راودني شعور أنّ المشي، ولو كنتُ أُعاني من ألمٍ في قدمي، أفضل من هذا الحال.
ما هذا؟ لستُ قطعة أثاث تُحمل!
لكن يبدو أنّ مثل هذه الأمور بدت ممتعة لها، إذ فتحت لاري عينيها ببريق وهي تُبرز شفتيها وتقول:
“أنا أيضًا! أريد أن أذهبَ بهذهِ الطريقةَ!”
“نعم؟”
الفارس، الذي لم يكن قد تكلّم منذ البداية، بدا مذهولًا وهو يُحدّق في الدوق الذي كان يسير أمامه.
وكأنّه كان ينتظر هذه اللحظة، اقترب الدوق بخفةٍ ومدّ يده نحو لاري، ولكن…
“لا! أريد الذهاب مع أختي!”
“لكن…”
“سأفعل نفس الشيءِ تمامًا مثل أُختي!”
“لذلك، سأحملكِ أنا، يا لاري.”
“لا أريد! أريد مثل أختي تمامًا!”
مع أنّنا كنّا صغيرتين ونحيفتين، فإنّ حمل طفلين يتجاوزان الخامسة من العمر أمرٌ صعب، ولم يستطع الفارس إخفاء ملامحَ الارتباكِ.
“مثلها تمامًا…؟”
“نعم! بجانب أختي تمامًا!”
عندها، تنهّد الدوق بخفةٍ، وهو يُطالع الفارس ولاري بالتبادل، ثمّ أومأ برأسهِ.
عندئذٍ، أنزل الفارس الذي كان يحملني إلى الأرض بلطفٍ.
ثمّ حملني الدوق بالطريقة ذاتها التي حملني بها الفارس قبل قليل.
“هل هذا يُرضيكِ؟”
“نعم! إذن، احملني أيضًا!”
قفزت لاري كالأرنب وهي تحتضن دميتها وتمُد يدها الأخرى.
حينها، ارتخت تعابير وجه الدوق المتجمّدةُ قليلًا للحظةٍ وجيزة.
‘حقًّا، هي لطيفةٌ بجنون…’
من المستحيل ألّا ألاحظ ذلك التغيّر الطفيف في وجهه.
رغم أنّه أخفى ملامحهُ على الفور، إلا أنّ الأمر المؤكّد هو أنّ مشاعر الدوق تجاه الأطفال ليست خفيفةً كما يبدو.
بل في الحقيقة، ربّما تخصّ لاري فقط.
‘صحيح أنّ لاري جذّابةٌ حتّى بالنسبة لي.’
اجتاحني شعورٌ بالارتياح، بل والفخر، دون أن أعرف سببه.
لكن وجه الدوق، الذي كان يحمل طفلين تجاوزا الخامسة من العمر على كلا الجانبين، ازداد تصلّبًا مع مرور الوقت.
وبدأ العرق يتصبب منه قليلًا.
أما لوهين ،الذي كان يمشي بجانبنا ناظرًا نحونا خفية، فقد أبرزَ شفتهُ السفلى وكأنّه يشعر بالغيرة.
“لوهين، أليس الأمر متعبًا بالنسبة لك أيضًا؟”
“هاه؟”
عند سماع سؤالي، ارتسمت ابتسامة ٌخفيفة على وجهه للحظة.
لكن الدوق تجاهل كلامي، وأكمل سيرهُ بسرعةٍ.
وكأنّه يقول إنّه متعب بما فيه الكفاية، ولا يمكنه أن يحمل أحدًا آخر.
أخذ يسيرُ بسرعة وكأنّه يركض، وبفضله، وصلنا سريعًا إلى مبنى كبير.
وما إن وصل إلى أمام المبنى حتى أنزلنا بسرعة.
“فلنَدخُل الآن.”
الدوق، الذي لم يلاحَظ ملامح وجه لوهين، مضى قُدمًا.
ولم تكن لاري، كذلك، تدركَ ما يَشعر به، فبدأت تجرّني من يدي وتقول:
“أختي! هيا ندخل! الغرفة واسعة جدًا!”
“أه… أ-أجل!”
وبهذا، وجدتُ نفسي أتحرّك رغمًا عنّي.
أما لوهين، فقد بقي في مكانه دون أن يتحرّكَ خطوةً واحدةً.
ويبدو أنّ الدوق، الذي كان يسير أمامنا، لاحظ ذلك أخيرًا، فاستدار ونظر َخلفهُ.
“لماذا لا تأتي؟”
“اذهبْ.”
لو أنّه فقط يهتم قليلًا، لكان الأمر أفضل بكثير.
لكن الدوق لا يهتم بتلك التفاصيل. يبدو أنّه انتقاءٌ مقصود.
وربّما بسبب يأسه، تبِعنا لوهين وهو يُخفي غضبه خلف وجهٍ أكثر تصلّبًا من قبل.
‘لو أنّه فقط مثل لاري، يطلب الأشياء ببراءة دون تردّد، لكان الأمر أسهلُ عليه…’
لكن لوهين، الذي ظلّ يحمي لاري كأخٍ كبير، أصبح طفلًا ناضجًا لا يستطيع التعبير عن مشاعرهُ بصراحةٍ.
ولهذا السبب، ركضتُ إليه، وأمسكتُ بيده بإحكام.
“هيا بنا.”
