العاصفةُ التي دامت ثلاثةَ أيّامٍ اجتاحت كلَّ شيءٍ، وسلبت أكثرَ ممّا يمكنُ لأحدٍ إحصاؤه.
تدمّرت أحياءٌ بأكملها في شرقِ وجنوبِ بيهيرن، وتركَت آلافَ البشرِ بلا مأوى، فيما بلغتْ خسائرُ الممتلكاتِ أرقامًا مذهلة.
وكان عبءُ تلكَ الكارثةِ كلّها على كاهلِ الدّوق الأكبر فيناشيرت.
الدّوقُ الأكبر لا يُولّي ظهرهُ للمآسي.
“الدّوقُ الأكبر فيناشيرت يتولّى قيادةَ جهودِ إعادةِ الإعمار – كمْ ستكونُ كلفةُ التّعويضات؟”
طبيعيٌّ أنْ تتصدّر هذه العناوينُ الصّحفَ صباحًا، فدانتي لمْ يكنْ من النّوعِ الّذي يتغاضى عن الخراب.
لكنّ العملَ المتدفّقَ بلا نهاية، وتراكمَ التّقاريرِ والالتماساتِ يومًا بعد يوم، أنهكهُ حتى نخاعَ العظم.
“رايشرت، أيّها اللعين.”
ضغطَ أسنانهِ بغضبٍ ورسمَ بقلمهِ خطوطًا عشوائيّةً على الورق.
ما إنْ رأتِ العائلةُ المالكةُ حجمَ الدمارِ وآلافَ المشرّدينَ في بيهيرن، حتّى تخلّت عن مسؤوليّتها، متذرّعةً بأنّ العاصمةَ نفسها تعاني أكثرَ من أنْ تمدَّ يدَ العون.
لكنَّ الأمرَ لمْ يكنْ كلّهُ شرًّا.
فبعدَ فضيحةِ إلغاء زواجهِ من الدّوقةِ الكبرى وتلطّخِ سمعته، ربّما بدتْ له هذهِ كارثةٌ تحملُ في طيّاتها فرصةً غيرَ متوقّعةٍ لقلبِ الصّورةِ لصالحه.
ومع ذلك، ظلَّ الغضبُ يغلي في صدرهِ، حتّى وهو يعلمُ أنّها فرصةٌ مثاليّةٌ لإعادةِ بناءِ صورته.
وليُّ العهدِ الّذي ألقى عليه العبءَ بلا تردّدٍ جعلهُ في لحظةٍ يحنقُ على الأسرةِ المالكةِ بأسرها.
“تضحيةُ الدّوق الأكبر فيناشيرت النّبيلةُ ستبقى حيّةً في ذاكرةِ الشّعبِ والتّاج، وخدمتُهُ خالدةٌ…”
لمْ يُنهِ دانتي قراءةَ هذا الخطابِ المبتذلِ من القصر، بل مزّقهُ وألقاهُ في النّار.
ارتعدَ المستشارونَ الحاضرون، لكنّ أحدًا لمْ يتجرّأ على الكلام، فالجميعُ يعرف أنّ دانتي فيناشيرت لا يعبأُ بهذه المظاهر.
خمسةُ أيّامٍ مرّتْ منذ انقشاعِ المطر.
ومنذ ذلكَ الحين، دانتي لا يفعلُ إلا التّوقيعَ على الالتماساتِ والتّقارير.
نادِرًا ما يأكل، بالكادِ ينام، وأعصابهُ تآكلتْ ساعةً بعد أخرى.
ومهما وقّعَ من موافقات، كَمُّ الأوراقِ لا يتناقص.
بغضبٍ رمى قلمهُ جانبًا ومدَّ يدهُ نحو علبةِ سجائره.
“كليك.”
“…اللعنةُ على كلّ شيء.”
كانتِ العلبةُ فارغةً.
قذفها في سلّةِ المهملاتِ بشتيمةٍ حادّة، فيما مسحتْ عيناهُ الحمراوانِ المكتبَ بنظرةٍ كالخنجر.
