ناديتُ الأطفال بصوتٍ مرتجف.
لكن، وعلى غير العادةِ، لم يظهر لوهين بتصرّفه الحاد، ولا لاريز التي كانت تركض نحوي خلسةً دائمًا.
“أين أنتم…؟”
ليتكم خرجتم وتصرّفتم بعدوانيةٍ كالعادة. لماذا لا تخرجون حتى اليوم؟
بصعوبةٍ حرّكتُ قدميّ المثقلتين وتوجّهتُ نحو الزاوية التي اعتاد الأطفال الجلوس فيها دائمًا.
وهناك، كان الأطفال جالسين القرفصاء، وقد تمزّقت ملابسهم البالية أصلًا فبدت أكثر بؤسًا.
“آه…”
في تلك اللحظة، انهارت قواي وانهرت جاثيةً أمام التوأم.
“أنتم…”
حتى من خلف الملابس الممزّقة، كانت آثار التعذيب واضحةً تمامًا.
“…إنها الأخت.”
“…”
لاريز ابتسمت لي بضعفٍ، بينما لوهين اكتفى بالتحديق نحوي بصمتٍ.
“هاه… كنتُ أظنّ… لا، كنتُ أتمنى ألّا يكون الأمر كذلك… تلك الحقيرة… تلك…”
كادت الشتائم أن تفلت من لساني، لكني حبستها.
كيف لإنسانٍ أن يفعل هذا بأطفالٍ صغار؟ كيف؟!
“إنها تلك المرأة، أليست هي من فعلت بكم هذا؟”
كان المشهد بائسًا جدًا، حتى أن دمعةً انحدرت من عيني دون إرادة.
“أختي، انظري. لقد قلتُ لكِ إنها ليست من فعلت. إنها تبكي من أجلنا.”
“…ألستِ أنتِ من فعل هذا؟”
“أنا؟”
“يبدو أنكِ لستِ من فعل.”
“بالطبع لا. أختي ليست من النوع الذي يؤذي.”
مسحتُ دموعي بسرعة واقتربتُ من التوأم.
“لا تنظري.”
وكأنّ الأمر أزعج لوهين، فانكمش بجسده أكثر.
“هاه… حقًّا… أنا آسفة. لقد كنتُ ساذجةً جدًا.”
كلّ هذا خطأي. كنتُ مغرورة، اعتقدتُ أن كلّ شيء سيسير كما أردتُ فقط لأنني رغبتُ بذلك.
“ليست غلطتكِ يا أختي.”
“أجل. ليست غلطتكِ. لذا لا تتصرّفي وكأنكِ مسؤولةٌ عن كلّ شيء.”
حتى كلمات لوهين اللاذعة لم تجرحني.
كنتُ قلقةً فقط على جراحهم…
وعلى جراحهم النفسية.
لذلك، قبضتُ على يدي بإحكام.
“لن أتحمّل أكثر.”
“أختي، لن تتحمّلي؟”
“أن أترككم في هذا المكان، وأنا أعلم أنّ مثل هذا اليوم سيتكرر… هذا خطئي. هل أحرق المكان الآن؟ هل سيجعل ذلك حياتكم أكثر إنسانية؟”
كانت غريزتي تصرخ.
لو فعلتُ ذلك، فلن يبحث مدير الميتم عن الأطفال مجددًا.
لكن… إن فعلت، فلن يبقى لهم مكانٌ يأويهم.
رغم بؤسه، إلا أنّ المخزن يحميهم من المطر على الأقل.
“أختي، لا تبكي، حسناً؟ نحن بخيرٍ!”
لاريز ابتسمت ببراءةٍ وفركت وجهها في صدري.
“انظري، لم نعد نتألم. لذا لا تقلقي!”
“…لكن، حتى لو شُفيت الجراح، فهذا لا يعني أنّ كل شيءٍ بخير.”
عند تلك الكلمات، اختفت ابتسامة لاريز وحلّ ظلٌ ثقيل على وجهها.
“أنا بخير فعلًا… أختي، لذا ناديني لاري مثلما فعلتِ سابقًا. أحبّ الاسم حين تناديني به…”
“…لاري.”
الآن فقط فهمتُ لماذا لم يتمكّنوا من فتح قلوبهم لي.
الآن فقط عرفتُ كيف استبدّ بهم ذلك الرعب المؤلم.
كنتُ أحضر لهم الطعام والملابس، وأبذل ما بوسعي، لكن حينما تزورهم مديرةُ الميتم ولو لمرة، ينهار كلّ شيء.
مثلما حدث الآن.
ربما لاريز بدأت تنفتح ناحيتي بعد ما جرى، لكن لوهين أصبح أكثر حذرًا.
‘لن أظلّ أراقب فقط بعد الآن.’
حدّقتُ في وجه لاريز المبتسم، ثم أومأتُ برأسي بقوّة.
“لقد قررت. سأُخرجكما من هنا.”
“هاه؟”
لأنني إن لم أفعل، سيعود كلّ هذا مجددًا.
ولأنّ والدكما، الدوق، قد يراعي ذلك لاحقًا.
ليس لأنني طيّبةٌ. بل لأني أستخدمكما لأجل نفسي فقط. هذا ما قررتُ تصديقهُ.
“بالطبع، لن يكون الأمر سهلًا. لو غادرنا الآن، فسيُعاد القبض علينا سريعًا.”
“ومتى سنذهب؟ أختي؟”
“حدّدتُ يومًا مناسبًا. وحتى ذلك الحين، لنبقَ هنا قليلًا فقط.”
“حسنًا!”
“غالبًا، بما أنه جاء اليوم، فلن يعود قريبًا. سأحرص على ألا يحدث. سأظلّ أساير المديرة. فقط تحمّلوا لبضعةِ أيام أخرى.”
“أجل، أختي.”
لاريز أومأت وكأنها تودّ قول الكثير.
“لا تفعلي شيئًا أحمقًا.”
في تلك اللحظة، اقترب لوهين الذي كان دائمًا يبتعد عني.
“هاه…؟”
“اهتمي بنفسكِ فقط. في النهاية، أنتِ… لستِ مختلفة عنّا.”
“لكنني أفضل حالًا منكم. لهذا، أنا من سينقذكم.”
“…”
“ثم، لوهين. أنا لستُ ‘أنتِ’. أنا أختك.”
“أختي؟ من أين لكِ هذا؟”
لكن لوهين لم يتهرّب مني هذه المرة.
حدّقتُ في الطفلين طويلًا، ثم ابتسمتُ بصعوبةٍ وغادرتُ المكان.
كنتُ لا أريد التدخّل في أحداث الرواية.
لكن الآن، لم يعد أمامي خيار.
‘لأجل الأطفال.’
عليّ أن أتحرّك أخيرًا.
‘ولحسن الحظ، لم يتبقَّ الكثير من الوقت. صدفةً، ربما…’
في العاصمة الإمبراطورية، تأتي الكاهنات مرتين في السنة لتفقد الميتم.
في ذلك اليوم، يُغسل الأطفال، وتُلمّع الأشياء.
يُسمح لهم بارتداء ثيابٍ لم يلبسوها من قبل، ويأكلون اللحم.
ذلك اليوم هو فرصتي.
منذ ذلك اليوم، بدا أنّ مزاج المديرة أفضل من المعتاد.
لكن، لعلّ أمورها خارج الميتم لم تسر كما أرادت، فقد عادت في مراتٍ عديدة عابسةً.
كنتُ أزوره عمدًا، كأني أقول له:
“إن أردتَ إيذاء أحد، فآذِني أنا.”
واجهتُ لحظاتٍ خطيرة، لكنها مرّت بسلامٍ نسبي.
لحسن الحظ، لم تنفّذ خطتها بجعل الأطفال أكثر بؤسًا لزيادة التبرعات حتى قدوم يوم زيارة الكاهنة.
كانت زيارة الكاهنة أكبر مناسبةً في الميتم، وانشغلت المديرةُ بالإعدادِ لها.
وأخيرًا، جاء اليوم المنتظر.
ارتدينا الملابس الثمينة التي لم نكن نُسمح بلمسها عادة، واستحممنا، وسُرّحت شعورنا وزُيّنت بشرائطٍ جميلة.
وارتدينا أحذيةً جديدة، ثم وقفنا ننتظر عربة الكاهنة.
عند العاشرة صباحًا تقريبًا…
ظهرت عربةـ المعبد.
لوّح الأطفال بأيديهم بسعادةٍ.
وحين توقّفت العربة داخل الميتم، فتحت الكاهنة الباب ونزلت سريعًا.
“هل كنتم بخير مؤخرًا؟”
“نعم، كاهنتنا!”
أجاب الأطفال بأصواتٍ مرتفعة.
“هل كنتم تأكلون جيدًا؟”
“نعم!”
“وهل ينقصكم شيء؟”
“…لا!”
تردّدوا قليلًا، لكن لمّا رأوا نظرات المدير، أسرعوا في الإجابة.ِ
“هذا مطمئن. كنتُ قلقة. لكن… يبدو أن الأطفال نحفوا بعض الشيء، أليس كذلك، يا مديرة الميتم؟”
كانت الكاهنة تضحك وتربّت على الأطفال، لكن وجهها بدأ يظلم شيئًا فشيئًا.
تنهدت وهي تنظر إليّ ولمست وجنتي، ثم تبادلت نظرات مع المدير.
“خاصة آيشا… كنتُ أتابعها باهتمامٍ…”
كنتُ قد نلتُ إعجاب الكاهنات بسبب ذكائي، وأظهرتُ لها وجهًا حزينًا.
“لا يمكن أن يكون هذا. ربما لم تأكل جيدًا مؤخرًا فقط.”
“هكذا تقولين؟”
لكن، الكاهنة بدت غير مرتاحةٍ. أمسكتُ بيدها سريعًا.
“كاهنتي! كاهنتي!”
“نعم، آيشا.”
كلّ هذا حدث قبل أن تتمكّن المديرة من منعي.
أمسكتُ يدها بإصرار.
تصرفٌ لم أكن لأقوم به عادة، فالجميع أعجبوا بي لأنني لم أكن أتصرف كالأطفال.
كنتُ أتصرف بنضج، ولا أطلب شيئًا، ولم أكن أبحث عن الاهتمام.
لكن اليوم، حطّمتُ كلّ تلك الصورة التي تعبتُ في إنشاءها.
“رجاءً، تعالي معي للحظةٍ!”
اقتربت المديرة بخطواتٍ غاضبٍة وأمسكت بمعصمي بعنف.ٍ
تجمّد وجهي، لكني لم أستسلم.
“آيشا. الكاهنات مشغولات. توقّفي عن هذا.”
“آه… آسفة. لم أرد إزعاجها…”
رفعتُ عيني نحو الكاهنة بوجهٍ كئيب.
“هل هذا ضروري، أيتها المديرة؟”
“لكن…”
“آيشا لم تطلب هذا منّا أبدًا من قبل.”
“إذًا، ستأتين معي؟”
نظرتُ إلى الكاهنة بعينين متألقتين.
بين كل الكاهنات، كانت هذه الكاهنة متميّزةّ برحمتها.
كاهنة ميلوديا.
لذلك تمنيتُ بشدّة أن تأتي اليوم، وقد جاءت فعلًا.
كانت من القلائل الذين يمكنني الوثوق بهم.
“بالطبع. هل هناك شيء تريدين أن ترينيهُ؟”
“نعم!”
“إذن، فلنذهب. ولتتفقد باقي الكاهنات الأطفال الآخرين.”
“نعم، كاهنة ميلوديا.”
“ليتبعني اثنان من فرسان الهيكل فقط.”
“حاضر!”
كانت ميلوديا الأقدم بين الكاهنات، وزّعت المهام، ثم أمسكت بيدي وسارت ببطءٍ.
عندها فقط بدأ الكهنة الآخرون بإنزال ما في العربة من حاجيات.
“لكن، يا لها من مفاجأةً. آيشا تبكي وتطلب بهذه الطريقة.”
“هيهي. آسفة وشكرًا، كاهنة ميلوديا.”
أطفالي الأعزاء…
عليكم أن تعرفوا كم تعبتُ من أجل هذه اللحظة.
وأني أستخدمها لأجلكم أنتم.
ابتسمت لي بحنانٍ.
“لا داعي للشكرِ.”
“كاهنة… لا تدعي آيشا تزعجكِ كثيرًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 7"