“طَك، طَك.”
أسند دانتي ظهره إلى إطار النّافذة، مكتّفًا ذراعَيه، وأخذ يُنقِر بإصبعه على ساعده بعادةٍ مألوفةٍ لديه.
اختفت الشّمس السّاطعة الّتي ملأت السّماء قبل ساعاتٍ قليلة، وابتلعتها غيومٌ رماديّةٌ ثقيلة.
وانعكس ذلك السّواد على مزاجه، فخَفَتَ بريقه كما خَفَتَ ضوء النّهار.
في الغرفة الهادئة ذات الإضاءة الخافتة، تبعت عيناه الذّهبيّتان الباردتان العربة الّتي غادرت تَوًّا. كانت تقلّ ريينا.
ليست عربة القصر الفخمة، بل مركبةٌ عامّةٌ قديمةٌ بالكاد تصلح للسّير.
غادرت دون أن تُخبر أحدًا، ودون أن تجد من يُودّعها.
لقد اختارت أن ترحل بصمتٍ، كي لا يُدرك أحد أنّ الدّوقة السّابقة كانت تُغادر القصر في الخفاء.
ظلّ دانتي واقفًا يحدّق في الأفق حتّى غابت العربة عن الأنظار، بل وبقي بعد ذلك ساكنًا للحظاتٍ طويلةٍ قبل أن يُحوّل نظره أخيرًا.
أدخل يده في جيبه، ومدّ الأخرى بكسلٍ نحو زجاجة الويسكي الموضوعة على الطّاولة.
تدحرجت السّدادة على سطح الخشب بصوتٍ خافت، ثمّ تردّد صدى ارتطام الزّجاج بالكأس في سكون الغرفة.
لكنّ لون السّائل الّذي ملأ الكأس لم يكن بلون العنبر المعتاد، بل كان قاتمًا أقرب إلى السّواد.
تراقص في الزّجاجة مع كلّ حركةٍ خفيفةٍ من يده.
لم يكن دانتي ممّن يشربون عادةً.
فهو يعلم أنّ الكحول تُغَيِّم الذّهن وتُضعف الحكم، وما من شيءٍ يُثير ضيقه أكثر من اضطراب تفكيره.
ومع ذلك، رفع الكأس وشربه دفعةً واحدة.
لسَعته حرارة الشّراب وهو ينحدر في حلقه، وخلّف على لسانه طعمًا مرًّا لاذعًا.
قطّب حاجبيه قليلًا، ثمّ صبّ كأسًا ثانية.
وشربها أيضًا.
تسلّلت الذّكريات إلى ذهنه من غير إذنٍ، تعيده إلى لقائهما قبل ساعات.
حين اقترب منها… لم تقع عيناه على وجهها، بل على قدميها.
لم تكن ترتدي حذاءً فاخرًا مرصّعًا بالجواهر، بل ذاك الحذاء المهترئ الّذي يعرفه جيّدًا.
الحذاء ذاته الّذي ارتدته يوم دخلت القصر أوّل مرّة قبل ثلاث سنوات.
الحذاء ذاته الّذي لم تخلعه قطّ.
لم يخطر له أنّها ما زالت تملكه حتّى الآن.
ثلاث سنواتٍ من حياة الدّوقة الكبرى لم تكفِ لتبديل حذاءٍ واحد؟ بدا الأمر له أقرب إلى السّخرية.
“أعتذر لإزعاجك في وقتٍ باكرٍ كهذا، يا صاحب السّمو.”
“لكنّي شعرت أنّ عليّ أن أودّعك الوداع الأخير.”
وداعٌ أخير.
ابتسم دانتي بسخريةٍ خاليةٍ من الدّفء وهو يتذكّر كلماتها.
تشبّثت به طلبًا للمساعدة، ثمّ أعرضت عنه حين لم تعد بحاجةٍ إليه.
تجمّدت يده الممسكة بالكأس في منتصف الهواء.
برزت في ذهنه صورةُ الحقيبتين الصّغيرتين اللّتين حملتهما معها.
حتّى عند تحميلهما على العربة، لم يكن معها سواهما.
