الفصل 15
“سموّكَ! هل أنتَ بخير؟”
“أنا بخير. هل كان هذا هو الأخير؟”
سأل نايكي وهو يسحب سيفه وينفض عنه دماء الوحش.
“نعم! لقد نجحت عمليّة التطهير هذه المرّة أيضًا!”
شعر المساعد بالفخر تجاه قائده الشاب نايكي، الذي لم تظهر عليه أيّ علامات تعب رغم مواجهته لنصف الأعداء بمفرده.
“فضلُ سموّكَ في هذا الإنجاز كبيرٌ جدًّا!”
سخر نايكي في قرارة نفسه؛ فقد كان يجد ثناء الجميع على مهاراته القتاليّة أمرًا مضحكًا.
فالحقيقة هي أنّه بفضل قدرته على إرجاع الزمن، كان يمحو مئات وآلاف اللحظات التي وقف فيها على خطّ الموت، ليعيد المحاولة من جديد وكأنّ شيئًا لم يكن.
“الجرحى يتلقّون العلاج في الخيام الآن.”
خرج نايكي مع مساعده من الغابة، لكنّ خطواته كانت متردّدةً لسببٍ ما.
فبعد كلّ عمليّة تطهير، لا بدّ من وقوع ضحايا.
شخصٌ يُصاب، وآخَرُ يُعاق، وآخَرُ يلقى حتفه.
لذا، كان نايكي يخشى اللحظة التي يتلقّى فيها تقرير حالة المعركة بعد توقّف القتال.
“لقد أُبيدت الوحوش في أعماق الغابة! نجحت المهمّة!”
“واااااا!”
بمجرّد رؤية الخيام، رفع المساعد سيفه عاليًا وصرخ بقوّة، فهتف الجنود بدورهم.
ألقى نايكي نظرةً سريعة على الجرحى المستلقين في كلّ مكان.
هذا يضمّد جراحه، وذاك يُثبّت أطرافه المكسورة…
خفق قلبه بتوتّر.
‘أرجو ألا يكون هناك محاربون خبت جذور حياتهم بلا حولٍ منهم.’
“سموّ الأمير!”
حينها، سُمِع نداءٌ مألوف.
كان راينر، رفيقُ سلاح نايكي القديم وعضو فرسان الإمبراطوريّة.
كان وجهه شاحبًا، ممّا جعل قلب نايكي ينقبض بشدّة.
“يبدو أنّ عليك الذهاب لوداع أنطون…”
“ماذا؟”
أدرك نايكي معنى تلك الكلمات، فانطلق يركض بجنون نحو المكان الذي أشار إليه راينر.
“أنطون!”
“سموّ..الأمير…”
فقد نايكي القدرة على الكلام. كانت دماء أنطون تنزف بلا توقّف من بطنه الممزّقة بشكلٍ فظيع.
“لا أمل في نجاته. الجرحُ غائرٌ جدًّا ومن الصعب وقف النزيف، كما أنّه فقد الكثير من الدماء بالفعل.”
تحدّث المعالج الذي كان يعتني بأنطون بنبرةٍ يملؤها الأسى.
“متى!”
صرخ نايكي.
“متى أُصيب أنطون؟”
قدرةُ العودة، <قصيدة العودة>.
رغم قدرة نايكي على إرجاع الزمن، إلا أنّ هذه القدرة لم تكن كاملة.
لأنّه لم يكن من سلالة فاسنبيرغ التي يحقّ لها امتلاك القدرات بالفطرة، بل كان صاحب قدرة “مُصنّعة.”
“إذا كنتَ تقصد الإصابة القاتلة في بطنه، فقد أُصيب بها فور بدء المعركة تقريبًا.”
فور بدء المعركة.
إذًا، فقد مرّت ثلاث ساعات على الأقل على تلك الإصابة القاتلة.
“لا…”
ارتجفت قبضة نايكي المحكمة.
الحدُّ الأقصى للزمن الذي يمكنه إرجاعه هو 30 دقيقة فقط.
بإمكانه إرجاع زمنٍ أطول من ذلك، لكنّ الأمر بلا فائدة؛ لأنّ العودة التي تتجاوز الـ 30 دقيقة تسلبُ نايكي ذاكرته.
قبل ثلاث ساعات، حين بدأت المعركة.
لو عاد إلى ذلك الوقت، لن يتذكّر نايكي أيّ شيء، حتى حقيقة أنّه استخدم قدرة العودة.
“أنطون…”
لو أعاد الزمن للحدّ الأقصى مع الاحتفاظ بذاكرته، فعليه أن ينتظر مرور المدّة نفسها قبل أن يتمكّن من استخدام القدرة مرّةً أخرى، فالعودة المتتالية مستحيلة.
إذًا..
ماذا لو عاد ثلاث ساعات ببساطة؟
سيعيش أنطون، لكنّ نايكي سينسى أنّه سيُصاب بإصابةٍ قاتلة قريبًا، وبالتالي لن يستطيع اتخاذ أيّ إجراء، ممّا يجعل إرجاع الزمن بلا جدوى.
“أنا.. بخير.. كُح.”
حاول أنطون أن يبتسم قسرًا.
نايكي، وأنطون، وراينر.
لقد كانوا معًا منذ الطفولة، حين كانوا يتدرّبون بالسيوف الخشبيّة في ساحة القصر، وحتى هذه اللحظة كانوا دائمًا سويةً.
أصدقاء.
رفاق سلاح.
أخوة.
“بقاؤه حيًّا حتى الآن هو معجزة. لقد كان ينتظر لأجل وداع سموّك للمرّة الأخيرة. أرجوك، ودّعه بابتسامة.”
قال راينر الذي اقترب من نايكي الواقف بذهول.
“أنطون، أنا…”
لماذا أنا عاجزٌ هكذا؟
وبينما كانت يد نايكي اليائسة تلمس وجنة أنطون..
“أوه، حقًّا!”
سُمِع صوتٌ حادٌّ من الخلف. التفتَ ليجد شخصًا يترجّل من عربةٍ مزيّنة بالذهب.
“كم مرّةً قلتُ لكم إنني أكره المجيء إلى مكانٍ قذرٍ كهذا بنفسي؟”
شعرٌ أسود مصفّف بأناقة وكأنّها في طريقها إلى حفلةٍ راقصة.
كانت امرأةً يلفُّ جسدها الثيابُ والمجوهراتُ الثمينة.
“انتبهي لخطواتكِ يا آنستي!”
“يا إلهي، آنستي، الجوّ حار، أليس كذلك؟”
كان هناك خادمتان ترافقانها، إحداهما تظلّلها بمظلّة والأخرى تروّح عنها بمروحة يدويّة.
“هل وصلتِ! نعتذر منكِ يا آنسة. هناك الكثير من الجنود المصابين بجروح خطيرة، وخشيتُ أن يلفظ بعضهم أنفاسه لو نقلناهم إلى الإقليم للعلاج.”
تقدّم قائد الجنود الذي كان ينتظرها ليتملّقها بودّ.
‘هل هذا معقول؟’
بدأ قلب نايكي، الذي كان يراقب المشهد، يخفق بالأمل.
لقد عرف هويّة تلك المرأة ذات الثياب الفاخرة التي لا تناسب ساحة المعركة الملطّخة بالدماء أبدًا.
الابنة الثالثة لعائلة فاسنبيرغ.
المرأة التي تملك قدرة الشفاء.
السيّدة ديانا فاسنبيرغ.
“هل جمعتَهم جميعًا؟”
“أوه، بالطبع. لقد جمعتُهم لكي لا تضطرّي للتعب. هذه الخيام الثلاث تخصّ رجالنا.”
أشار قائد الجنود بقسوة إلى ثلاث خيام فقط من أصل أكثر من عشرين خيمة.
رغم أنّ وحدة التطهير هذه كانت تضمّ جنودًا من أقاليم عدّة وفرسان الإمبراطوريّة، وليس فقط قوّات فاسنبيرغ.
“تؤ تؤ، يا لهم من حمقى، يُصابون بسهولة.”
وقفت ديانا أمام جنود عائلتها الذين يئنّون من جراحهم.
وبعد قليل.
<شفاء الضوء>
غشاهم نورٌ ساطع.
الذين كانوا قبل قليل ينازعون الموت، نهضوا يتفحّصون أجسادهم التي التأمت جراحها وكأنّ شيئًا لم يكن.
“حقًّا، آنستنا هي الأفضل!”
“شكرًا لكِ!”
العظام المكسورة جُبِرت، واللحم المتمزّق عاد، ولم يبقَ من أثر الإصابات سوى الدروع المحطّمة والمتصدّعة.
راقب جنود العائلات الأخرى المشهد بحسد.
بدت حالتهم بائسة، وهم لا يملكون سوى المعالجين اليدويّين والضمادات ومسكّنات الألم البسيطة.
“أيتها الآنسة!”
ركض نايكي بسرعة ليمسك بديانا التي كانت تنوي الرحيل فورًا وكأنّها انتهت من عملها.
“من أنت؟”
مالت ديانا برأسها وهي تنظر إلى نايكي.
“أنا الأمير الثالث لإمبراطوريّة فالنسييه، نايكي فالنسييه.”
“يا للهول، يا للروعة.”
بدت ديانا متفاجئة.
“أظنّ أنني رأيتكَ عندما كنتَ طفلًا صغيرًا. هل كبر الأمير الثالث وأصبح رجلًا يُعتمد عليه هكذا؟”
“هناك جنديٌّ مصاب لا أمل في نجاته بالعلاج العاديّ. هل يمكنكِ مساعدتنا لمرّة واحدة؟”
“همم؟ ماذا؟ هل تطلب مني خدمةً الآن؟”
أضافت ديانا وهي تضحك بتهكّم: “وأنتَ ترفعُ رأسك هكذا بشموخ؟”
“……”
تردّد نايكي للحظة، ثمّ انحنى أمامها على الفور.
“أرجوكِ.”
فردٌ من العائلة الإمبراطوريّة ينحني أمام امرأةٍ من النبلاء.
كان مشهدًا مهينًا للغاية.
“يا فتيات، ألا ترين أنّ ظهره مرتفعٌ قليلًا؟”
“لا بدّ أنّ كبرياءه كفردٍ من العائلة الحاكمة يمنعه من الانخفاض أكثر من ذلك.”
سخرت ديانا من نايكي بمشاركة خادمتيها.
“هذا صحيح. يبدو أنّ ركبتيه ثقيلتان جدًّا.”
وسط السخرية، أدرك نايكي ما تريده ديانا.
لماذا يتردّد؟
صديقه و أخوه يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن.
-طرق.
جثا نايكي على ركبتيه أمام ديانا، وقال: “أتوسّل إليكِ. أرجوكِ ساعديني.”
“أهاهاها!”
ضحكت ديانا بصوتٍ عالٍ، وضحكت معها خادمتيها وجنودها أيضًا.
كان تمرّدًا وقحًا على السلطة، لكن لم يجرؤ أحدٌ على الاعتراض.
أما فرسان الإمبراطوريّة، فكانوا يرتجفون غضبًا وهم يجزّون على أسنانهم لرؤية نايكي في هذا الموقف المذلّ.
“يا إلهي! ها قد جعلتُ الأمير النبيل يجثو على ركبتيه.”
وضعت ديانا كعب حذائها المدبّب على فخذ نايكي الجاثي وضغطت عليه.
“هذا شعورٌ لا بأس به.”
“الوقت يداهمنا. أرجوكِ…”
“سموّ الأمير. هل تعرف شقيقي الثاني، إليوت؟”
الابن الثاني، إليوت فاسنبيرغ.
هو رجلٌ متورّط في كلّ الأعمال غير القانونيّة التي تجري تحت الطاولة في الإمبراطوريّة.
“منذ ثلاثة أشهر وشقيقي يتذمّر ويزعجني. يقول إنّ إجراءات تفتيش سفن التجارة عند الدخول أصبحت صارمةً جدًّا، أليس كذلك؟”
أغمض نايكي عينيه بشدّة.
إليوت فاسنبيرغ، الذي يدير أكبر قافلة تجاريّة في الإمبراطوريّة، بدأ في استيراد الأدوية منذ ثلاثة أشهر.
كانت هذه الأدوية مواد هلوسة شديدة الإدمان..
بالتحديد هي نوعٌ من المخدرات.
“بخصوص سفن شقيقي، هل يمكنكَ السماح لها بالمرور ببساطة؟”
كانت هذه المرأة تطلب منه الآن السماح بتداول مواد غير قانونيّة في الإمبراطوريّة بكلّ علانية.
تطلبُ هذا من الأمير، أحد أفراد العائلة المالكة.
“هذا…”
قال نايكي وهو يجزُّ على أسنانه: “…ليس من صلاحياتي.”
“حقًّا؟ يا للخسارة.”
أنزلت ديانا حذاءها عن فخذ نايكي وأضافت: “مجرد جثوكَ على ركبتيكَ لا يكفي لعقد صفقةٍ كهذه.”
“يا آنسة، أتوسّل إليكِ…”
“سموّ الأمير.”
حينها، سُمِع صوت مساعده.
“توقّف عن ذلك.”
التفت نايكي ليجد أنطون مستلقيًا.كانت عيناه قد فقدتا بريقهما بالفعل.
“يا إلهي، يبدو أنّه مات؟ لم يستطع الانتظار قليلًا.”
نقرَت ديانا بلسانها بأسفٍ زائف.
“سيذهبُ ذلك المسكين وهو يلوم سموّك. سيفكّر أنّ حياته لم تكن تساوي حتى التغاضي عن تفتيش جمركيّ واحد.”
“…….”
“يا للأسف. فأنا لا أملك موهبة إحياء الموتى.”
غادرت المرأة بدمٍ بارد بعد أن تركت سخريتها الأخيرة.
ظلّ نايكي صامتًا بذهول.
وبعد فترة طويلة، نهض ومشى بضعف. جثا أمام جثّة أنطون.
لم يستطع فعل أيّ شيء.
“…… أنا آسف.”
لم يكن يملك إلا أن يُغمض عينيّ رفيقه اللتين لم تنغلقا، ويترك وداعًا بائسًا لا يعني شيئًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"