“أرجو أن تسامحيني على إزعاجكِ في هذا الصباح الباكر، يا صاحب السموّ.”
كانت ريينا تحمل حقيبتها بكلّ قوّة بين يديها، تدخل الغرفة بملامح مرتّبة وأناقة لا تقلّ عن إطلالة دانتي نفسه.
‘إذن فهي جاهزة للرحيل في هذه الساعة، وكلّ شيءٍ معها مُنظّم بدقّة.’
ضاق بصر دانتي قليلًا، يتشكّل عند طرف أفكاره أثرُ إعجابٍ ساخر.
وضعت ريينا حقيبتها بلطفٍ عند قدميها، ثم رفعت رأسها لتقول بصوتٍ خافت:
“شعرتُ أنّه يجدر بي أن أقدّم لك وداعًا أخيرًا، يا صاحب السموّ.”
“…وداع؟”
ارتفع حاجباه دهشةً عند سماع كلماتها.
“حقًا؟ لعلّ السنوات الثلاث لم تذهب عبثًا، يا ريينا.”
أمسك السيجار بين شفتيه وأشعلَه بحركةٍ متأنّية.
تدفّقت أشعّة الشمس عبر النافذة، لتكسو شعره الذهبيّ بلمعانٍ باهر.
سحب نفسًا عميقًا من الدخان، ثم وضع السيجار من جديد بين أصابعه الطويلة.
انتشر الدخان في الغرفة ببطءٍ ثقيل، وما إن لامس أنف ريينا حتى تكلّم دانتي ثانيةً، بنبرةٍ هادئة آمرة:
“تفضّلي إذًا، قوليها يا ريينا.”
لم يُخفِ دوق فيناشيرت كبرياءه المتعجرف.
عيناها الذهبيّتان انعطفتا بابتسامة مسلّية، تتلألآن ببرودٍ وقسوة خلف أهدابٍ منحنية في أناقة.
‘هذه آخر مرّة سألتقيه فيها.’
كرّرت الفكرة في نفسها، تثبّتت أنفاسها، شبكت يديها برفق، ثم نطقت بصوتٍ ساكن:
“…أشكركَ على كلّ ما قدّمتَه لي، يا صاحب السموّ.”
وحرّكت رأسها بانحناءة سريعة.
راقبها دانتي برهةً قبل أن يصرف وجهه جانبًا، والسيجار ما زال بين شفتيه.
“هل هذا كل ما تودين قوله لي؟”
ضحكة قصيرة، مزيجٌ من الاستهزاء والدهشة، انطلقت منه.
لكن ريينا ظلّت واقفة شامخة، لم يزعزعها شيء.
نفض رماد السيجار بعناية قبل أن يُطفئه، ثم اعتدل واقفًا واقترب منها بخطواتٍ ثقيلة.
لم تتقدّم ريينا ولم تتراجع، ولم تخطُ فوق البساط الممتد أمام مكتبه، وكأنّها ترفض أن تدنو من أرضه الخاصّة.
ذلك التصرّف وحده أزعجه.
ارتعشت ملامحه قليلًا حين توقّف أمامها مباشرة، أحذيته اللامعة تقابل جلد حذائها البالي.
لو اقترب خطوة واحدة إضافيّة لالتقت أطراف الأحذية معًا.
نظرت ريينا نحو قدميه، ثم رفعت بصرها—لكن سرعان ما أسقطته حين اصطدمت بعرض صدره الذي سدّ الرؤية.
لم تُحنِ رأسها كليًّا، ولم تتراجع إلى الوراء.
عندها انخفض صوته من فوقها:
“انظري إليّ.”
“…”
“حين يُخاطبك أحد، عليكِ أن تلتقي نظراته.
هذا أدبٌ بسيط، يا ريينا.”
جاء صوته كما لو كان يوبّخ طفلًا صغيرًا.
وعرفت جيّدًا أنّه يقصد إذلالها.
ارتعشت شفتاها وهي تعضّها بقوّة، ثم رفعت عينيها أخيرًا.
تلاقت عيناه الذهبيّتان بعينيها بثقلٍ لا يلين.
وكلّما طالت المواجهة، ازداد الاحتراق في حلقها.
لكنّ صرف البصر كان استسلامًا للهزيمة.
شدّت ظهرها متظاهرةً بالتماسك، وسألت بهدوء: “هل لديك ما تودّ قوله لي، يا صاحب السموّ؟”
“لا شيء مميّز.
فقط رأيت أن أودّعك بدوري—فوداعك كان باهتًا للغاية.”
كادت ملامحها أن تنعكس عبوسًا، لكنّها ضبطت تعابيرها.
“إن كان حديثي قد أزعجك، فأنا أعتذر عن ذلك، يا صاحب السموّ.”
“تعتذرين؟”
ردّد الكلمة وهو يضيّق عينيه.
لكنّها تابعت دون أن تتردّد:
“لثلاث سنواتٍ تقمّصتُ دور دوقتك.
ومثلما كنت دائمًا، كنت مجرد فتاةٍ من عامة الناس، خالية اليد من أي مال.
فإن بدا وداعي دون مستوى مقامك، فلا أستطيع—”
“كفى، يا ريينا.” قاطعها بحدّة.
“لقد عاملتُك كدوقة لثلاث سنوات. أقلّ ما يجب عليك أن تُظهريه هو سلوك دوقة حقيقية قبل أن تغادري.”
انعوج فمه بابتسامةٍ تجمع بين السخرية والازدراء.
كان بإمكانها أن تغادر بلا كلمة، وربّما كان ليدعها تمضي.
لكنّها اختارت أن تعود وتفرض عليه أن يراها مرّة أخرى—ولن يسمح بمثل هذا الوداع الهزيل.
