عندما غادرنا فقط، ابتسمت الكاهنة ميلوديا نحوي كما فعلت حين رأيتها في الميتم.
“لستُ أُحبّه كثيرًا.”
“ماذا؟”
كان الدوق لا يزال يمشي بخطًى سريعة، وكلامه بلا فاعل واضح.
“أعني المعبد. يتظاهرون بغير ذلك، لكن فيه شيء من التسلّط الخفيّ. لذلك لا أُحبّ هذا المكان. فالماء الراكد، لا الجاري، مصيره أن يفسد دائمًا.”
“آه.”
صحيح. حتّى رعاية الأيتام، وهي من مشاريع المعبد، قد فسدت تمامًا.
ليس الميتم الذي كنتُ فيه فقط، بل سائر المياتم أيضًا، والكاهنات يكتفين بالزيارة دون اكتراث.
أومأتُ موافقةً على كلامه.
“أأنتِ تشعرين بذلك أيضًا؟”
“قليلًا، نعم.”
“تبدو علاقتك بالكاهنة ميلوديا قديمة.”
“نعم، فهي كانت تزور الميتم دوريًّا، بحكم أنّ رعاية الأيتام من مشاريع المعبد. التقيتُها حينها، وهي أطيب بكثير من غيرها من الكاهنات.”
لكنه بدا غير مهتم بمعرفة المزيد عنها، وكأنّ ما يهمه فقط هو ما فعلته لنا.
“أرى. أمر غريب فعلًا. أنتِ طفلة، لكن حين أتحدث إليك أشعر وكأن بيننا لغة مشتركة. لستُ أعلم إن كان ذلك لأنني مرتاح أكثر مع الأطفال، لكن أشعر أنني لم أتحدّث بهذا الطول مع أحد منذ زمن، وكأن ذهني يرتّب أفكاره وأنا أحادثكِ.”
“هكذا إذن.”
“أنا، لا أثق بأحد من المعبد… باستثناء شخص واحد.”
“هل هي رئيسة الكهنة؟”
“نعم.”
اكتفيتُ بالإيماء. لم أدرِ لماذا بدأ فجأة يحدثني بكل هذه الأمور، ولا ما الذي يفترض أن أقوله.
هل يقول هذا ليمتحنني، أم لسبب آخر؟
كنت أظن أنّه دائمًا ينزعجُ بوجودي…
‘لكن الشعور الآن ليس سيئًا.’
قالت الكاهنة إن عليّ أن أثق بحدسي.
فهل هذا يعني أنّ الدوق يفتح قلبه فعلًا حين يقول هذا؟
حينها قال:
“لا يبدو أنكِ فضولية بشأن سبب ثقتي بالكاهنة العظمى، لا بميلوديا التي وجدتِ التوأمين.”
“فقط… شعرت أنّني سأفعل مثلك لو كنتُ مكانك.”
“أأنتِ أيضًا؟”
“نعم. كنتُ أحبّ الكاهنة ميلوديا كثيرًا قديمًا، وما زلتُ أراها طيبة، لكن مشاعري لم تعد كما كانت…”
ابتسم بخفّة.
“وأنا كذلك. المرأة التي رأيتها اليوم… لا تعجبني.”
عندها فقط فتح لوهين، الذي ظل صامتًا طوال الطريق، فمه وكأنه انتهز الفرصة:
“يبدو أننا نتشابه كثيرًا، يا آيشا.”
كانت عيناه تلمعان بتوقّع.
“بل نحن… جميعًا، أليس كذلك؟ فأنا أيضًا لا تعجبني الكاهنة ميلوديا.”
“لكنها تبدو وكأنها تحبّكَ كثيرًا.”
منذ أن أتفق الدوق معي، ولوهين يبدو منزعجًا، فراح يمازحه، لكن الدوق لم يتأثر.
“صحيح. فقد كنتُ مشهورًا منذ طفولتي، يا لوهين. لو كنتَ تشبهني، لكنتَ أنت أيضًا محبوبًا منذ الصغر.”
“حقًّا؟ سأكون محبوبًا إذن؟”
لم يحدث أن تجاوب مع كلام الدوق من قبل، لكنه الآن نظر إليه بوجه متحمّس.
“بما أنك تشبهني… نعم.”
“هكذا إذن.”
ارتفع كتفا لوهين بفخر.
“قال إنني محبوب.”
“…ماذا؟”
“لكنني سأحبّ شخصًا واحدًا فقط.”
“إذًا فشريكك المستقبلي سيكون سعيدًا.”
في تلك اللحظة، تذكّرتُ لوهين المستقبلي الذي رأيته؛ فقد خسر أخاه الذي كان يعدّه كلّ حياته، ثم أنهى حياته بنفسه، ومع ذلك شكرنا لأننا بقينا إلى جانبه حتى النهاية.
‘أتمنى أن يجد هذه المرة من يحبّه حقًّا ويبادله الحب، لا أن يعيش لأجل أخيه فقط.’
إذا نشأ كما هو الآن، رغم بعض الجراح الماضية، فسيجد ذلك الشخص حتمًا.
ربّتُّ على كتفه، وأنا أشعر نحوه بشيء من مشاعر الأمومة.
وبينما نحن كذلك، وصلنا إلى العربة.
“هيا بنا، يا لوهين.”
صعد لوهين بلا كلمة، وكأنه كان يريد أن يقول شيئًا لكنه تردّد طويلًا، ثم تنفّس بعمق وجلس أولًا، فجلستُ بجانبه.
أما الدوق فجلس أمامنا وهو يحمل لاري.
وانطلقت العربة من جديد.
“يا صاحب السمو.”
“ماذا هناك؟”
“لماذا لا تعجبك الكاهنة ميلوديا؟”
“لأنها كانت دائمًا تدور حولي منذ الصغر.”
“الكاهنة ميلوديا؟”
كانت كلماته مفاجئة.
“لم تكن كاهنة آنذاك. أظن أنها أصبحت كاهنة بعد زواجي بالدوقة بفترة طويلة. حين ظهرت فجأة ككاهنة في أحد الحفلات، بعد أن اعتدتُ رؤيتها تراقبني من بعيد، فوجئتُ.”
“آه، إذن كانت تحبّك على الأرجح.”
“لستُ أعلم إن كان ذلك إعجابًا أم شيئًا آخر.”
“أها، ولهذا لا تعجبك إذن؟”
“لأنني لا أحبّ المودّة المطلقة بلا سبب. فالبشر لا يتعاملون بلا دوافع.”
نظر بهدوء إلى لاري النائمة بين ذراعيه.
“حتى أنا أهتم بهذه الصغيرة لأنها من دمي. ولهذا أراكِ غريبة.”
“أنا؟”
“نعم. ظننتُ أن لطفك مع التوأمين واتباعك لهما كان بدافع ما تريدينه، لكن يبدو أنك لا تريدين مالًا، ولا أن تجعليهما وسيلة لتتبنّاك أسرة نبيلة. هذا غريب.”
أومأتُ برأسي.
حتى أنا أجد ذلك غريبًا، وربما بسبب ما أرته لي الكاهنة العظمى، لكن قلبي لا أستطيع فهمه.
“وأنا أيضًا غريب… أكلمك بهذا الشكل.”
هزّ رأسه مبتسمًا بارتباك، ثم صمت، كما لو عاد إلى طبيعته التي لا تحبّ الكلام.
لوهين، الذي كان يحاول البقاء مستيقظًا، غلبه النعاس في النهاية، لكنه ظلّ يمسك بيدي.
“آيشا.”
“نعم؟”
“لقد تعبتِ.”
“لا، أبدًا. بل أنتَ من تعبتَ لأجلي.”
“لا، بل سررتُ برؤية رئيسة الكهنة.”
ثم عمّ الصمت مجددًا.
لم يكن حادّ النظرات كما في السابق، ولا لطيفًا كما كان في المعبد.
“لكن، لماذا لا تسألني عن سبب قدومي؟”
“وماذا عليّ أن أسأل؟”
“عن سبب دعوتها لي. أنتَ لا تبدو فضوليًّا أبدًا…”
“فكّرتُ أنّكِ ستخبرينني حين ترين ذلك مناسبًا.”
“لكنه…مهمٌ.”
“هل معرفتكِ بهِ مشكلة؟”
هززتُ رأسي.
“لا.”
“إذن لا داعي للضغط على نفسك بالحديث.”
“حسنًا.”
وانتهى الحديث.
لم يقل شيئًا حتى وصلنا، ووضع لاري على السرير ثم خرج.
استلقى لوهين قربها، وبقيتُ وحدي لتغسلني الخادمات.
على غير العادة، كنّ هذه المرة في غاية اللطف، يسألن عن حرارة الماء وراحتي.
حينها أدركت سبب اهتمامهنّ المفاجئ.
“هل حدث شيء في المعبد؟”
“ماذا تعنين؟”
تركْن الأمل في السؤال لوهين منذ البداية، لكنهّن جرّبن حظّهن معي، خاصة بعد حديثي مع الدوقة.
“لقد مكثتِ هناك طويلًا.”
“آه! نعم، حدث.”
“حقًّا؟”
“نعم.”
“وماذا كان؟”
“أتظنّان أنني سأجيبكما بعد كل ما شعرتُ به منكما من نفور سابقًا؟”
تبادلن نظرة محرجة.
“ليس الأمر إلزاميًّا، لكن…”
“لكن إن أخبرتِنا، فسيسهل علينا الاستعداد.”
أومأتُ…
“صحيح. لم يكن أمرًا كبيرًا. الكاهنة العظمى طلبت أن آتي إلى المعبد كثيرًا.”
“ماذا؟”
“الكاهنة العظمى؟”
“قالت إنها تريد أن تواصل منح لاري البركة.”
أتساءل كيف ستتصرف الدوقة حين تسمع هذا…
‘ستسارع في ما كانت تفعله، وربما تمنع لاري من الخروج إن خافت انكشاف أمرها.’
لقد تعمّدتُ قول هذا… والآن حان وقت وقوع الدوقة في الفخ.
التعليقات لهذا الفصل " 57"