ما يميّزه عن الآخرين.
سواء لاحظ نظرات المتفرجين أم لم يلحظها، فقد ثبّت دانتي بصره منذ البداية على البحر الممتد خلف النافذة.
وأجبرت رِيينا نفسها على تجاهل شارون، التي كانت ترمقها بنظراتٍ قلِقة متقطّعة بين نفسها وبين الدوق.
ثمّ، فجأة، التقت عيناه الذهبيتان بعينيها البنيّتين الداكنتين.
حاولت أن تُشيح بنظرها وكأنها لم تره، لكنّه كان أسرع من ذلك.
“طَقّ، طَقّ.”
نقرَ بأصابعه على حافة الطاولة بخفّة، وقال دانتي:
“أود الطلب.”
ابتلعت رِيينا تنهيدةً قصيرة، وخطت خطوةً متردّدة إلى الأمام.
لقد كانت تحاول أن تبقي تركيزها ضبابيًا حتى هذه اللحظة، لكن مع اقترابها، تزايد وضوح ملامحه، وشعرت بثقل قدميها وكأنهما مثقلتان بالرصاص.
“…هل ترغب بطلب شيءٍ ما؟”
“اقترحي عليّ شيئًا.”
في الحقيقة، رغبت في الصراخ بأنّ هذا ليس من بين الحفلات أو الحانات التي اعتاد ارتيادها.
لكّنها كتمت الرغبة، ووضعت قائمة الطعام أمامه.
ثم ذَكرت بعض الأمور التي قد تروق له بالفعل.
“الأعشاب هنا في فلوريان تُزرع بعناية، لذلك أنصحك بأحد أنواع الشاي العشبي.”
“مملّ. هل لديكِ خيار آخر؟”
“…إن لم يرق لك، لدينا أيضًا شاي الأزهار، يُحضّر من نقع زهورٍ مجفّفة بعناية.”
“شاي الأزهار، إذًا.”
فرك دانتي ذقنه بإصبعه، وأطلقت أنفه نغمةً خفيفة تحمل شيئًا من التسلية، فيما لم تغادر عيناه القائمة.
“وأيٌّ منها الأكثر طلبًا؟”
“شاي الأزهار الذهبيّة.
رائحته خفيفة، ولونه صافٍ وجميل… كثير من الزبائن يختارونه.”
“همم.” تمتم بصوتٍ متفكّر، ثم رفع رأسه.
تشابكت نظراتهما مجدّدًا.
حدّق دانتي فيها لحظة، ثم ابتسم ابتسامةً سلسة وقال:
“قهوة سوداء.”
شدّت رِيينا أسنانها بقوة، محاولةً إخفاء انزعاجها.
أخذت القائمة بسرعة، وابتعدت عن الطاولة بخطوات حازمة.
“آنسة رِيينا… لماذا يجلس هكذا؟ متى يعتزم المغادرة؟”
“لا أعلم.”
خرج صوتها أكثر حدّةً مما قصدت.
“ألا تظنين أنّه سيلاحقكِ بتهمة إهانة العائلة الملكية، ويجرّك إلى المحاكمة؟ وماذا لو أودعك أحد الزنزانات تحت الأرض؟”
“هذا لن يحدث، لا تقلقي، يا آنسة شارون.”
منذ البداية كانت شارون قلقة، تتربص حولها، والسبب لم يكن سوى دانتي فيناشرت.
لكن رِيينا لم تكن أقل اضطرابًا.
لقد وعدها بأنه سيتغاضى، وها هو ذا يظهر أمامها من جديد.
لقد كانت ساذجة حين صدّقت كلماته حين قال إنه سيلبي طلبها.
وبالطبع، حين طالبت بالطلاق، كان قد فاجأها أيضًا… ولبّى طلبها، لكن بطريقة لم تتوقعها مطلقًا.
وبينما كانت تُعدّ قهوته، عضّت رِيينا شفتها دون وعي.
وسرعان ما كانت القهوة جاهزة.
سكبتها بعناية في الفنجان، ثم رفعت الصينيّة بثبات مدروس.
لو أتيح لها، لتناوبت على المهمة مع شارون، لكن ذلك كان مستحيلًا.
ولم يكن الأمر يستحقّ عناء المحاولة على أي حال.
فمع معرفتها بتقلب مزاجه، علمت أنّ هذا العذاب لن يدوم طويلًا.
ألقت نظرةً خاطفة على دانتي، الذي كان يُقلّب الأوراق بكسل، ثم وضعت الصينيّة بجانبه.
“قهوتك السوداء كما طلبت.”
حوّل عينيه نحوها للحظة، ثم عاد إلى الأوراق.
“هل حضرتيها بنفسكِ؟” سأل بهدوء.
“…نعم.”
ارتسمت على حاجبيها تعابير الاستغراب من السؤال المفاجئ، لكنها أومأت بخفّة بعد صمت قصير.
أنزل دانتي الأوراق، ورفع الفنجان المتصاعد منه البخار.
وصلت رائحة المرارة إلى أنفها.
بلّل شفتيه بالقليل، ثم أعاد الفنجان إلى مكانه.
“مرةً أخرى.”
“…عذرًا؟”
“إنها ساخنة.”
التقط الأوراق مجددًا واستأنف قراءتها وكأنّ شيئًا لم يكن.
رمشت رِيينا بدهشة.
هل سمعت ذلك حقًا؟
لقد كان الأمر سخيفًا جدًا.
وقفت جامدة، محدقة بوجهه الهادئ، ثم التقطت الصينيّة مرة أخرى.
“الماء فيها كثير جدًا.” أضاف وهو يدفع الصينيّة بإصبعه، دون أن يلمس القهوة مرة أخرى.
توتر فكّها السفلي، وقبضت يديها على جانبيها، تتنفس ببطء لتكبت غضبها المتصاعد.
كانت هذه المرّة الثالثة.
الأولى، قال إنّها ساخنة جدًا.
الثانية، مرّة أكثر من اللازم.
والآن، هذه الأعذار الجديدة.
حتى مع ازدياد حيرة شارون، أجبرت رِيينا نفسها على ضبط انفعالاتها.
لكن حين نقّر دانتي الفنجان بإصبعه وابتدع سببًا جديدًا، عبست أخيرًا.
“…عذرًا يا سيدي، لا أستطيع إعدادها مرةً أخرى.”
“حقًا؟ الخدمة هنا ضعيفة.”
ابتسم دانتي ابتسامةً خفيفة، بريئة أكثر مما ينبغي.
“لقد أعددت لك القهوة ثلاث مرات، لكنّ أعذارك صارت غير منطقية.”
“إن شربت ثلاث أكواب وما زالت على هذا النحو، فالخطأ منك أنت.
يبدو أنّ الآخرين يملكون ذائقة متسامحة.” قال بنبرة باردة، مرمّقًا المكان بلا مبالاة.
“إذًا… بعد أن أهدرت مالي وساعتي هنا ولم أحصل على قهوة صالحة للشرب، كيف ستعوّضينني؟”
“…أعوّضك؟”
“ساعتي الضائعة أغلى من يومك بأكمله.
ألا يجب أن تُعوضيني عن ذلك؟”
“أنت مَن يتصرف بغير عقل.
لماذا عليّ أن أتحمّل اللوم أو أدفع ثمنه؟”
كان هذا هراءً صريحًا.
ردّت رِيينا بسرعة، وقد ارتفع صوتها دون وعي.
وبدأ بعض الزبائن القريبين يلقي نظراتٍ مستترة إلى الطاولة.
“يا للعجب.”
لاحظ دانتي الانتباه الموجّه إليه، فارتسمت ابتسامة بطيئة على شفتيه.
انحنى قليلًا للأمام، قريبًا منها، وهمس بصوتٍ خافت لا يسمعه سواه:
“اخفضي صوتك، رِيينا.
الجميع يراقب.”
رافق همسه ضحكٌ ساخر لمس أذنها برفق.
“لا تريدين أن يكتشفوا أنّك كنت زوجتي، أليس كذلك؟”
ضحك دانتي ضحكةً هادئة، ثم اتكأ للخلف، وعيناه الذهبيتان لا تفارقان تعابير صدمتها.
كانت شارون محقة.
إنه مجنون بحق.
تباعدت شفتا رِيينا، لكنها لم تُصدر صوتًا.
وفي النهاية، أغلقت عينيها بإحكام.
لم تختبر مثل هذا الإذلال من قبل.
—
“لقد بذلت جهدًا عظيمًا، آنسة رِيينا…”
اقتربت شارون منها بحذر، تُواسيها بصوت خافت.
نظرت إلى وجه رِيينا الشاحب بعد نصف يوم فقط، وأطلقت تنهيدة طويلة.
التفكير في ذلك أثار غضبها مجددًا.
إنه مجنون فعلاً.
من يطلب إعادة إعداد القهوة ثلاث مرات، أو يستدعي الموظفين لمسح طاولة نظيفة؟
مراقبته لكل تفصيلة كانت مرهقة حتى لشارون.
ومع ذلك، تحملت رِيينا كل ذلك بصمتٍ دون انفعال.
فقط هذا جعل غضب شارون يتوهج من جديد.
قبضت على أسنانها، ثم انفجرت:
“لقد تجاوز الحد!
لا يهمّ إن كان دوقًا، ما فعله استبدادٌ محض!”
“أنتِ محقة.”
رمشت شارون بدهشة.
كانت تتوقع أن تُهدئها رِيينا كالعادة، لكن هذه المرة وافقتها.
“انتظري… هل تعنين أنّكِ…”
ترددت شارون متفاجئة.
أيمكن أن تكون أدركت شيئًا؟
أجبرت رِيينا شفتيها على ابتسامة مشدودة ومتوتّرة.
“آنسة شارون، أشكرك على قلقك، لكن…”
كان عليها إنهاء الحديث قبل أن يتعمّق.
هزّت رأسها محاولةً الإيحاء بأنها بخير.
لكن في تلك اللحظة، اتسعت عينا شارون بعزم مفاجئ، وأمسكت بيدها فجأة.
“إنه يهددكِ، أليس كذلك؟
هذا الدوق!”
“…ماذا؟”
“كنت أعلم! كان الجو غريبًا يومها. إنه يُرغمك ويبتزّك، أليس كذلك؟”
ذلك الوغد… حقًا أنه الأسوأ!
انفجرت شارون غضبًا، وارتسم الغيظ على وجهها.
إلى أين وصل خيالها الآن؟
مندهشة، أسرعت رِيينا إلى نفي الأمر:
“لا، ليس الأمر كذلك، آنسة شارون.
أرجوك، لا تفهمي خطأ.”
“لا تقولي ذلك، رِيينا! أستطيع حقًا مساعدتك.
حتى وإن لم أكن بقوة الدوق، فوالدي هو العمدة! سأساعدك على الهرب سرًا!”
[حواجبي ما راضية تنزل]
لكن بالطبع، لم تكن لتصغي.
“من خلال تصرّفاته، أراهن أنه هدّدك بالقتل إن عصيتِه.
لا تقلقي، آنسة رِيينا—أعتبرك أختًا كبيرة، وسأتأكد من إنقاذك!”
رنّت كلماتها بعزم لا يلين.
وعندها، أطلقت رِيينا تنهيدةً طويلة أنهت بها يومًا كاملًا من الكبت والتوتر.
التعليقات لهذا الفصل " 27"