جلس دانتي متراخيًا على المقعد، يقلب الأوراق بين يديه بلامبالاة، قبل أن تعقد ملامحه إشارة ضجر واضحة.
“أيهما أسرع؟ أن أنتهي من قراءة هذا التقرير المملّ، أم أصل إلى القصر حيث ينتظرونني بلهفة؟”
خرج صوته منخفضًا، حادًّا، أشبه بزمجرة وحشٍ يضمر تهديدًا مبطّنًا.
ارتد صدى صوته في أرجاء السيارة، فارتجف المرافق خلف المقود.
“أ- أعذرني يا مولاي… لقد وُجّهت الدعوة هذا العام حتى إلى البورجوازيين لحضور مأدبة عيد ميلاد وليّ العهد… والطريق مزدحم خانق.”
تجرّأ المرافق على النظر في المرآة، لكن ما إن اصطدم بريق عيني دانتي الذهبيّتين حتى أشاح بنظره مسرعًا، وشدّ قبضته على عجلة القيادة كأنها خشبة خلاص، بينما يعضّ شفته بقلق ظاهر.
كان الدوق الأكبر فيناشيرت رجلاً دقيقًا حدّ الهوس بالوقت.
لا يضيّع دقيقة واحدة، ويحرص أن يصل إلى كل موعد قبل أوانه بنصف ساعة على الأقل.
والآن، ها هو عالق في طابور طويل من العربات والسيارات، مجبرًا على إهدار وقته الثمين في أكثر الأمور تافهة.
“إذا كانت هذه السيارة أبطأ من عربة خيل، فما جدوى من ركوبها؟”
قالها دانتي ببرود يقطر حِدّة.
“س- سأزيد السرعة متى انفتح الطريق، مولاي.”
كان المرافق يضيق ذرعًا هو الآخر، لكن لم يكن أمامه سوى التضرّع في سرّه أن ينفرج الزحام سريعًا.
رَمَى دانتي بالأوراق جانبًا في ملل، وألقى نظرة عبر النافذة.
لم يكن المرافق مخطئًا؛ الطريق مكتظ بالعربات الفاخرة والسيارات اللامعة المتلاصقة حتى الاختناق.
كل هذا البذخ لمجرّد التقرّب من وليّ العهد في عيد ميلاده.
أما دانتي، فلم يرَ فيهم إلا حشدًا غبيًّا تافهًا.
زفر ضيقًا، ثم نظر إلى ساعته.
لقد مرّت ساعة كاملة وهو عالق—وقت يكفي للقاء مستثمرَين على الأقل.
أخذ ينقر بإصبعه على ساقه المتشابكة، عادة قديمة لا تفارقه كلما غلبه الغضب.
ظلّ على حاله حتى تجرّأ المرافق وقال بنبرة متفائلة:
“الطريق بدأ ينفتح يا مولاي. سنصل قريبًا.”
بدأت السيارة تكتسب سرعة تدريجيًا.
رمق دانتي الضوء القرمزي المتسلّل من النافذة بنظرة سريعة، ثم أغمض عينيه.
—
“يبدو أنّكِ تعانين من اكتئاب.”
قال كبير أطباء قصر بَيهِرن بعد سلسلة فحوصات دقيقة، بنبرة مترددة.
“…اكتئاب؟”
لم تكن رِيينا هي من صُدمت، بل مارغريت التي كانت واقفة بجوارها.
“بِينجامين، أتقول إن سيّدتي ليست مريضة جسديًا، بل مكتئبة؟”
“نعم، سيدتي. أعراضها من إرهاقٍ ونعاسٍ تعود لهذا الاضطراب.”
أصاب الارتباك مارغريت.
لقد رأت الدوقة تقضي أسابيع بالكاد تلمس الطعام، وأيامها غارقة في النوم والإجهاد.
حتى المشي القصير كان يرهقها.
الأعراض تشبه الشائعات الغريبة التي يتهامس بها الخدم، شائعات حاولت إنكارها، لكنها لم تستطع محوها من ذهنها.
ورغم ذلك، كان أهون أن يكون الأمر نفسيًا لا داءً جسديًا خطيرًا.
تماسكت مارغريت سريعًا، وبدأت تستفسر عن طرق التخفيف من هذه الحالة.