انكمشَ الرّجالُ المجتمعون – من مدراءَ ومستشارينَ – في مقاعدهم كفئرانٍ محاصرةٍ بالعرقِ والخوف.
الأيّامُ بلا راحةٍ جعلتِ الدّوقَ الأكبر مشدودًا كوترٍ على وشكِ الانقطاع.
ثمّ ثبتتْ نظراتُ دانتي على رجلٍ واحد.
تصلّبَ المديرُ حينَ أدركَ أنّهُ المقصود، نفسُ الرّجلِ الذي قدّمَ التّقريرَ البائسَ قبل أسابيع.
“ماذا تنتظر؟ أحضرْ لي سيجارة.”
قفزَ الرّجلُ مسرعًا إلى الخارج.
‘يا لهُ من مسكين.’
تبادلتِ الأنظارُ الفكرةَ ذاتَها.
منذ ذلكَ الخطأِ وهو تحتَ وطأةِ دانتي، لكنَّ الدّوق لمْ يُعرْ أحدًا اهتمامًا، وانتزعَ الملفَّ التّالي بعصبيّة.
ما إنْ فتحَهُ حتّى عقدَ حاجبيه:
“أتظنُّ أنّ إصلاحَ أضرارِ ثلاثةِ أيّامٍ من المطر سيستغرقُ أسبوعين؟ تواصَلْ مع مديرِ الموقع وقلّصْ الجدولَ الزّمنيّ.”
“نعم، يا صاحبَ السّمو. سأتولّى الأمر. لكن… التّكاليفُ قدْ ترتفعُ قليلًا.”
“كمْ؟”
“نحو خمسمائةِ ألفِ كرانغ.”
رمقهُ دانتي بنظرةٍ حادّةٍ ثمّ زفرَ:
“أخبِرْهم أنّها مُعتمدة.”
… حمقى.’
مرّرَ يدهُ في شعرهِ بعصبيّة:
“هدسون.”
“نعم، يا سيّدي.”
تقدّمَ كبيرُ الخدمِ متعبًا بنفس الإرهاقِ الذي يخيمُ على الجميع:
“أيُّ أخبار؟”
خفضَ هدسون رأسهُ:
“…لا شيء بعدُ، يا صاحبَ السّمو.”
عادَ المديرُ اللاهثُ، العرقُ يتصبّبُ منهُ، وقدَّمَ علبةَ سجائرَ إلى دانتي.
أشعلَ واحدةً وحدّقَ في الرّجلِ المسكين:
“إنْ كان تقريرُك القادمُ تافهًا مثلَ السّابق، فسيكونُ الأخير.”
“سأبذلُ كلَّ جهدي! سامحني!”
ارتجفَ صوتهُ وانحنى متوسّلًا، فيما انعقدَ حاجبا هدسون بشفقة.
منذ ذلكَ التّقريرِ والرّجلُ يذوقُ إهانةً تكفي لعُمرٍ كامل، ومع ذلك لمْ يستطعِ الرّحيل.
فكلُّ مَن هنا مقيّدٌ بعقودٍ قاسيةٍ مع بيتِ فيناشيرت لا تقلُّ عن العبوديّة.
تلاقى نظرُ المديرِ مع هدسون، فأومأ لهُ الأخيرُ إيماءةً خفيّةً: ‘اذهبْ ما دمتَ تستطيع.’
لكنّ الرّجلَ انحنى مجدّدًا وعادَ إلى مكانه.
أشعلَ دانتي سيجارتهُ وسحبَ نفسًا طويلًا من الدّخانِ المرّ، ولمْ يشعرْ ببعضِ التّخفيفِ إلا بعد ثمانيةِ أيّامٍ من الإرهاقِ المتواصل.
ثمانيةُ أيّامٍ مضتْ منذ الحادثة، ثلاثةٌ منها تحت المطرِ وخمسةٌ بعدَهُ.
فتّشوا بيهيرنَ طولًا وعرضًا، حتى في أماكنَ بعيدةٍ عن موقعِ الحادث، بلا أثر.
‘لا شكّ أنّها ماتت.’
‘لكان أفضلَ لكَ لو أنّي متُّ في تلكَ اللّحظة.’
‘آسفةٌ لأنّي لمْ أستطع.’
رنَّ صوتُ ريينا الواثقُ الهادئُ في ذهنهِ وصورتُها الشّجاعةُ ترتسمُ بوضوحٍ مؤلم، تطفو على أفكارهِ بلا رحمة.
أشعلَ سيجارةً أخرى.
حتى في موتِها لمْ تكُنْ سوى عبءٍ عليه.
إعلانُ وفاتها سيُحطّمُ سمعتهُ الهشّةَ تمامًا ويُبدّدُ كلَّ جهودهِ.
“أوقفوا فرقَ البحث.” قالها بصوتٍ بارد.
“نعم، يا صاحبَ السّمو.”
“وأعدّوا جنازةً.
بأسرع وقت.”
اتّسعتْ عينا هدسون دهشةً، فالنّبرةُ جامدةٌ بلا أثرٍ للحزن، فقط فتورٌ وضجر.
انحنى قائلًا ببطء:
“نعم، يا صاحبَ السّمو.”
—
رأتْ حلْمًا طويلًا…
كانتْ في التّاسعةِ من عمرها.
ذلكَ اليومُ بدأ كالعادةِ بصفعةِ والدِها وركلِه لها.
“أنا آسفة! أنا آسفة!”
“أيتها الحقيرة! أطعمُكِ وأكسوكِ وتسرقينَ نقودي؟!”
رعبٌ لا ينتهي وألمٌ يحرقُ الجسد.
“لـنْ أكرّرها! أرجوكَ سامحني هذه المرّة!”
حتّى وهي تتلقّى ركلاتهُ كانتْ تزحفُ إليهِ متوسّلةً حتّى نزفتْ كفّاها.
“لا تعودي حتّى تُعيدي خمسةَ أضعافِ ما سرقتِه!”
رماها حافيةً في بردِ الشّتاء القارس، وهناكَ فقط استطاعتْ الهرب.
لكنَّ البردَ كانَ خوفًا آخرَ ينتظرها.
تاهتْ مرتجفةً في الشّوارعِ حتّى وصلتْ إلى نافورةِ بيهيرن، الّتي أعجبتْ بها يومًا حينَ جعلتها الشّمسُ تتلألأ كالجوهر.
أمّا الآن فقدْ تجمّدتْ تمامًا.
احتمتْ أسفلها تستجدي المارّينَ ساعاتٍ طويلة:
“أرجوكَ سيّدي، كرانغٌ واحدٌ فقط.”
“اغربي عن وجهي أيتها المتسوّلة! من سمحَ لكِ بالجلوسِ هنا؟”
“دَعْها، في هذا الطّقسِ لنْ تعيشَ طويلًا. صلّي للهِ ما دمتِ تستطيعين.”
كانتِ الكلماتُ أبردَ من أيِّ صفعةٍ.
بعد ساعاتٍ من العذابِ لمْ تجمعْ إلا ثلاثةَ كرانغ.
سرقتْ من والدِها كرانغًا واحدًا فقط – وعليها جمعُ سبعةٍ أخرى قبلَ أنْ يُسمحَ لها بالرّجوعِ إلى البيت.
فعلتْ ذلكَ لأنّها جائعةٌ بعد يومينِ بلا طعام.
ارتجفتْ باكيةً بثيابٍ ممزّقةٍ وذراعيْنِ وساقيْنِ متورّمتينِ من الصّقيع، لمْ تعدْ تشعرُ بالألم.
أدركتْ ريينا في تلكَ اللحظة أنّها لنْ تعودَ أبدًا.
ستموتُ هنا متجمّدةً هذهِ اللّيلة.
‘هلْ أدعو اللهَ مرّةً أخيرة؟’
وما إنْ خطرتِ لها هذه الفكرةُ –
…
…
…
“هاه!”
شهقتْ ريينا فجأةً واستيقظتْ جالسةً.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات