هناك من ترك بصمةً عميقة في السلام الذي ترفل به الإمبراطورية اليوم، رجلٌ حمل أسرار الماضي وأضاء دروب المستقبل.
إنه “ألفريد”، الذي كان يومًا جاسوسًا لكورتينا وسكرتيرًا للورد لينيوس.
بعد مقتل “مارياتي”، وبفضل تعاون ألفريد مع الإمبراطورية، استطعنا إجهاض مخططات كورتينا الإرهابية السرية. والأعظم من ذلك، دوره الحاسم في إقناع عملاء كورتينا المتبقين بالانشقاق والالتحاق بصفوفنا.
ثمرة تلك التضحيات كانت حريته من سجن “باتس”. والآن، يعيش في عزلةٍ تحت عيون الجيش الإمبراطوري، يكتفي بأعمالٍ متواضعة في ريفٍ ناءٍ.
بعد أن كشفنا أنا ولينيوس حقيقة حادثة العربة وسرقات اللص الغامض، لم نضيّع لحظة، واتجهنا مباشرةً إلى الكوخ المتواضع الذي يأوي ألفريد.
– “ألفريد!”
– “طال الغياب، ألفريد.”
– “سمو الأميرة، دوقنا النبيل… مرّت أعوامٌ منذ لقائنا الأخير.”
رحّب بنا بابتسامةٍ شاحبة، وجهه أنحف مما كان، محفورٌ بخطوط الزمن. كان يقتلع الأعشاب الضارة من حديقته الصغيرة، يداه ملطختان بطين الأرض.
بعد قليل، قدّم لنا شايًا عشبيًا في أكوابٍ خزفيةٍ بسيطة، تفوح منها رائحةٌ مرّة منعشة. كان كوخه صغيرًا، لكنه نظيفٌ كأن روحًا أنيقةً تسكنه.
– “لا أملك سوى هذا الشاي من أعشابي الخاصة.”
– “كوبٌ واحدٌ يكفي ليُدفئ القلب.”
ابتسمتُ له، ملاحظةً الراحة التي ارتسمت على ملامحه. عدّل نظارته الدقيقة، وتحدث بنبرةٍ هادئة:
– “ما الذي جاء بكما إلى هذا الركن النائي؟”
– “في الحقيقة… هناك أمرٌ نريد مناقشته معك – أهوف!”
ربما كانت رائحة الشاي النفاذة، إذ اجتاحني غثيانٌ مفاجئ، فبصقتُ الرشفة التي تذوقتها دون قصد.
– “شارلوت!”
تشنّج وجه لينيوس، ونهض كالصاعقة، مشهرًا سلاحه نحو ألفريد.
– “هل تجرأتَ على تسميم شاي سمو الأميرة؟!”
– “لا، لا! مستحيل! لمَ قد أفعل ذلك؟!”
تلعثم ألفريد، وجهه يغرق في الذعر، وهرع لتفقّد الشاي بيدين مرتجفتين.
– “لا أرى شيئًا مريبًا…”
تمتم وهو يحدّق في الكوب بحيرة.
شعرتُ بالحرج يغمرني. لم يكن هناك ما يدعو للشك، فقط طعم الشاي لم يرُق لي. لتهدئة الجو المشحون، لوّحتُ بيدي بسرعة.
– “لا، لينيوس! لا شيء خطأ! شعرتُ بغثيانٍ عابر. آسفة، ألفريد، ربما أنا متوترةٌ قليلًا.”
ابتسمتُ له معتذرةً، فخفّ توتر لينيوس، لكنه ظلّ ينظر إليّ بقلقٍ عميق.
– “شارلوت، إن لم تكوني بخير، فلنعد إلى القصر فورًا.”
– “لا، أنا بخير. ما جئنا من أجله أهم بكثير.”
هززتُ رأسي نافيةً، ثم وضعتُ كيسًا ثقيلًا على الطاولة بقوةٍ جعلتها ترتجّ. حدّق ألفريد بالكيس بعينين متسائلتين.
– “ما رأيكَ في هذا؟”
– “هذا…”
فتح الكيس، وما إن رأى محتواه حتى تجمدت ملامحه.
– “أحجارٌ سحرية… ذات طبيعةٍ تدميرية. هذه لا تُتداول في الإمبراطورية، أليس كذلك؟”
– “بالضبط.”
– “لكن… لا تقولي إن الإمبراطورية تستعد لحربٍ جديدة؟”
اكتست ملامحه بالغمّ، فأجبتُ وذراعاي متشابكتان:
– “إن كنتَ تعني العائلة المالكة، فالجواب لا.”
– “…”
– “لكن هناك من داخل الإمبراطورية يُعدّ العدة للحرب.”
انفتح فمه بدهشة، فأضفتُ:
– “هل سمعتَ عن اللص الذي نهب قصور النبلاء مؤخرًا؟”
– “نعم، قرأتُ شيئًا عنه في الصحف.”
– “الأحجار التي سرقها هي هذه. وقد سلّمني إياها بنفسه.”
– “ماذا؟ ماذا تعنين؟”
– “أعني أن بعض النبلاء يسرقون أحجارًا سحريةً مدمرة من المناجم، ويخفونها.”
تلك الأحجار يمكن أن تُستخدم كأسلحةٍ فتاكة، وجميع هؤلاء النبلاء يشتركون في كراهيتهم لمعاهدة السلام. هذا يفسر صمتهم أمام التحقيق – لأن ما سُرق كان مسروقًا أصلًا.
– “لكن كيف عرف لصٌ عابر بأمرٍ خفي حتى عن العائلة المالكة؟ ولمَ سلّمكِ هذه الأحجار؟”
تساءل ألفريد بحيرة. حدّقتُ فيه بثبات.
– “لهذا جئنا إليك. نعتقد أنك تعرف هويته.”
ظهرت الحيرة على وجهه.
– “أنا؟ أعرف من هو؟”
– “شعرٌ فضي، عينان بنفسجيتان، قوامٌ نحيف، بشرةٌ بيضاء، ووسيمٌ للغاية.”
وصفتُ ملامح اللص. لم تكن ملامح عادية، فبدأ ألفريد يفرك ذقنه، كأن ذكرىً بعيدةً أضاءت ذهنه.
تمتم لينيوس بنبرةٍ خافتة:
– “هل تتذكرين وجوه الرجال بهذه الدقة؟”
تجاهلتُ تعليقه، وأخرجتُ الورقة التي تركها اللص.
– “هذه رسالته. هل تعرف الخط؟”
– “آه…”
ومضت عينا ألفريد بتأكيدٍ خفي. لاحظ لينيوس ذلك وسأله:
– “هل هو شخصٌ تعرفه؟”
– “أعتقد… نعم.”
عبس لينيوس.
– “لا تقل إنه…”
– “بلى. زميلٌ قديم، تدرّبنا معًا في مخابرات كورتينا. كان سيد التسلل والتنكر. لم أسمع عنه منذ أعوام…”
ارتسمت على وجه ألفريد لمحة حنين، فقبضتُ يدي بقوة.
كما توقعتُ تمامًا.
كان اللص بارعًا في التعامل مع الأحجار السحرية، وحركاته في الرقص تحمل طابعًا عسكريًا. تسلل إلى قصور النبلاء بسهولة، كما فعل ألفريد في قصر الأميرة. حتى العقد التي ربط بها الكيس كانت على الطريقة الكورتينية.
سأل لينيوس بنبرةٍ صلبة:
– “لكن لمَ يسرق عميلٌ سابق لكورتينا أحجارًا سحرية من نبلاء الإمبراطورية، ويسلمها لسمو الأميرة؟”
– “أظن… لأنه يشتاق للسلام. إن كان هو، فهو ممتنٌ لسمو الأميرة لإحلالها السلام في وطنه.”
– “اسمه ‘لوفين’؟”
أومأ ألفريد، فتألقت عيناي.
– “المهم الآن: من يسرق هذه الأحجار، ولمَ يسعى لإشعال الحرب داخل الإمبراطورية؟”
– “الفاعلون معروفون تقريبًا. دافعهم رفضهم لمعاهدة السلام. سأعتقل النبلاء المتورطين فورًا.”
قالها لينيوس ببرودٍ جعل الدم يتجمد. لكنني أضفتُ:
– “لكن هناك من يقف خلفهم.”
– “…؟”
التفتت إليّ أعينهم. وضعتُ بلطفٍ قطعة كريستالٍ لامعة على الطاولة، من الصندوق الذي سلّمني إياه “لوفين”، ومعها ورقته:
أُعيدها إلى صاحبها الأصلي.
– “لوفين أعطاني الأحجار والكريستال. وقال إن صاحبها الأصلي… أنا.”
– “…!”
اتسعت عينا لينيوس، ثم تحول وجهه إلى قناعٍ من الغضب، وهتف:
– “جيمس فون ديم كيلليان. يجب أن أذهب وأمزّقه فورًا!”
فالكريستال كان جزءًا من تمثال البجعة الكريستالي في حديقة القصر، الذي كانت “مارثا” تقول إن قيمته عشرة مليارات جولد.
✼════ ∘ ❃ ° ✼ ° ❃ ∘ ════✼
ترجمة : ستيفاني
انستا : Salmaessam_3
واتباد : Viminve
✼════ ∘ ❃ ° ✼ ° ❃ ∘ ════✼
التعليقات لهذا الفصل "136 || القصة الجانبية⁹"