1
الفصل1
الهَرَب… نعم، كان عليّ أن أهرب.
‘قبل أن يكتشف ذلك المُرابي العجوز اختفائي، وقبل أن يطبق على رقبتي ككابوسٍ لا يرحم!’
لم يكن في ذلك الكوخ الخشبي المظلم سوى ظلالٍ تتكدّس فوق بعضها كأنّها أشباح متربّصة، أمّا أنا فكنتُ أستعين بخيطٍ خافتٍ من ضوء القمر يتسلل عبر نافذة صغيرة مكسورة، لأحشر في عجلةٍ مذعورة ما تيسّر من ثيابي البالية داخل حقيبةٍ أعرج، حَقّ لها أن تُسلّم الروح منذ زمن.
“آه… لا تملكين المال لتسديد الدَّين؟ إذن ستتزوجين. نلتقي غدًا صباحًا.”
صوتُه، ووجهُه الأبيض كبيضةٍ مُقشرة، يطفو في ذهني مثل كابوسٍ مُثير للغثيان.
‘أيّ عار هذا؟ أيّ لعنة؟! زواجٌ في الخامسة عشرة؟ بل ليست زيجة… إنها مجرد قِينة في حريم ذلك الرجُل!’
يدي ترتجف وهي تحزم الحقيبة، وكأنّ اللحظة التالية قد تشهد انبثاق الباب الخشبي المتداعي واقتحام خَدَمِ ذلك العجوز لسحبي من شعري إلى مصيري الحقير.
‘كيف وصلتُ إلى هنا؟ كل ما أردته… هو حياةٌ بسيطة، نظيفة من الذّل.’
كنتُ يتيمةً في قرية ويل، أعيش على فتات الأعمال التي يُلقيها الكبار في طريقي. ومع ذلك… الجوع ظلّ رفيقي الذي لا يفارقني.
الهرب من هذه الجحيم لم يكن له سوى سبيلٍ واحد :
الالتحاق بالمدرسة الملكية للروحانيين.
فهناك، وحده هناك، يمكنني أن أصير روحانيةً محترفة، أحصل على راتبٍ ومكانة، وأهرب من الفقر الذي ينهش عظامي.
ولحسن الحظ… لقد وُلِدتُ بحسٍّ روحيّ نادر، قدرةٌ على التواصل مع الأرواح لا يمتلكها الكثيرون.
لكنّ الطريق نحو المدرسة كان بعيدًا… بعيدًا إلى حدٍّ لا يُطاق إذ تقع في مملكة محايدة تُدعى ميدل فورست، والوصول إليها يحتاج أموالًا… وأنا لا أملك سوى الهواء.
لذا اضطررتُ إلى الاقتراض من ذلك العجوز، على أمل أن أسدّد دَيْنه يوم أن أنجح. وكان ذلك للأسف بداية الانهيار.
امتحان القبول… المرحلة الأولى.
كانت كتابية.
وأنا لا أعرف حرفًا واحدًا من لغة الإمبراطورية.
‘أي تعليمٍ تمتلكه يتيمة مهجورة مثلـي؟!’
طلبت من إحدى المتقدمات قراءة نتائج الناجحين… ولم يكن اسمي بينهم.
هُزمت قبل أن أبلغ حتى اختبار الحسّ الروحي الذي كنت أجيده!
صرخت، غاضبةً من نفسي ومن الدنيا ومن الأرواح نفسها:
“كريسنت! لم يقل أحد إن هناك امتحانًا كتابيًا! قلتَ لي إنه اختبار حسّ روحي فقط!”
ظهر من الظلال روحُ الظلام كريسنت، ينحني بخجلٍ وهو يبتلع ظلام الغرفة، وكأنّ وجوده يجعل كل شيء أكثر سوادًا.
“لم تتحرَّ جيدًا! اعتمدتُ على كلامك!”
اعتذر. لكن ما نفع الاعتذار؟ الدنيا نفسها تسخر مني.
وغدًا… مع شروق الشمس… سيأتي العجوز ليستولي على حياتي.
لا.
يجب أن أهرب الليلة.
حملت حقيبتي ومضيت.
لكن صوتًا شفيفًا من وميض القمر ظهر فجأة: روح الضوء سولا
ر.
[إلى أين أنتِ ذاهبة، يا إيشا؟]
“إلى أي مكان… أي مكانٍ أفضل من هذا الجحر.”
فوق الغرب، كما يقول الناس، توجد مدينةٌ كبيرة، حيث العمل كثير والجهد مرير، لكنّ المال يتدفّق.
‘أولًا أسدّد الدَّين. ثمّ أعيش.’
مسحت دموعي بقبضتي، ثم دسست محفظتي اليتيمة عليها رسم حوتٍ قاتل لطيف وهي آخر هدية من صديق طفولتي… أوركا.
‘ذلك الأحمق… لن أراه مجددًا. هو لا يقدر على العيش بلا أحد يذكّره بكيفية التنفّس تقريبًا…’
وبينما كنت أفتح الباب المخلوع…
طاااااخ! طااااااااخ!
اهتزّ الباب حتى كاد يسقط أرضًا. كتمتُ صرختي بيدي.
‘يا رب… هل هم؟ هل جاءوا لأخذي؟!’
[إيشا! ماذا نفعل؟]
[الهرب هو الخيار الوحيد!]
“لا يوجد مخرج خلفي! أين أهرب؟!”
يا رب…
هل أرجوهم؟ أتوسل؟
مستحيل. لقد جاؤوا لاعتقالي قبل أن أفرّ فجرًا.
“لن يروكما… استعدا. سولار، إن فتحوا الباب أطلقي ضوءك. كريسنت، غطّي كل شيء بالظلام.”
أومآ.
التقطت عصًا محترقة الأطراف، وقفت خلف الباب.
الاهتزاز ازداد…
ثلاثة… اثنان… واحد
انفتح الباب!
صرخت وضربت بكل ما أملك..
وإذا بيدٍ تمسك العصا بسهولة كما لو أنها تمسك بساق زهرة.
“د… دعني! أنا فقط 15 عامًا! لا أريد أن أُباع!”
“إيشا.”
صدمتني اليقظة فجأة، رأيت القمر المغمور بالغيوم، ورأيت وجهًا أعرفه…
“أوركا؟!”
كان هو.
هو بنفسه.
ابتسم لي ابتسامةً تجلب الطمأنينة.
انهرتُ بالعصا من يدي.
“أ… أحمق! ما الذي تفعله هنا في هذا الوقت؟!”
أرواحـي اختفت فورًا حين أدركت أنّه بشرٌ عادي.
المكان كان خاليًا، لا أحد حولنا.
“أتيتُ لرؤيتك… قبل أن أغادر إلى قريتي.”
تذكّرت أنه يعمل في مزرعة خيول عند عائلةٍ نبيلة… وأنه جاء لوظيفة هنا.
لكن رؤيته الآن… بهذا الجديد المهيب،بملابس أنيقة كالطبقة الراقية
وشعره الذهبي وعيناه البحريتان.
كان جميلًا.. جميلًا حدّ الوجع.
“أوركا سأغادر القرية الليلة. حين تعود من قريتك…لن أكون هنا. لذا لا تبكِ على فراقي.”
اقترب مني وقال بصوتٍ يوشك أن يزلزل قلبي:
“إن كان الأمر عاجلًا… فتزوجيني.”
“…ماذا قلت؟”
شدّ يدي، نظر إليّ مباشرة بضوء القمر.
“أنا أفضل من ذلك العجوز، أليس كذلك؟”
لم أستوعب.
ارتبكت.
سألته كيف علم.
فقال: “القرية بأكملها تعلم. لقد فضح العجوز الأمر أمام الجميع.”
خفضتُ رأسي.
كنت أريد الهرب ببساطة… لكن رؤيته جعلت قلبي يتشقّق.
“لم لَم تخبريني؟ أتريدين الرحيل بلا وداع؟ بدونك… كيف سأعيش؟”
كان غاضبًا.
وللمرة الأولى، رأيت الغضب جميلًا.
قاسيًا.
مهيبًا.
ثم فجأة… أخرج ورقة.
ورقة طويلة بختمٍ إمبراطوري.
“هذا… عقد زواج. وقّعيه يا إيشا.”
“نحن لسنا بالغين! ولسنا نبلاء!”
فابتسم ابتسامةً تزلزل السماء نفسها:
“وإن كنتُ أنا نبيلًا… فهل تتزوجينني؟”
ضحكت بسخرية.
“بالطبع! لو كنتَ نبيلاً لتزوجتك فورًا.”
وما إن قلتها…
حتى ظهر رجلٌ أنيق يحمل صينيةً فضية عليها جهاز تسجيل.
وفي صدره… شعار سفينةٍ تحمل رسم الحوت القاتل.
كدتُ أُغشى.
تلك… شارة عائلة ريموند.
“العائلة التي افتتحت عصر البحّارة، وأبادت القراصنة، ومنحها الإمبراطور رتبة الدوقات الثلاث العظماء.”
قلتُ ذلك بصوتٍ خرج وحده دون إرادتي.
ابتسم الرجل وقال:
“كما قال السيد الصغير… فطنةٌ وذكاء.”
السيد… الصغير؟!
نظرت إلى أوركا…
وعيناي اتسعتا حتى كادتا تسقطان.
“أنت… دوق؟! أنت الوريث؟!”
اقترب مني، أمسك بيدي، وقال:
“إيشا… وقّعي. ثم سنعود إلى بيتنا.”
“أنا… لا أعرف التوقيع.”
ابتسم. أمسك بيدي.
أمر الخادم أن يدهن كفّي بالحبر.
ثم ضغطها على الوثيقة.
دوووووم…
صوت قدرٍ يُغلق.
بابٌ لا يُفتح.
“الزواج… دائمًا يأتي فجأة.”
ابتسم.
ثم… حملني إلى العربة.
وانطلقت بي نحو مستقبلٍ لم أتخيّله يومًا…
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 1"