الفصل 18
استقبل قائد القوات الخاصّة التابع لعائلة فاسنبيرغ فانيسا بترحيب حارّ حين زارت خيام فرقة التطهير بنفسها.
“يا إلهي، لا بدّ أنّها المرّة الأولى لآنستنا في مكان كهذا، أنا آسفٌ جدًّا. هل تشعرين بالغثيان؟”
رائحة الدم كانت تفوح في الأرجاء. وأنين الجنود الذين تَمزّقت جلودهم وبرزت عظامهم من شدّة الألم يملأ المكان.
كانت ساحة المعركة في حالة هدوء مؤقّت، لكنّ المشهد الأوّل الذي واجهته كان مروّعًا لدرجة جعلت فانيسا تُصدم بشدّة.
‘الأخت ديانا تأتي دائمًا إلى أماكن كهذه لتعتني بالجرحى… إنّها حقًّا رائعة.’
بما أنّ فانيسا أصبحت الآن بالغة، فقد عقدت العزم على أن تكون مفيدة لعائلتها مثل ديانا.
كان منظر الجرحى مرعبًا لدرجة يَصعب النظر إليه، لكنّها تحمّلت بصبر.
<عين المرآة – شفاء الضوء>
ما إن بدأت بصبّ قدرة الشفاء حتّى انبعث ضوءٌ مقدّس، وتماثل الجرحى للشفاء التامّ.
“إنّكِ مذهلة يا آنستي!”
“لا أزال أشعر بالدهشة في كلّ مرّة أرى فيها هذا! شكرًا لكِ!”
ابتسمت فانيسا بخجل وهي ترى الجنود يهلّلون.
شعرت بدغدغة في صدرها من السعادة.
‘القوى الخارقة شيءٌ رائعٌ حقًّا.’
للمرّة الأولى، شعرت بالفخر لكونها من أصحاب القدرات.
“آه! أين ذهب عقلي؟”
حاولت فانيسا الإسراع نحو جرحى آخرين.
“آنستي، حان وقت عودتكِ الآن.”
لكنّ قائد القوات منعها.
“هاه؟ لا يزال هناك المزيد من الجرحى هناك؟”
“ليسوا من جنودنا، لذا لا حاجة لعلاجهم. هذا المكان لا يليق ببقائكِ فيه لفترة طويلة، لذا أرجو أن تعودي لمنزلكِ فورًا.”
أمام نبرته الحازمة، شعرت فانيسا بالارتباك ونظرت إلى الجنود الآخرين.
كان هناك الكثير من الجرحى الذين يحتاجون لعلاج عاجل.
لكنّ الجميع كان يختلس النظر إليها ويراقب ردّ فعلها فقط، ولسببٍ ما، لم يطلب أحدٌ المساعدة.
في تلك اللحظة.
“آنستي.”
همست كارلي، فارسة فانيسا ذات الشعر الأحمر التي كانت تلازم فانيسا طوال الوقت.
كانت هذه الفارسة التي تتصرّف ببرود لكنّها حنونة، هي أكثر شخص تثق به فانيسا وتتبعه.
“افعلي ما يمليه عليكِ قلبكِ. فلا أحد يملك الحقّ في الاعتراض على ما تفعلينه.”
“…هذا صحيح، أليس كذلك؟”
استمدّت فانيسا القوّة من كلمات كارلي وانطلقت راكضة.
كان هناك جنديّ جريحٌ يشغل بالها منذ مدّة. كانت إصابته خطيرة لدرجة لا تحتمل التأخير ولو لثانية واحدة.
قامت فانيسا بعلاجه على الفور.
“أوه…؟”
انتصب الرجل الذي تعافى في لمح البصر بذهول.
“هل أنت بخير الآن؟”
“آه، نعم…”
بدا الرجل مذهولًا. لم تجد فانيسا وقتًا لتلقّي الشكر فغادرت المكان بسرعة.
ثمّ دارت حول الخيام وعالجت جميع الجرحى في فرقة التطهير.
“شـ-شكرًا لكِ!”
“شكرًا جزيلًا! بفضلكِ نجوتُ!”
وبينما كان الجنود الذين تلقّوا المساعدة يهلّلون بأعلى أصواتهم.
“يا آنسة فاسنبيرغ!”
اقترب شخصٌ ما ونادى فانيسا.
كان هو الرجل الذي عالجتْه في البداية.
“أنا راينر كروزر من فرسان القصر الإمبراطوريّ! بفضلكِ نجوتُ من الموت! أنا ممتنٌّ حقًّا!”
“أوه، لم يكن شيئًا يُذكر.”
“كلا! لقد كانت إصابةً قاتلة لا محالة! أنتِ منقذة حياتي!”
“يا إلهي.”
حاولت فانيسا بصعوبة خفض زوايا فمها التي كادت ترتفع من الابتسامة.
كان شعورًا رائعًا. لم تشعر بهذا القدر من الفخر منذ ولادتها.
“راينر، لحظة من فضلك.”
في تلك اللحظة، اقترب رجلٌ يبدو أنّه زميله، وأزاح راينر الذي كان ينحني مرارًا للتعبير عن شكره.
“لقد تلقّينا مساعدةً عظيمة حقًّا. سنردّ لكِ هذا الجميل بكلّ تأكيد.”
“آه.”
في تلك اللحظة.
-دومب دومب
تسمّرت فانيسا في مكانها و نبضَ قلبُها.
شعرت وكأنّ بتلات زهور الربيع الورديّة تتطاير حولها في منتصف الصيف.
‘إنه… وسيمٌ جدًّا…’
شعرٌ أسود بلمحةٍ زرقاء خافتة.
وعينان زرقاوان عميقتان يشبهان البحر.
جمال الرجل الذي يشبه أمراء القصص الخيالية لم يختفِ حتّى خلف الدماء وغبار التراب.
“آه، لـ-لا، ليس الأمر كذلك. حقًّا… هـ-هذا لم يكن شيئًا كبيرًا…”
بدأت فانيسا تتلعثم في كلامها بسبب الخجل.
كان عليها الرحيل الآن…
لكنّ قدميها لم تطاوعاها، ربّما بسبب وسامة هذا الرجل.
“أخبرني… ما اسمك؟”
في النهاية، سألت فانيسا بوجهٍ محمرٍّ مثل حبّة فراولة ناضجة.
“قائد فرسان القصر الإمبراطوريّ لفالنسييه، نايكي فالنسييه.”
“……؟!”
اتّسعت عينا فانيسا وكأنّهما ستسقطان عند سماع تعريفه.
إذا كان قائد فرسان إمبراطوريًّا يحمل لقب العائلة الحاكمة، فهذا يعني…
الأمير الثالث.
لقد كان هذا الرجل سموّ الأمير شخصيًّا.
“أشكركِ من كلّ قلبي. لقد أنقذتِ حياة رفيقي في السلاح. لن أنسى هذا وسأردّ الجميل.”
انحنى نايكي بظهره بعمق.
فزعت فانيسا، ودون وعي، أمسكت بكتفي نايكي الذي لم يظهر منه سوى قمّة رأسه ورفعته للأعلى.
“لـ-لا، ليس هناك داعٍ لهذا!”
“……؟”
رمش نايكي بعينيه وهو يعتدل في وقفته بذهول.
‘ماذا؟ حتّى لو كانت عائلتنا عظيمة، هل ينحني الأمير لي؟ هل تعلّمتُ شيئًا خاطئًا؟ ألم يكن أفراد العائلة الإمبراطورية أعلى شأنًا؟’
انهار مفهوم نظام الطبقات الذي تعلّمته طوال حياتها وشعرت بالارتباك.
لكنّ فانيسا انحنت لنايكي بالمقابل لتردّ التحيّة.
وبعد ذلك، نظر كلاهما إلى الآخر.
‘آه.’
لمحت عينا فانيسا جرحًا صغيرًا على خدّ نايكي.
لم يكن جرحًا يستدعي العلاج باستخدام القدرة، ولكن…
“احم احم.”
نظرت فانيسا إلى نايكي وهي تشير لخدّها لتنبّهه.
