2
الفصل 2
لأروي قصّة لقائي مع أوركا، عليّ أوّلًا أن أفتح باب بعض التفاصيل الزائدة.
أي قبل عشر سنوات بالضبط من الآن.
لقد وجدتُ نفسي متجسّدة داخل مسودّة رواية صديقي.
“أنتِ تحبّين روايات الرومانسية الخيالية، أليس كذلك؟أرسلتها لغيرك من قبل، لكن لم يفدني أحد.اقرئيها وأعطيني نقدًا لاذعًا، وسأدفع ثمن فطور الفندق.”
صديقي المهووس بالتاريخ، كان قد أرسل إليّ ملفّ رواية قال إنه سيشارك به في مسابقة.
“لا يمكنني تفويت فطور الفندق.”
كانت الرواية تدور في عصر خيالي داخل إمبراطورية تُدعى “أتلّا”.
وبالرغم من انتمائها لجنس الرومانسية الخيالية، لم يكن فيها ذرّة رومانسية.
كانت مجرّد رواية عن سيرة ثلاث عائلات نبيلة، وقصص عن القراصنة والأرواح.
‘يا صديقي… هذه ليست رومانسية خيالية، بل قصص عن التاريخ الخيالي و الاساطير!
أين البطل والبطلة؟ هل هما موجودان أصلًا؟’
كانت الرواية مليئة بالمعلومات الزائدة لدرجة جعلتني أشعر بأنّي أقرأ وثيقة تاريخية.
لكن ما دام صديقي قد تعب في كتابتها، كان عليّ أن أُظهر بعض الجدية.
وهكذا، قضيت أسبوعًا كاملًا أسهر الليل بعد العمل، وأعددت تقريرًا نقديًا مفصّلًا، ثم أرسلته إليه بالبريد قبل أن أغفو.
وحين استيقظت صباحًا…
‘ياااه! ما هذا؟ أحلم بحلمٍ داخل كهف؟’
كانت الهوابط معلّقة في السقف.
“ما هذا الحلم؟ لا يبدو حلمًا جيّدًا… أو ربما مجرّد حلم سخيف؟”
فكّرت وأنا أستدير، لكنّ السرير كان قاسيًا ورطبًا على غير العادة.
[أوووه.]
[السيدة إيْشا، لقد استيقظتي!]
كانت أضواء صغيرة تتوهّج أمام وجهي وهي تبكي وتدور من حولي.
“آآاك! ح… حشرات! هذه الحشرات ستأكلني!”
قفزتُ مذعورة وصرخت بكل قوتي.
وبدا أنّ الحشرات قد انطفأ نورها فورًا من شدّة الصدمة.
[نحن لسنا حشرات.]
[نحن أرواح.]
“أظنّني متعبة جدًّا… يبدو أنّني أحلم.”
لكن لحظة… لماذا صوتي يبدو هكذا؟
[ليس حلمًا. هذا كهف في غابة ما داخل إمبراطورية أتلّا.]
كمهف؟ حقًا؟ وهل يعقل هذا؟
وأتلّا هي اسم الإمبراطورية التي ظهرت في رواية صديقي…
[الآنسة إيْشا، أنت في الخامسة من عمرك.]
“إيشا؟ أنا عمري خَمَس سنين؟!”
مددت يدي أتحسّس جسدي.
ذراعان صغيرتان، جلد ناعم طري…
‘هل… هل أنا تجسدت حقًا؟’
ولو حدث هذا، ألم يكن يجب أن أكون ابنة دوق؟
لكن ما حولي لم يكن سوى صخورٍ رطبة وهواءٍ داكن.
[يا للحسرة… لقد فقدت ذاكرتك وقوتك. أنا سولّا، روح الضوء.]
رفرفت ضوءٌ أبيض واستقرّت سولّا على كتفي.
ثم انحنى ضوءٌ أسود مهيب أمامي.
[وأنا كريسنت، روح الظلام. كلانا خادمان لك.]
“اسمي إيشا إذن؟ لكن… من أنا؟”
[لا نستطيع القول. هذا… أمر ممنوع.]
تهرّب كريسنت من نظراتي.
[موارد الأرواح العليا ليست ضمن ما يمكننا التصريح به.]
كانت سولّا أكثر اندفاعًا، فسارع كريسنت إلى التحديق بها محذرًا.
“يعني… أنا روح أعلى منكم، صحيح؟”
لم يجب أي منهما، لكن وجهيهما المتوترين كانا كافيًا.
“أخبِراني كل شيء عنكما، وكيف وصلتُ إلى هذا الحال. هذا على الأقل مسموح، أليس كذلك؟”
[نعم، سيدتي.]
[حقًا… ذكاؤك المخيف لم يتغيّر…]
جمدت سولّا حين رمقتها بنظرة فقط، ثم اختبأت وراء كريسنت.
[يا إلهي… مرعبة! حتى لو فقدتي الذاكرة فشخصيتك كما هي!]
شخصيتي؟ ماذا كنتُ بالضبط؟!
وبحسب ما قالاه فقد خرجتُ أنا، الروح العظيمةإلى عالم البشر بإرادتي، استجابة لنداء صديقة من الأرواح تستعمل النار.
فإذا بهذه الصديقة تخونني وتلقي بي في يد سحرة مملكة يُورانت.
صديقتي من الأرواح خانتني… وباعتني للبشر.
‘صديقة خائنة؟ فقط انتظريني.’
في الرواية الأصلية، كانت يورانت تقع شمال أتلّا، وتُعرف بأنها أرض السحرة.
أما طبيعتها فكانت قاسية فقيرة مليئة بالجبال والصخور ومساكن الغوبلن.
لذلك لم تكن الأرواح تحبّ أهلها، ولم يظهر بينهم أي مستحضر أرواح…
‘ومع ضعفها، كانت تدفع الجزية لأتلّا وتطوّر طقوس السحر بدلًا من الأرواح.’
وبما أنهم يعجزون عن كسب ولاء الأرواح، اتجهوا إلى السحر المحظور…
فقط أدخلوني قسرًا في جسد إنسانة راشدة.
لكن كريسنت، ليهرب بي منهم، جعلني أصغر وأضعف، أي طفلة.
وسولّا فتحت بُعدًا خاصًا وفرّت بي إلى هنا.
وبسبب ذلك فقدت قوتي وذكرياتي، بينما هبطت رتبة سولّا وكريسنت إلى أرواح المتوسطة.
والأسوأ؟ لم يعرفا لماذا أراد السحرة خطفي أصلًا.
‘الجواب واضح… لا بدّ أنّ روح النار، تلك التي خانتني، عقدت صفقة معهم.’
هذا ما سأعرفه لاحقًا…
لكن الأهم الآن هو ما يخصّني أنا.
“بما أنكما من الأرواح العليا… هذا يعني أنني كنتُ على الأقل روحًا ملكية، صحيح؟”
جلست على صخرة صغيرة، أُشبك ساقيّ الصغيرتين بتصنّع لا يليق إلا بامرأة نسيَت أنها في الخامسة.
“وبما أنّي فقدت اسمي، فحتى اسم إيشا هو مستعار.”
ارتبك الاثنان وأخذا يتلفتان، يخشيان أن يتحولا إلى أرواح دنيا لو تكلما بما لا ينبغي.
‘روح ملكية… يا للروعة!’
ربما كنت قد متّ أصلًا قبل أن أتجسّد هنا.
إرهاق؟ موت مفاجئ؟ من يدري…
ورغم غرابة الموقف، لم أشعر بالخوف بقدر ما شعرت بالأسف.
‘ولماذا بعد أن فقدتُ قوتي؟! هذا ظلم.’
تبادلت سولّا وكريسنت النظرات قبل أن تتقدّم سولّا قائلة:
[جسد الإنسان ضعيف يا آنسة إيشا. لا يستطيع احتمال روحك إلى ما لا نهاية.
إن لم تستعيدي ذكرياتك وقوتكم قبل سنّ العشرين… ستموتين.]
ضحكت بسخرية، ضحكة خافتة تشبه انكسار جليد.
“حسنا… هذا يبدو كتهديد لطيف. أتقصدان أنني سأموت فعلًا؟”
لم يجيبا.
“يعني… سأموت فعلًا؟”
أومآ بقوّة.
‘إن لم ألتقي بالأرواح الملكية الأخرى وأستعد قواي… سينهار هذا الجسد.’
استيقظت لأجد “علامة الموت” فوق رأسي كظل لا يرحم.
‘يتيمة… فقيرة… وها أنا الآن أتنفّس حياةً مؤقّتة، كظلٍّ يتلعثم بين الوجود والفناء.يا صديقي… حتى أفخمُ أفطارٍ في أرقى الفنادق لا يقدر على دفع ثمن هذه الكارثة التي تهوي على صدري كعاصفةٍ سوداء.’
وبينما أنا أفرك ذراعي المرتجفة، أضاف كريسنت:
[انت بحاجة للبحث عن أربعة من ملوك الأرواح.]
“لكنني إنسانة الآن تقريبًا! كيف سأصل إلى عالم الأرواح؟”
[لقد عقدوا عقودًا مع بشر. ابحثي عن البشر الذين ورثوا تلك العقود، وستلتقين بهم. لا سبيل غيره.]
“ومن المتعاقدون معهم؟”
[لا يمكننا قول ذلك.]
هناك معلومة إضافية من الرواية:
إمبراطورية أتلّا كانت تحت حماية خمس أرواح ملكية الأرض، الماء، النار، الريح، والروح الخامسة الغامضة التي لا تعقد عقودًا مع البشر.
وكان أول إمبراطور قد تعاقد مع ملك الأرض، ثم جمع المتعاقدين مع الماء والنار والريح ليحموا الإمبراطورية.
‘لكن لم يُذكر قطّ من تعاقد مع الملوك الآخرين… أما الخامس فلم يتعاقد مع بشر.’
هذا يعني أنّ الأربعة الذين أحتاجهم هم الأرض والنار والريح والماء باستثنائي أنا.
‘إذًا… الروح الخامسة الغامضة… هي أنا؟’
“همم… هكذا إذن.”
ارتجفت سولا وهمست سريعًا لتوضيح ما لم يُقَل
[نحن كنّا دائمًا في عالم الأرواح، لا نعرف من تعاقد معهم.لكن هناك طريقة! أليس كذلك يا كريسنت؟]
[بلى. على حدّ علمي، لا يتعاقد ملك الأرواح إلا مع بشر ذوي موهبة عالية.
وهؤلاء غالبًا من النبلاء.]
في الرواية، كان النبلاء ذوو التوافق الروحي العالي يذهبون إلى “الاكاديمية الملكية لمستحضري الأرواح”.
لذا، إن أردت مقابلة الأرواح الملكية الأربعة، فعليّ بناء علاقات مع نبلاء يمتلكون توافقًا عاليًا.
“إذن يجب أن أذهب إلى الاكاديمية الملكية.”
صُدم الاثنان، لكن شفتيّ ارتفعتا بابتسامة.
‘ولحسن الحظ، حتى الفقراء مثلي يمكنهم دخولها إذا امتلكوا القدرة.’
لذا عليّ أن أجمع المال بسرعة… لأستعد للدراسة.
ومن أكون أنا؟
أنا التي عاشت في عالم آخر ابنة مجتمع يعمل بلا توقف.
عاملة شرقية لا تهزمها الساعات الطويلة.
سأخرج من هذا الجبل البائس…
وسأهرب منه بمالٍ أجمعه بدموعي!
“أي عمل؟ أي نقود؟ أنا جائعة!”
صرخت وأنا أنظر إلى السماء الصيفية الزرقاء، حيث تطفو السحب ككرات القطن.
****
بلغت التاسعة من عمري ولم أحصل إلا على شقاء مجاني.
فالناس يعطون الأيتام أعمالًا… لا أجورًا.
“على الأقل أعطوني طعامًا بدلًا من هذا!”
كانت بيدي منديلاً قطنيًا بسيطًا بدل المال الذي وُعدتُ به.
هؤلاء البالغون… بدل استغلال غيري، وجدوا اليتيمة المسكينة ليستغلوها!
‘آه… الصراخ جعلني أكثر جوعًا.’
وحين وصلت وسط الغابة، شممت رائحة احتراق خانقة.
تكسر شيء محترق تحت قدمي.
كانت الأشجار الخضراء الوارفة قد تحوّلت إلى رمادٍ فوضوي.
“ما الذي حدث هنا؟”
[بقايا قوة روح النار.]
“لا تقولي إنّ تلك الخائنة هي من جاءت؟”
الخائنة التي باعتني إلى يورانت… روح النار.
[لا أظن ذلك. هذه قوة روح عالية.]
الحمد لله… خفت أن تكون قد جاءت لتأخذني ثانية.
وإن كانت الروح التي مرّت من هنا روحًا عالية، فهذا يعني أنها ليست تلك الخائنة فصديقتي كانت ملكة روح أيضًا.
ثم… تعثرت قدمي بشيء.
‘غزال؟’
حسبت أنه غزال متفحّم.
“…لا، إنه إنسان.”
كان طفلا محترقا ينازع الموت أمامي.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 2"