بما أنّني عرفتُ مستقبلي، فلن تتكرّر الأمور كما في الماضي.
‘قالت السيدة الكاهنة إنَّ تغيير ذلك المستقبل سيكون أمرًا صعبًا… لكن عليَّ أن أغيّره حتمًا.’
السيدة الكاهنة فقدت طفلها، وأنا فقدتُ توأمي.
لكن طفل السيدة الكاهنة كان حيًّا، بينما مستقبلي محدَّد بوضوح: موت التوأم.
ذلك الواقع الذي يموتان فيه أمام عيني، ويُتَركان من الجميع، ويُطرَدان حتى من منصب وريث الدوق.
لذلك ابتسمتُ كطفلة ببراءة.
مثل طفل في هذا العمر، وكأنني لا أعرف شيئًا، وكأنني مشغولة فقط بسرد ما حدث اليوم.
“قالت أن تزوري كثيرًا؟”
“السيدة الكاهنة… بنفسها؟”
“نعم! كانت شخصيّة غامضة للغاية. على الرغم من أن بصرها مفقود، إلا أنَّها كانت تتصرّف وكأنها ترى.”
“أن تقول هي ذلك بنفسها…”
كما توقّعت، جرت الأمور كما خطّطت.
إحدى الوصيفات، التي كانت تراقب الموقف بصمت، قالت إنّ لديها عملاً عاجلًا وغادرت.
وبعد وقت قصير، انتهى الاستحمام.
وفي وقت العشاء، لم يكن هناك من يسبّب لنا الإزعاج.
* * *
في صباح اليوم التالي، جاء الدوق لزيارتنا مجددًا.
ربما بسبب ما حدث مع السيدة الكاهنة بالأمس، كان ينظر إلى لارِي بوجه مليء بالقلق.
“أما زالت غير قادرة على النهوض اليوم أيضًا؟”
“استيقظت قليلًا في الصباح لتأكل، ثم عادت إلى النوم. لكنّها على الأقل تأكل جيدًا.”
“لم أكن أعلم أن هناك مشكلة بالفعل…”
“لكننا لا نعرف شيئًا بعد.”
بدأ القلق يتسرّب إليَّ بشأن ما قد يفعله الدوق.
“على أيّ حال، إن نامت واستيقظت، تتحرّك بنشاط، فلا تقلق.”
كان لوهين، الذي يجلس بجانبي، قد بدت على وجهه علامات الدهشة من كذبتي الصغيرة.
“أه… هكذا إذن.”
“وإن حدث أمر آخر، فسأخبرك.”
“حسنًا. وبالمناسبة، أيتها اليتيمة الصغيرة… لا، يا آيشا.”
“نعم؟”
“كان بيننا وعد، أليس كذلك؟”
صوته لم يكن كما في العادة.
كان أكثر دفئًا، كما يتحدّث مع لاري.
شعرتُ بقشعريرة خفيفة في ظهري من نبرة صوته المختلفة.
هل مضى الوقت فعلًا لهذه الدرجة؟
كنت قد وعدتُ أن أجعل لوهين ينطق بكلمة “أبي” للدوق، لكن لم أفعلها حتى الآن.
“آه…”
نظرتُ إلى لوهين ولاري قليلًا.
“صحيح.”
“إذن تتذكرين.”
“بما أنني لم أفِ بالوعد، فسأفي به الآن.”
حينها تجمّد وجه لوهين فجأة.
“ما هذه الأجواء؟”
“لا شيء، فقط حان وقت الوعد.”
“أي وعد… آه…”
يبدو أن لوهين تذكّر فجأة ما قاله: إن لم ينادِ الدوق بـ”أبي”، سيتم طردي.
“هذا… هذا ظلم! لماذا تُطرَدين أنتِ بسبب أمر عليَّ أنا فعله؟!”
“إذًا فلتقلها وانتهى الأمر.”
“ذلك… هذا…!”
تردّد لوهين، وكأن كبرياءه يمنعه تمامًا.
مهما بدا هذا الكبرياء بسيطًا، فقد كان درعه الواقي طوال حياته.
لذلك لم يستطع أن ينطق بسهولة.
أمسكتُ بيده بحزم.
“لا بأس، لستَ مضطرًّا.”
“لكن إن لم أفعل، سيتم طردك. هذا…”
“لستَ مضطرًّا لفعل شيء من أجلي.”
“آيشا…”
لكن لوهين نظر إليَّ وإلى الدوق بالتناوب، وكأنه يتوسّل أن أجد حلًّا ما.
“لكن يا لوهين، لا أظن أن طلب الدوق منك أن تناديه أبي، وأن تضع كبرياءك جانبًا، أمر سيّئ النية.”
التفت الدوق ولوهين إليّ فجأة عند سماع كلامي.
“ربما يريد أن يعلّمك أن على المرء أن يعرف كيف يخسر أحيانًا. وأن الفوز الدائم ليس النصر الحقيقي، وأنك أحيانًا تحتاج أن تتراجع قليلًا لتحصل على ما تريد… وربما يكون هذا مجرد ظنّ منّي.”
ابتسمتُ بخجل وأنا أحك رأسي.
في الرواية، كان الدوق شخصًا يلبي كل ما يطلبه أولاده، ربما كطريقة خاصة به لإظهار حبّه.
لم يكن يعرف كيف يتصرّف، لكنني بدأت أفهم قلبه قليلًا.
يبدو وكأنه شخص لا يعرف حتى كيف يسيطر على مشاعره.
لكن لوهين هزّ رأسه وكأنه لم يفهم.
“هذا الكلام…”
“لستُ أفرض عليك شيئًا. فقط، لا أظن أن الدوق شخص سيّئ. أردتُ قول هذا فقط. حسنًا، أظن أنه يجب إنهاء الأمر قبل أن تؤثر كلماتي على قرارك.”
ابتسم الدوق وهزّ رأسه.
“أنت طفلة غريبة… لا أدري إن كنتِ في صفي أو في صفّ لوهين، أم أنكِ فقط تتبعين قناعاتك.”
“بل الثلاثة معًا.”
‘أنا حقًّا مضحكة… أنصح لوهين أن يضع كبرياءه جانبًا ويقول ما يريد ، بينما أنا نفسي لا أستطيع قول ما أريد.’
أن أطلب من الدوق ألّا يطردني، أو أن أذكر له أن لوهين ناداه “أبي” لا شعوريًّا… لماذا لا أقولها؟
هل لأن كبريائي يمنعني؟ أم لأن السيدة الكاهنة قالت إنني مميّزة، فلا أريد أن أطلب شيئًا منه؟
أم لأنني أعلم أنه لن يُبقيني بجانبه مهما قلت؟
“سؤال واحد فقط… هل ترغبين بالبقاء بجانب الأطفال؟”
“نعم.”
“إذن لماذا لا تطلبين ذلك؟ كان بإمكانك الإلحاح.”
“لقدَ قلت سؤال واحدًا، وأظنُ أني أجبتهُ.”
“آه، صحيح.”
غريب… في الماضي كنت سأخاف من الرد عليه، لكن الآن، بسبب لين قلبه مع التوأم، رددت بلا تردّد.
“لكن يا آيشا، في الحياة تبادل: إن أعطيتِ شيئًا، ستأخذين شيئًا. إن أجبتِ على سؤالي، سأحقق لكِ طلبًا.”
قالها بصوت لطيف، وكأنه يعرف ما سأطلبه.
“حسنًا، سأجيب.”
“إذن لماذا لا تطلبين ذلك؟”
“لأنني أظن أنكَ لن تقبلَ حتى لو طلبت.”
“هل تحبين الأطفال؟”
“نعم.”
لم أحتج إلى تفكير.
أنا أحب التوأم حقًّا، وكأن حياتي الجديدة وُهِبت من أجلهم.
شعرت أن القدر يوجّهني لأكرّس كل ما أملك لهم.
ابتسمت بحزن قليل، فقد جعلاني أدرك أن بإمكان المرء أن يحب بلا سبب.
“حسنًا، فهمت. قولي ما تريدينه.”
“هل يمكن أن أبقى هنا مع التوأم، كمساعدة لهما، وأهتم بكل أمورهما حتى يعتادا الوضع؟”
“سيكون لكِ ذلك.”
أجاب بلا أي تردّد، كما أجبت أنا على سؤاله.
“حقًّا؟ هكذا فجأة؟”
“نعم. أنا أفي بكلمتي.”
“آه…”
تأمّلته قليلًا.
“كنتَ تنوي إبقائي هنا منذ البداية، أليس كذلك؟”
“يمكنكِ التفكير كما تشائين. قد يكون ذلك صحيحًا أو لا، أو الاثنين معًا.”
وللمرة الأولى، مدّ يده ولعب بشعري بلطف.
لكن لوهين عبس.
“هل تغيّرت فجأة؟ لماذا أبقيتِها بجانبكَ الآن؟”
“من يدري.”
“يبدو أنك لست سيئًا جدًا إذن، حتى أنك قبلتَ،”
كنت أريد أن أقول إن الفضل يعود لـ لوهين الذي قالها لا شعوريًّا، لكن الدوق أشار لي بصمت ألا أفعل.
“سأزوركم لاحقًا، وإن استيقظت ‘لاري’ فأخبِريني. أظن أن عليها أن تتلقى فحصًا مناسبًا.”
“حسنًا، ولكن يا سمو الدوق…”
“نعم؟”
“ليس هناك مكان مناسب للأطفال، وأريد تعليمهم…”
“إلى أين تريدين الذهاب إذن؟”
حككتُ رأسي بخجل.
“أريد الذهاب إلى المكتبة! فأنا أقرأ جيدًا مقارنة بسني، وأريد تعليم الأطفال بعض الأشياء…”
“اذهبي إذن. يبدو أنك ترغبين بذلك كثيرًا.”
“شكرًا!”
“ولكن، ماذا تعتقدين لو كنت قد رفضتكِ؟”
ابتسمتُ بحرج.
“كنت سأطلب على الأقل أن أبقى لبعض الوقت. شعرت أنكم ستسمحُ بذلك.”
“ولماذا هذه الثقة؟”
“لأنكم طلبت إحضاري من المعبد. سمعت أن البركة لا يحصل عليها أي شخص، لذا…”
ضحك الدوق بصدق هذه المرة.
“أنتِ طفلة غريبة فعلًا… ذكية أيضًا. صحيح، أردت أن يحظى أولادي بالبركة دومًا، ولهذا كنت أنوي إبقاءك.”
ارتحتُ، إذ كنت أخشى أن يكون مجرد وهم.
“أنا في الحقيقة لا أحب الأطفال.”
“ماذا؟”
“لأنهم أغبياء، مدلّلون، ولا همَّ لهم سوى التذمّر. لكنكِ مختلفة قليلًا. أظن أنك تصلحين كصديقة لهم. صحيح أن وضعك الاجتماعي يثير القلق، لكنكِ أذكى من أن يعيقك ذلك. عامليهم جيدًا.”
كانت هذه أول مرة يعترف بي لهذه الدرجة.
خفق قلبي بسرعة.
“حسنًا!”
“إذن سأغادر. وإن احتجتِ شيئًا فأخبِريني. سأعيّن لكِ فارسًا خاصًّا.”
التعليقات لهذا الفصل " 58"