أما رِيينا، فبقيت صامتة تستمع.
…اكتئاب.
على الأقل لم يكن التشخيص السخيف الذي يخشاه عقلها: الحمل.
فقد اعتادت نظرات الخدم المريبة لبطنها وكلماتهم المبطّنة، لكنها لم تكترث للرد.
ابتسمت ابتسامة باهتة، ثم التفتت إلى مارغريت.
“…مارغريت، أشعر بالعطش.”
“سأطلب من خادمة أن تحضر شيئًا حالًا—”
“كلا.
أريد الشاي من يديكِ أنتِ.
أحضري ثلاثة أكواب، واحدًا للطبيب أيضًا.”
قالتها بابتسامة هادئة، فشهقت مارغريت دهشة.
لم تعتد أن تقاطع رِيينا أحدًا، كانت دومًا صبورة تستمع حتى النهاية.
وفهمت مارغريت المغزى من هذا التصرف، فأطبقت شفتيها وغادرت بلا اعتراض.
ما إن ابتعدت حتى التفتت رِيينا نحو الطبيب، وهمست:
“أنا أدرى بجسدي. قل لي الحقيقة بلا لفّ ودوران.
ما مرضي؟”
اكتئاب؟ مستحيل.
هذا الألم في صدرها حقيقي، محسوس.
تحدّق في وجهه بثبات:
“حين استمعت إلى قلبي… لم يكن صوته طبيعيًا، أليس كذلك؟”
رأت الارتباك في ملامحه، ورعشة يده وهو يمسك بالسماعة.
لقد كان يخفي شيئًا.
ارتبك الطبيب، ثم قال أخيرًا:
“لقد كنتِ مريضة منذ زمن… أليس كذلك؟”
“تكلّم بصراحة يا عمّي.
هل هو مرض خطير؟”
“…لا أدري كيف أقوله”
حين أصرّت بهدوء، تنفّس بعمق وقال:
“استمعي… في بارمارك لا علاج لهذا الداء.
قلبكِ يخفق ببطء غير طبيعي، إنه مرض نادر يُسمى بطء القلب.
لا دواء له.”
تمتمت بهدوء:
“مما يعني أن وقتي قصير، أليس كذلك؟”
“…الأدوية قد تطيل عمرك لعامين على الأكثر.”
“أفهم.
وماذا عن الأعراض؟”
“سعال متقطع، أحيانًا مع دم. لكن يمكن السيطرة عليه بالعلاج. الأهم أن تتجنّبي التوتر النفسي.”
أومأت برضا غريب، وكأنها تتقبل الحكم.
تألّم الطبيب لرؤيتها بهذا الهدوء المستسلم.
كم تحمّلت لتصبح بهذه الصلابة؟
سأل بصوت منخفض:
“منذ متى تشعرين بهذا؟”
ترددت قليلًا، ثم قالت:
“أكثر من عام.
في البداية خفيف، ثم ازداد سوءًا في الأشهر الأخيرة.
أحيانًا يخرج الدم مع السعال.”
“ولِمَ لم تستدعيني من قبل؟ لو أنّك—”
قاطعته بابتسامة ساخرة:
“لو علم الدوق بمرضي لطردني.
ما حاجته بدوقة عاجزة؟… ثم إنك تعلم أنني لطالما تمنّيت الموت.”
منذ طفولتها القاسية، منذ أن هجرَت أمها المنزل هربًا من الأب السكير الذي انهال عليها ضربًا، لم ترغب في الحياة يومًا.
“منذ اليوم الذي أنقذتني فيه وأنا على شفير الموت… كان عليّ أن أترك نفسي، أن أموت حينها.”
أدارت وجهها نحو النافذة لتتجنب شفقته.
انعكس ضوء الغروب على عينيها فتلونتا بحمرة حزينة.
“لست حزينة. لكن… هذا غير عادل بتاتا.
لو كنت أعلم، لحاولت الهرب مرّة واحدة على الأقل.”
ارتجف صوتها قليلًا، كأنها تبوح بسرٍ دفين.
ضحكت ضحكة خاوية، لا تحمل سوى فراغ داخلي.
هكذا ستكون النهاية—بعد كل ما قاومته، يُسدل الستار بداء خفيّ.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 2"