“أعيديها,” قال بصوتٍ منخفض.
“…يا صاحب السموّ.”
“قوليها كما يجب، يا ريينا. لقد أظهرتُ لكِ ما يليق بنُبلاء ثلاث سنوات.
لن أقبل منك شكرَ متسوّلة.
سأمنحك فرصةً أخرى.
فأنا، في النهاية، رجلٌ شريف ونبيل.”
ارتجفت يداها، وانقبضت أصابعها حتّى غدت شاحبة.
لكنها هي من اختارت العودة.
هي من اختارت هذه النهاية.
ولذلك قرّرت أن تطيع.
وضعت يدًا على صدرها، وأمسكت بطرف ثوبها بالأخرى، وانحنت بانسيابٍ رشيق.
“لن أنسى يومًا ما أغدقتَه عليّ من فضل، يا صاحب السموّ، دوق فيناشيرت.”
ابتسم دانتي ابتسامةً واهنة.
هكذا يكون وداع الدوقة.
—
“إلى أين، يا آنسة؟”
انبعث صوتُ السائق الأجش وهو يساعدها على وضع أمتعتها في العربة.
تردّدت قليلًا، ثم أجابت: “إلى محطة القطار، لو سمحت.”
“إذن اصعدي بسرعة! عظامي متعبة اليوم.
كنتُ آمل أن أعود باكرًا، والآن هذا…” تمتم غاضبًا بما يكفي لتسمع.
“يأخذ نصف العمر لنقل حقيبة واحدة.”
أغلقت ريينا شفتيها وصعدت بصمتٍ دون اعتراض.
تحرّكت العربة فجأة دون إنذار.
كانت قِلّة ذوقه صادمة تقريبًا—لكنها شعرت بالارتياح.
من الواضح أنّه لا يعرف أنّها الدوقة المشهورة.
بملابسها البسيطة الآن، لن يظنّ أحد ذلك.
كان للرحيل بصمتٍ جانبٌ مريح.
هذا—هذا التجاهل—هو ما اعتادت عليه دومًا.
ثلاث سنواتٍ من الثراء لم تُغيّر حقيقتها.
التفتت من النافذة، لترى أنّ العربة قد ابتعدت كثيرًا بالفعل.
لم يبقَ أمام عينيها سوى الجدران الحجريّة الضخمة التي تحيط بقصر بَهرن.
بدت تلك الجدران العالية كقفصٍ صنعه لها.
خانقة وباردة من الداخل، لكنها من بعيد—صلبة، شامخة، لا تتزعزع.
‘ربما كان ذلك المكان فعلًا آخر ملجأ لي.’
ضحكة قصيرة، خالية من الدفء، أفلتت من شفتيها.
‘يا لها من فكرة ساذجة.’
هبّت نسائم الخريف المنعشة عبر النافذة المفتوحة.
وبين المناظر العابرة، رأت أشجارًا قد تلونت أوراقها بالذهبيّ والأحمر.
لقد انتهى صيف بَهرن الطويل أخيرًا.
لم تحدّد وجهتها بعد.
المحطّة تكفي.
ومن هناك، يمكنها الذهاب إلى أي مكان.
أي مكان بعيد.
أبعد وأبعد.
حيث لا يصل الماضي إلى مستقبلها.
كان ذلك آخر ما طلبه منها دانتي—وهو آخر أمنيةٍ لها.
لكن فجأة—
“كحّ—سعال!”
مزّقت نوبة سعالٍ صدرها بعنف.
التقطت منديلها بسرعة، وأخفت فمها بقلق.
لقد رحلت في عجلة لدرجة أنّها لم تأخذ دواءها.
أرسلت نظرة مضطربة نحو السائق، لكن ضجيج العربة وحوافر الخيل كان يغطي سعالها.
ومع ذلك حاولت كتمه، بل وأغلقت النافذة خشية أن يُسمع.
“سعال—كحّ، سعال!”
لكن ما إن بدأ، لم يتوقّف.
اشتعل حلقها بحرارة مؤلمة.
ثمّ فاجأها طعمٌ معدنيّ مرّ في فمها.
وبعد دقائق ثقيلة، خمد السعال أخيرًا.
عيناها دامعتان، وحلقتاهما تؤلمانها.
شهقت نفسًا واهنًا، مرهقة تمامًا.
كان مرضًا حديثًا، لكنه يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
نوبة سعال واحدة كانت كافية لاستنزاف قواها.
حين نظرت إلى منديلها، رأت الدم يلطّخه.
فتحت النافذة قليلًا من جديد، وبدأ المطر يتساقط.
كان تنبّؤ السائق صحيحًا.
انسابت قطرات المطر على يدها الممدودة خارج النافذة.
تركت المنديل الملطّخ بالدم يسقط، وأخرجت قارورة صغيرة من حقيبتها.
كان بداخلها بضع حبوب بيضاء—مسكّنات قويّة سرّبها لها العجوز بنجامين بعد أن عرف بعلّتها.
تأمّلت الحبة لحظة، ثم ابتلعتها بلا ماء.
مرارتها جرحت حلقها، لكنها أسندت ظهرها كأنّ الأمر عاديّ.
في الخارج، اجتازت العربة ميدان بَهرن.
أخيرًا، كانت تغادر القصر حقًا.
زفرة هادئة، متعبة، أفلتت منها.
لم يتبقَّ لها أكثر من عامين لتعيش.
ولن تدع أحدًا يعرف سرّها.
سترحل إلى أي مكان.
أي مكان في الدنيا.
كان ذلك هو الهاجس الوحيد الذي يملأ فكرها.
مرّة بعد مرّة، أعادت ريينا ترديده لنفسها.
أبعد.
أسرع.
إلى أبعد مكانٍ أستطيع الوصول إليه.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 10"