تحطَّم الكأس بقوّةٍ على الطّاولة، وتناثرت شظاياه.
اندفع دانتي خارج المكتب بخطواتٍ غاضبةٍ متسارعة، وجهه جامد الملامح.
ثلاث سنواتٍ كاملةٍ عاشتها هنا كدوقةٍ كبرى.
ثمّ رحلت بحقائب صغيرةٍ لا تسع شيئًا؟
أيّ عبثٍ هذا؟
صعد الدّرج الكبير، متجاوزًا طابقه إلى الطّابق الأعلى—حيث كانت غرفتها.
ومن غير تردّدٍ، فتح الباب بعنف.
جالت نظراته في أنحاء الغرفة بعينيه الذّهبيّتين.
تجمّدت الخادمات في أماكنهنّ عند دخوله المفاجئ.
بعينين مذعورتين، أسرعن يجمعن أدواتهنّ وغادرن بخوف، تاركاتٍ الغرفة في سكونٍ تامّ.
تقدّم دانتي بعدها بخطواتٍ بطيئةٍ محسوبة.
الأثاث، التّرتيب، كلّ شيءٍ بقي كما هو منذ أن منحها الغرفة قبل ثلاث سنوات.
لم يتغيّر شيء.
ذلك الثّبات أثار في داخله قلقًا خفيًّا.
“طَك، طَك.”
طرق بذراعه ثانيةً وهو يقطّب جبينه، ثمّ تقدّم نحو الخزانة وفتحها بعنف.
ضحك بسخريةٍ مريرة.
“رمَتْها كما يُرمى الغبار.”
في داخل الخزانة، كانت تلمع فساتين فاخرةٌ من المخمل والحرير.
فساتين صُمّمت خصّيصًا لها، اختارها بنفسه، وجميعها معلّقة كما هي لم تُرتدَ يومًا.
ها هو السّبب الّذي جعل صدره يضيق.
“لا عجب أنّها ما زالت تنتعل تلك الخِرَق.”
انعوجت شفتاه بحنق.
ريينا برونتي، المرأة الّتي دخلت القصر خاليةَ اليدين، والّتي كانت تحمل كبرياء النّبلاء وهي لا تملك شيئًا، غادرت دون أن تأخذ شيئًا ممّا أُعطي لها.
قالت له ذات يوم: “لن أنسى معروفك.”
لكنّ ما يراه الآن لا ينطق إلّا برغبةٍ في محو كلّ أثرٍ منه.
تدفّق في صدره غضبٌ حارق.
شدّ على فكّيه، وأغمض عينيه للحظةٍ قبل أن يفتحهما من جديد.
كان يعرف هذا الشّعور تمامًا.
الاشمئزاز.
الاشمئزاز الّذي رافقه منذ وُلد حاملاً دماء آل فيناشيرت الملوّثة.
صرّ بأسنانه، وما زال طعم الويسكي المرّ يلسع لسانه.
—
انهمر المطر بغزارةٍ شديدةٍ كأنّ السّماء انشقّت.
غمر وجه ريينا حتّى التصق شعرها بجبينها، وتحرّكت بتعبٍ وألمٍ شديدين، مطلقةً أنينًا ضعيفًا.
حادثٌ.
صرخ جسدها كلّه بالألم.
كانت الأرض باردةً، والمطر يجلد بشرتها بلا رحمة، كأنّها في عالمٍ غريبٍ عنها.
حاولت النّهوض، لكنّ جسدها لم يُطِعها.
كان ثقيلًا… كأنّ صخرةً تثبتها في مكانها.
وفي نهاية الأمر، اكتفت بأن رمشت بعينيها ببطءٍ شديد.
هل سيعثر عليها أحد؟
وإن عثروا… هل ستعيش؟
حدّقت في السّماء الخاوية، حيث كانت الأمطار تهطل بلا توقّفٍ من سحبٍ ممزّقةٍ غاضبة.
الغريب أنّها لم تجد في نفسها رغبةً في التمسّك بالحياة.
‘إذن سأموت’، قالت في نفسها.
‘سأرحل هكذا.’
ابتسامةٌ باهتةٌ ارتسمت على شفتيها قبل أن تذبل.
بدأ وعيها يخبو شيئًا فشيئًا وسط ظلمةٍ غامرةٍ… حين ظهر ظلٌّ غامضٌ أمام عينيها.
جزمتان.
ليستا من الجلد الفاخر، بل جزمتان عسكريّتان ثقيلتان، تلمعان تحت المطر.
لقد وجدها أحدهم.
لم تدرِ إن كان ما شعرت به ارتياحًا أم إنهاكًا، لكنّ النّعاس اجتاحها فجأةً كالموجة.
أغمضت عينيها واستسلمت.
—
“يا صاحب السّمو!”
كان دانتي قد عاد لتوّه إلى مكتبه حين دوّى صوت كبير الخدم المذعور.
كان الرّجل يذرع الممرّ جيئةً وذهابًا أمام الباب، ملابسه مبلّلة، نظّاراته مغطّاة بقطرات المطر، وستره يقطر ماءً.
“ما الأمر؟”
رفع دانتي حاجبًا، متفحّصًا مظهره المضطرب.
ذلك الخادم الّذي عُرف دومًا بثباته وأناقتِه، بدا الآن شاحب الوجه، يلهث، ويداه ترتجفان.
أيّ خبرٍ هذا الّذي أفسد هدوءه؟
شعر دانتي بانقباضٍ ثقيلٍ في معدته.
سأله مجددًا بنبرةٍ حادّةٍ تنضح بالضّيق: “لقد سألتك مرّتين. ما الّذي حدث؟”
تردّد الخادم، فاشتدّت ملامح دانتي صرامةً.
وأخيرًا، نطق الرّجل بصوتٍ مرتجفٍ واهن.
“سيّدتي…”
تلعثم لحظةً، ثمّ أكمل بعينين ممتلئتين رعبًا.
“سيّدتي تعرّضت لحادثٍ يا صاحب السّمو.”
انفجر الرّعد في السّماء، هازًّا الجدران.
تجهّم دانتي وهو يضغط على حاجبيه بيده.
“يا صاحب السّمو، الدّوقة الكبرى… أصيبت بحادث.”
ربّما خشي أن يكون دانتي لم يسمعه، فأعادها ثانية.
“كيف؟”
خرج صوت دانتي منخفضًا، حادًّا كالنّصل.
وفي داخله، كانت الغصّة تمتزج بالرّعب والاشمئزاز.
“انزلقت العربة على طريقٍ مبلّلٍ بالمطر واصطدمت بمصباحٍ غازيّ. انقلبت، ثمّ وقع انفجارٌ صغير، واشتعلت. السّائق وُجد مصابًا بجروحٍ بالغةٍ لكنّه حيّ، أمّا—”
“لا شأن لي بالسّائق.”
قاطع دانتي الجملة ببرودٍ قاتلٍ.
ثمّ أدار وجهه ببطءٍ نحو الخادم.
“سيّدتي لم يُعثَر عليها بعد، يا صاحب السّمو. الطّريق يمتدّ بمحاذاة النّهر، وربّما جرفها الماء عندما انقلبت العربة.”
اشتدّ هدير المطر حتّى غطّى الصّمت.
نظر دانتي عبر النّافذة إلى الطّوفان المنهمر.
ما أبكر هذا المطر في الموسم، ومع ذلك يهطل بعنفٍ يُخفي كلّ ما أمامه.
نقر بلسانه بتبرّم.
“من بين كلّ الحوادث الممكنة، لا بدّ أنّها عربة.”
لم يمضِ يومٌ واحدٌ بعد رحيلها.
نصف يومٍ بالكاد—وهذا ما حدث.
ابتسم بسخريةٍ مُرّة.
“أرسلوا فرق البحث فورًا. الكلاب، الغوّاصين، الجميع.”
“أمرك، يا صاحب السّمو.”
“أعيدوا إليّ جسدها على الأقلّ.”
“كما تأمرون.”
تلألأت عيناه الذّهبيّتان ببرودٍ كالفولاذ.
ازداد وجه كبير الخدم شحوبًا، وانحنى بعمقٍ قبل أن يغادر مسرعًا لتنفيذ أوامره.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات