أنزلقت سيارة بيضاء على الطريق حتى بلغت مدينة صغيرة تقع في أقصى جنوب إقليم فيناشيرت.
وبعد أن تقدّمت قليلاً، توقفت أخيراً عند شاطئ البحر، ذلك الشاطئ الذي تُعَدُّ فخرَ تلك المدينة الصغيرة.
“طَقّ.”
وعندما خرج دانتي من السيارة، ارتسم على وجهه عبوسٌ من لهيب الشمس.
كانت شمس الجنوب مختلفةً تمامًا عن شمس العاصمة؛ أشعّتها حارّة حتى في أوائل الربيع.
قال السائق بهدوء: “الجوُّ دافئٌ جدًّا لهذا الفصل.”
استغرقت الرحلة أكثر من نصف اليوم، والوقت الآن يقتربُ من الظهر.
لمْ يُجب دانتي، واكتفى بإشارةٍ وجيزة، بينما كانت عيناه تتابع امتدادَ البحر الأزرق المالح.
هناك، عند حافة الشاطئ المقابلة له، كان المنتجع الذي يملكه.
كان المكان خالياً تمامًا في تلك اللحظة، لكنه سيتحوّل قريبًا إلى مقصدٍ يعجُّ بالزوّار.
ذاك البحر الأزرق، ذلك المنتجع الفاخر، مُلاذُ النبلاء.
وعندما تجسدت في ذهنه صورةُ الصيف بوضوحٍ، ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ راضيةٌ خفيفة.
أخرج سيجارًا كعادته، أشعله، ثم تمتم قائلاً: “ليس سيئًا على الإطلاق.”
قال السائق: “يُقال إن أهل هذه المنطقة بسطاء وهادئون؛ فهذه مدينة صغيرة تقع في أقصى الجنوب.”
تلاشت أنفاسُ الدخان التي نفثها دانتي سريعًا مع نسيم البحر العليل.
وظلَّ بُصْرُه متعلّقًا بالأمواج المتكسِّرة والرمال الممتدة إلى ما لا نهاية.
“كلُّ شيء تمامًا كما تخيلتُه.”
لقد أمضى سنواتٍ طويلة يعمل بصمتٍ، محوّلًا هذا المكان إلى منتجعٍ بعيدٍ عن أعين المتطفّلين.
جمع المستثمرين بحذرٍ بالغ، دون أن يظهر اسمه على أيِّ مشروع.
اختار المدينة بنفسه، أنشأ خطَّ السِّككِ الحديدية، ثم قبل عامين وظّفَ مئاتِ العمال بأسماءٍ وهميةٍ من سيرمار لبدءِ البناء.
والآن، وهو يتأمل المشهد أمامه، لمْ يشعر بأدنى ندمٍ على كلِّ ما بذلَه من جهد.
لكن حين رفع السيجارَ شبه المحترق إلى شفتيه مجدّدًا، لَحِظَ امرأةً تقف عند كشك فواكهٍ في البُعْد.
كانت تحمل أكياسًا بين ذراعيها أثناء شرائها للفواكه.
شَعْرٌ بني متموّج، جسدٌ نحيل، خطوات رصينة لا تجذب الانتباه…
شيءٌ ما في ملامحها أيقظ داخله ذكرى مألوفة.
دانتي تذكّر امرأةً تشبهها تمامًا في تلك الهالة الهادئة.
“سيدي الدوق؟”
كان صوتُ السائق قد أخرجه من شروده، فالتفت دانتي ببطء.
“هل هناك مشكلةٌ يا سيدي؟”
لمْ يُجب، بل ألقى نظرةً أخرى نحو المكانِ الذي علقت فيه عيناه.
قطّب حاجبيه، وارتسمت في ذهنه فكرةٌ لم تخطر له من قبل.
وبحلول تلك اللحظة، كان السيجار قد احترق أكثر من نصفه.
“تْشه.”
نقرَ بلسانه بضجرٍ، ثم أطفأه تحت كعب حذائه، وأدخل يديه في جيوب معطفه.
“كلا، لا شيء على الإطلاق.”
“هل نتوجّه إلى المنتجع إذن؟”
“نعم.”
جلس دانتي في المقعد مسترخٍ، بينما كانت عيناه الذهبيتان تحدقان في البحر الواسع وراء الزجاج.
“طَقطَقة… طَقطَقة…”
تردّدت خطواتُ حذائه اللامع في أرجاء بهو المبنى الرئيسي للمنتجع.
رفع العمال أنظارهم إليه وهو يحمل قطع الأثاث، واتّسعت أعينهم دهشةً حين أدركوا أن الدوق قد حضر شخصيًّا.
لكن، إلى جانب تبادلِ نظراتٍ سريعةٍ تقول: “لماذا حضر صاحبُ السموِّ بنفسه؟”، لمْ يجرؤ أحدٌ على مخاطبته.
فوجودُه وحدَه كافٍ لانتشار الشائعات مع حلول المساء: ابتداءً من اليوم، هذا المنتجع مرتبطٌ بالدوق.
غير أنّه، ومع اقتراب اكتمال البناء بعد شهر، لمْ يعد يكترث للأحاديث.
توقّف دانتي في منتصفِ البهو، متأمّلًا المكانَ ببطءٍ.
وبما أن المنتجع أقيم على الساحل، فقد وُضعت نوافذٌ وشُرفاتٌ ضخمة تتيح رؤيةَ البحرِ من كل جهة.
كانت أشعة الشمس الجنوبية تتدفّقُ إلى الداخل، تنثُر دفءًَا لطيفًا على الأعمدة والجدران البيج الفاتحة.
كان الضوء الطبيعي وافرًا، لكنه غير قاسٍ، فأبدى دانتي رضاه الصامت.
“عملٌ جيد.”
كان بالكاد يحرك رأسه حين—
“سيدي الدوق! لقد جئت! “
كان الصوتُ لكاليس، المشرف على الموقع.
اتّجهت نظرات دانتي إلى سترته المجعّدة، ففَهِمَ كاليسُ على الفور مغزى تلك النظرة، وسارع لتسوية ملابسه.
وكما قال كبير الخدم، أصبح هذا الرجلُ أكثر وعيًا وخبرةً منذ عمله هنا.
أومأ دانتي بجفافٍ: “أعطِ الأولويةَ لنظامِ التدفئة وفحوصاتِ السلامة.”
“أمرك، سيدي الدوق!
هل ترغب بجولةٍ في المنتجع الآن؟”
“لاحقًا، ابدأ بالملحق أولًا.”
“بالطبع، سأرشدُك.”
ورغم التوتر الظاهر، بدَت نبرةُ كاليس وحركاته واثقةً غيرَ متردّدة.
تقدّم بخطى سريعة إلى جانب دانتي، يقوده بمهارةٍ اكتسبها مع الوقت.
“لقد تغيّر عن العامِ الماضي.”
ففي السابق، كان عاجزًا عن كتابةِ تقريرٍ واحدٍ صحيح، أما الآن فبات مختلفًا تمامًا.
قال كاليس ضاحكًا بصوتٍ مرتفعٍ وهو يسيرُ بجانب دانتي:
“هاها!
بوجودِكم يا سيدي، يبدو أن المنتجع اكتمل أخيرًا!”
كانت كلماته مجرّد مدحٍ فاضح، لكنه لم يعد يرتجف كما في الماضي، بل صار يجرؤ على المزاح.
“أمرٌ غير متوقّع.”
يبدو أن سنةً من إدارة المشروع جعلته يتعلّم كيف يتعامل مع العمال وأهالي المنطقة على حدٍّ سواء.
قال دانتي ببرودٍ: “اصمت.”
“آه!
نعم، عذرًا يا سيدي.”
ساد الصمت بقية الطريق إلى مبنى الملحق.
—
في صباح اليوم التالي، وصلت ريينا إلى المقهى كعادتها.
ولأن زميلتها لم تأتِ بعد، أنجزت التحضيرات الصباحية بنفسها، ومسحت الأكواب التي غسلتها الليلة الماضية بقطعةِ قماشٍ جافة.
كان هذا الطقسُ الصغير أشبهَ بتمرينِ إحماءٍ قبل العمل، وروتينها الثابت لبدءِ اليوم.
“صباح الخير، شارون.”
“آه، لم أرِد أن آتي اليوم أبدًا… لكن ها أنا هنا.”
لم تَستطع ريينا منعَ نفسها من الضحكِ بخفّةٍ وهي ترى ملامح شارون المتجهّمة.
وربما لأنّها كانت تصغُرها بستّ سنواتٍ، فقد بدت دائمًا كأختٍ صغيرةٍ لها.
أما شارون، فكانت تتعامل مع ريينا كأنها أختها الكبرى فعلًا.
وعندما انتهت ريينا من ترتيب الأكواب بعنايةٍ، كانت شارون قد ارتدت مئزرها وبدلتها.
ثم قفزت نحوها بخفّةٍ وقالت: “آسفةٌ لتأخري يا ريينا.
شربتُ كثيرًا الليلة الماضية، بالكاد استطعت فتحَ عينيّ هذا الصباح.”
“شربتِ؟ أنتِ تشربين؟”
“أنا في العشرين!”
انفجرت ريينا ضاحكةً بصوتٍ صافٍ.
كانت إجاباتُ شارون الطفولية تزيدها طرافة، وغالبًا ما كانت ريينا تمازحها لذلك.
قالت ريينا بابتسامةٍ دافئةٍ: “حسنًا، اذهبي وبدّلي اللافتة إذن.”
“يومُ عطلةٍ واحدٌ كل أسبوعين، أليس هذا ظلمًا؟”
“شارون، اذهبي.”
زمّت شارون شفتيها متدلّيةَ الكتفين وهي تمشي نحو الباب، فيما أخفت ريينا خلف نظرتها ابتسامةً مائلةً بالحزن.
‘لقد تعلّقتُ بها أكثرَ مما ينبغي…’
“ريينا! ريينا!”
“نعم؟”
رفعت رأسَها وهي تعصر كيسَ العجين الأخير داخل كيسِ التشكيل، لتجد شارون عائدةً إلى المطبخ وهي تتذمّر.
“ليس عليكِ فعلُ ذلك! استعملي عجينةً جديدةً فقط!”
“سيكون ذلك تبذيرًا، ثمّ إن هذه الكمية تكفينا تمامًا.”
قالت ذلك وهي تطرق الصينية لتفريغ الفقاعات الهوائية.
“حسنًا، لماذا ناديتني إذن؟”
“أوه، الليمون! نفد لدينا. سأذهب وأشتري بعضه، لذا راقبي الطاولة قليلاً.”
“حسنًا، لا تركضي، خذي وقتك.”
“تقولين ذلك دائمًا!”
انتفخت وجنتا شارون كطفلةٍ غاضبةٍ واندفعت خارج المقهى.
ابتسمت ريينا بخفّةٍ، ثم وضعت الصينية في الفرن.
“رنين.”
رنَّ جرسُ الباب في اللحظة التي خرجت فيها من المطبخ، معلنًا دخول زبونٍ جديد.
وكعادتها، حيّت بلطفٍ: “أهلًا وسهلًا.”
لكن ما إن فكّت عقدَ المئزر ورفعت رأسها حتى تجمّدت في مكانها.
حبست أنفاسها.
تصلّب جسدُها بالكامل.
وعيناها المتّسعتان ترتجفان وهما تحدقان بالرجل الواقِف أمامها.
“…أأنتِ حية؟”
عينان ذهبيتان حادتان لا تلينان تحدقان بها من الأعلى.
[زوز: لا عقرب هههه!]
شحُب وجهها وارتعشت كما لو أن الأرض انزلقت من تحتها.
قال بصوتٍ منخفضٍ خالٍ من المشاعر: “مرّ وقتٌ طويلٌ يا ريينا.”
ما إن سمعَت اسمَها يخرجُ من شفتيه، حتى هوت روحُها إلى قاعٍ مظلم.
تجمّدت أفكارُها تمامًا، أغلقت عينيها بقوّةٍ، ثم فتحتها ثانيةً.
لكن شيئًا لم يتغير.
الواقع قاسٍ لا يرحم.
ذلك الشّعرُ الذهبيُ المتلألئ، وتلك العينان الذهبيّتان القاسيتان، ذلك الوجهُ الذي لا يُنسى… كان الآن أمامها.
زوجُها السابق، دوقُ فيناشيرت.
لم يكن حلمًا.
مال دانتي برأسه قليلاً، وانفرجت شفتاه ببطءٍ وهو يقول: “أجيبي، ريينا… قبل أن أقتُلَكِ.”
كانت الكلمات قاسيةً، لكن صوته خالٍ من أيِّ انفعالٍ.
التعليقات لهذا الفصل " 23"