<عين المرآة – شفاء الضوء>
تجمّد نايكي من أثر الطاقة الدافئة.
وبعد قليل، لمس خدّه الذي التأم جرحه ببطء.
“…شكرًا لكِ.”
“أنا سعيدة لأنّني استطعتُ المساعدة.”
ظلّ الاثنان ينظران لبعضهما البعض بصمت لفترة طويلة.
“أوه…”
أنزلت فانيسا عينيها بخجل وهي تحرّك طرف قدمها بتوتّر وقد احمرّ خدّاها.
“سموّ الأمير، اسمي هو…”
في السادسة عشرة من عمرها.
قالت الفتاة التي وقعت في الحبِّ.
“…اسمي فانيسا.”
* * *
كنتُ في السادسة عشرة، وكان هو في العشرين.
هكذا التقينا حينها.
بالطبع، لم نصبح حبيبين على الفور، ولكن…
“هايي أنتِ!”
“لقد أفزعتني.”
لمس رايان، الذي وقف أمامي مباشرة، خدّي بخفّة.
“بماذا تفكّرين حتّى تجلسين هكذا بفكٍّ مرتخٍ وابتسامة بلهاء؟”
“لا شيء؟ حقًّا لا شيء.”
ناولتُ المنشفة التي كانت بيدي لرايان الذي كان يتصبّب عرقًا.
قال وهو يمسح عرقه: “حسنًا، سنصل قريبًا إلى المنطقة وننزل من السفينة.”
“ماذا تقول؟ لا يزال هناك وقتٌ طويل. هل تنوي النزول في وسط البحر يا أخي؟”
“صه!”
“……”
“أخبرني بخططكَ المستقبليّة أولًا وماذا سنفعل حين ننزل يا ريڤان.”
“وهل تركتَ الخطط عندي أمانةً؟”
“صه!”
“……”
أخرج ريڤان، الذي كان ينظر لرايان بحدّة، خريطةً وأشار إلى مكان ما.
“بمجرّد نزولنا في كونيج، دعونا لا نذهب لأيّ مكان، بل نستأجر نُزُلًا هناك ونقيم فيه لفترة طويلة. التجوّل بصحبة طفلةٍ أمرٌ شاق…”
“كلا.”
هزّ رايان رأسه مبتسمًا.
“لا داعي لهذه الخطة. لقد تدبّر أخوكَ الأكبر أمر منزلٍ لنا.”
“ماذا؟!”
“هاهاها! وأخيرًا رأيتُ نظرة الاحترام في عينيكَ تجاه ربّ الأسرة.”
“عن ماذا تتحدّث؟ هل كنتَ تحلم؟ من أين لك بمنزل يا أخي؟”
أخرج رايان، الذي ارتفعت كتفاه فخرًا، وثيقةً من حقيبته.
“يبدو أنّ والدي كان يملك ضميرًا بعد كلّ شيء.”
كلا، هذا ليس صحيحًا.
“أعتقد أنها هدية أخيرة… لابنه الذي تعفّن في السجن لمدّة 12 عامًا ظلمًا؟ شيء من هذا القبيل؟”
الأمر ليس كذلك أبدًا.
“إنّها وثيقة ملكية أرضٍ باسمي.”
صكّ نقل ملكية الأرض الذي تسلّمه رايان من مساعد والده فور خروجه من السجن.
ممم…
القصة طويلة، لكنّ الحقيقة هي أنّ إرسالي مع رايان بهدوء، والحصول على نفقة تربية رغمة قلّتها، ونقل ملكية تلك الأرض، كلّ ذلك…
كان نتيجة كفاحي المرير وإنجازاتي التي سُفكت فيها الدماء…
‘يجب أن أخبره بالحقيقة يومًا ما.’
سأخبره أنّ والدنا ليس بذلك الإنسان الرحيم الذي يعطي نفقةً ومسكنًا لابنةٍ غير شرعيّة عديمة القدرات ويرسلها بسلام.
“ما هذا!”
في تلك اللحظة، اتّسعت عينا ريڤان وهو يتفحّص وثيقة الأرض.
“واو، أخي! هذا المكان هو…!”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 18"