مع انبلاج الفجر وانسياب خيوط الضوء الأولى على الأفق، نهضت ريينا إلى يومها الجديد بهدوءٍ ووقار.
كانت الطيور تغرّد بأنغامٍ ندية، كأنّها تُبارك بدء الصباح، فيما كانت خصلات شعرها تتمايل برقة حول كتفيها كلّما تحركت لترتدي ملابسها وتعدّ فراشها بعنايةٍ متقنة.
توقفت لحظة أمام المرآة لتعيد ترتيب شعرها في عقدةٍ أنيقة، ثم خرجت بخطواتٍ رصينة إلى الخارج.
لكنّها، على غير عادتها، لم تتجه نحو المقهى ذلك اليوم، بل سلكت الطريق المؤدي إلى السوق.
فقد كان هذا أحد أيام الراحة التي يُغلق فيها المقهى مرة كل أسبوعين.
وفي مثل هذه الصباحات، اعتادت ريينا الخروج باكرًا لتشتري حاجاتها، أو تصلح ما تعطل في منزلها، أو تُعدّ غداءً بسيطًا تصحبه معها إلى الشاطئ لتقضي هناك نزهةً هادئة في وحدتها.
كانت تلك التفاصيل الصغيرة — التي قد يراها غيرها عاديةً — تشكّل بالنسبة إليها لحظاتٍ نادرة الثمن، غالية على نفسها.
امتلأ السوق بأصوات الباعة وروائح الفاكهة والخضار الطازجة، تمتزج بعبق التراب الدافئ بدلًا من نسيم البحر المعتاد.
تقدّمت بين الأكشاك بخفةٍ وأناقة، حتى امتلأت سلتها بالطعام فغدت ثقيلةً على نحوٍ لطيف، ثم تابعت طريقها نحو آخر وجهاتها.
رنّ جرس الباب إيذانًا بدخولها.
“مرحبًا! آه، ريينا! كم مرّ من الوقت!”
“صباح الخير، سيدتي. كيف حالك اليوم؟”
“كما أنا دائمًا، سوى أنّ ذلك الزوج يُرهق أعصابي!”
ابتسمت ريينا ابتسامةً رقيقة وهي تصغي إلى صاحبة محلّ الزهور التي كانت تلوّح بيديها في تظاهرٍ بالضيق.
تذكّرت ريينا زوجها جيدًا؛ فقد كان من الزبائن الدائمين في المقهى، يمرّ كل مساء ليشتري لزوجته بعض الحلوى.
“لكن بيتر يبدو سعيدًا جدًا كلّما ابتاع شيئًا لكِ. لا يملّ من الثناء على مهارتك في الطبخ.”
“هاه! لو تعلمين كم أتعبني حين كان صغيرًا! يريد أطباق الصيف في الشتاء، وأطباق الشتاء في الصيف!”
كانت ريينا تصغي بهدوء، شفتيها متّصلبتان بابتسامةٍ دافئة، مستمتعةً بتلك الأحاديث البسيطة التي تغزل دفءَ الحياة اليومية.
وبعد سلسلةٍ من القصص عن الأزواج المزعجين والأبناء المشاكسين، تنهدت بائعة الزهور تنهيدةً طويلة.
كانت تلك لحظة الختام لسيلٍ من الحكايات التي اختزنتها أسبوعين لتبوح بها أخيرًا لريينا.
لكنّها اليوم بدت وكأنّها تخبّئ سؤالًا طال في صدرها.
سحبت نفسًا عميقًا وقالت بعد تردّدٍ قصير:
“ريينا… هل لي أن أسألك شيئًا؟ الناس يتحدثون كثيرًا هذه الأيام.”
“بالطبع، تفضّلي.”
“أأنتِ متزوّجة؟”
تجمّدت ريينا لحظة، رمشت بعينيها متفاجئة.
سؤال كهذا؟ الآن؟
تابعت المرأة بنبرة فضولية مشوبة بالحماس:
“أنتِ شابة، وقد جئتِ إلى هنا وحدك… بدا الأمر غريبًا قليلًا، فظنّ البعض أنكِ ربما متزوجة، وآخرون أنكِ هربتِ من العاصمة! لكن بما أنكِ لم تتحدثي قطّ عن نفسك، أثار ذلك فضول الجميع.”
رفعت ريينا حاجبًا وابتسمت بلطفٍ مرتبك.
كانت تتفهم طبيعة البشر حين يتعلق الأمر بالغرباء — فكلّ مجهولٍ يثير الأسئلة — ولم تلُمْ أحدًا على ذلك.
بل رأت في انتظارهم عامًا كاملًا قبل السؤال نوعًا من الأدب.
فكّرت لحظة، ثم قالت بصوتٍ هادئٍ متّزن:
“كلا، لست متزوجة.
جئت فقط لأنّ العاصمة كانت مزدحمة أكثر مما أحتمل.”
“آه، أفهمكِ تمامًا! زرتُ العاصمة مرّة، يا للفوضى! جميلة للزيارة، لا للعيش فيها.”
“تمامًا، لذلك أحب فلورين. هادئة… ويمتزج فيها عبير البحر بنسيمها الدافئ.”
قهقهت بائعة الزهور برضا، ثم قالت وقد عاد إليها الفضول:
“وحسنًا… ماذا عنكِ وهنري؟ أرجو ألا أبدو فضولية!”
ضحكت ريينا بخفةٍ فيها شيء من الاستسلام، إذ أدركت أخيرًا السؤال الحقيقي خلف كلّ هذا الحديث.
هنري — الرجل الذي علّمها كابنته — كان قد أوصاها ألّا تُجيب على أيّ سؤالٍ يتعلّق به، وذلك وحده جعل الناس أكثر فضولًا.
راقبتها بائعة الزهور بتوتّر، تخشى أن تكون تجاوزت حدّها.
ولمّا وقف أمامهم، انحنى الجميع دفعةً واحدة، في صمتٍ عظيمٍ كهيبة الفجر.
قبل أن يصعد السيارة، أدار دانتي رأسه نحوهم، وعيناه الذهبيتان تشعّان ببرودٍ صامت، لا أثر فيه للدفء.
انقبض صدر كبير الخدم عند رؤيتها.
كان يودّ لو لم يلحظ ذلك الوميض الخافت — ذلك الشيء المقيّد في أعماق سيده، والذي لم يسمح له يومًا بالظهور.
أسرع يقول بصوتٍ مفعمٍ بالاحترام ليبدّد ثقل اللحظة:
“رحلة موفقة يا صاحب السموّ.
سأحرس القصر بكل قوتي حتى تعود.”
“…نعم. سأتركه في عهدتك.”
أومأ الدوق برأسه وصعد إلى السيارة وحده هذه المرة.
وفي الداخل، فتح الملفّات المُعدة سلفًا — تصاميم هندسية، تقارير مالية، وسجلات من كاليس — وكان يعرفها جميعًا، فقد قرأها مرارًا.
لكنّه تصفّحها مجددًا بتمعّنٍ هادئ بينما السيارة تمضي.
وحين بلغ الورقة الأخيرة، توقّف.
[منتجع “لافلوريينا” – المسودة الأولية لدليل التشغيل]
تأمل الاسم طويلاً، كأنه يقرأه للمرة الأولى.
“لافلوريينا.”
تكرّر اللفظ على لسانه بنغمةٍ متمهلة، كأنّها اسمٌ شخص عزيزٌ.
لقد كان هذا المشروع تحفته الكبرى، ثمرة سنواتٍ من العمل في الظلّ، والمقرّر افتتاحه مع قدوم صيف العام القادم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 22"