“ما الأمر؟ يدكِ…”
“نحن كنّا دائمًا ثلاثتنا معًا، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ وأمسكتُ بيدهِ بإحكام.
في البداية، حاول لوهين أن يسحب يده، ربما خجلًا أو انزعاجًا، لكنّه سرعان ما مشى معنا بنفس الخطى.
وارتخت ملامحه كثيرًا مقارنةً بما كانت عليه قبل قليل.
رغم أنّه ما زال طفلًا صغيرًا، إلا أنّه يُخفي طيبته وحنانه في داخله.
‘لماذا لا يفهمونه؟ يكفي فقط أن ينظروا إليه قليلًا ليدركوا ذلك.’
إنّه طفلٌ هشّ من الداخل.
لذا، شددتُ قبضتي على يده أكثر.
في تلك الأثناء، صعد الدوق إلى الطابق الثاني، وتوقّف أمام بابٍ ضخم في الوسط.
“إنّه هنا.”
كان عددٌ كبير من الخدم مصطفّين أمام الباب.
وما إن رأونا، حتّى فتحوا الباب بسرعة وكأنّهم كانوا بانتظارنا.
وبفضلهم، تمكّنا من رؤية داخل الغرفة مباشرة.
اتّبعتُ خطوات الدوق بثبات، محاوِلة كبت دهشتي، ودخلتُ الغرفة.
لكن المفاجأة لم تكن سهلة الإخفاء.
بصراحة، لو قُيّم الأمر بموضوعيّة، فهي بحجم كل غرف ميتمٍ مجتمعة.
كدتُ أُطلق صوت “واو”، لكنّني تمالكتُ نفسي.
كيف يمكن أن تكون غرفةً بهذا الحجم؟
وحتّى ورق الحائط، والسجاد الفاخر، والثريا المذهّبة على السقف، كلّ شيء بدا فخمًا.
وكانت هناك عدّة غرفٍ داخلَ الغرفة نفسها.
غرفة جلوس كبيرة، وأبواب متعدّدة تؤدّي إلى أماكن أخرى.
وما إن دخلنا بالكامل، حتّى نطقتُ بإعجاب لا إرادي:
“واااه…”
حقًّا، لا يُمكن منعُ الانبهارٌ هنا.
ويبدو أنّ لوهين أيضًا لم يستطع إخفاء دهشته.
“أختي! هذه غرفتي! قال أبي إنّنا سنعيش فيها أنا وأخي!”
“هـ-هل حقًّا؟”
“نعم! أليس الأمر رائعًا يا أخي؟”
بدأت لاري تقفز في مكانها وهي تُمسكَ بيدي وتسحبني هنا وهناك.
هذه غرفة النوم، وتلك غرفة الملابس، وهذه غرفة الألعاب، وتلك الغرفة الفارغة، وهكذا.
كان هناك الكثير من الغرف داخل نفس الغرفة، لدرجةٍ شعرتُ أنّه يمكن للمرء أن يضيعَ داخلها !
وبعد أن جُلنا طويلًا، خرجت لاري أخيرًا إلى غرفةِ الجلوس.
“إنّها مذهلة، أليس كذلك؟”
“نعم… حقًّا…”
“وأنتَ يا أخي؟”
“جميلة فعلًا.”
رغم ذلك، احمرّ وجه لوهين قليلاً.
وكان يُخفي سعادته بطريقةٍ جعلته يبدو لطيفًا للغاية، حتى إنّي ضحكتُ دون قصد.
“لماذا تضحكين؟”
“لا شيء… فقط لأنّي سَعيدةٌ.”
“سَعيدةٌ؟”
“نعم، كثيرًا.”
وكأنّه تلقّى مديحًا شخصيًّا، أخذ لوهين يرفع كتفيه بفخرٍ خفيف.
“إذًا، لا بأس.”
“هل أعجبكَ المكان؟ في الأصل، كنتُ أنوي تجهيز غرفتين، لكن لاري قالت إنّها لا تستطيع النوم دون أخيها.”
“حسنًا، المكان يعجبني إلى حدٍّ ما.”
“هذا يكفيني.”
أظهر الدوق تعبيرًا راضيًا، ثمّ حوّل نظره من الأطفال إليّ.
“الفتاة اليتيمة. ستبقين هنا لبعض الوقت أيضًا.”
“هل يُمكنني الإقامة هنا؟”
كنتُ أظنّ أنّه لن يسمح لي بالبقاء في نفس الغرفة مع الأطفال، ولهذا تساءلتُ، لكنّه لوّح بيده سريعًا.
“آه، طبعًا ليس هنا. هناك.”
في اللحظة التي شعرتُ فيها بشيءٍ من التأثّر، أشار بيده إلى بابٍ داخل الغرفة، وكأنّه يقول: لا تُبالغي.
“آه، صحيح…”
“لا أظنّكِ تظنّين أنّكِ ستسكنين هنا، أليس كذلك؟
رغم أنّ الأطفال يحبّونك، فإنّكِ تبقين طفلةً فقط.”
نعم نعم، أعلمُ ذلك.
“لهذا تفاجأتُ. ظننتُ أنّك تُظهر لي هذه اللّفتة كنوعٍ من اللطف.”
“لُطف؟”
“مجرد السماح لي بالبقاء هنا يكفي. أشكركَ.”
أومأت برأسي بلطفٍ.
كنتُ قلقة أن يُرسلني لمكانٍ آخر، لكن تبيّن أنّ قلقي لم يكن في محلّه.
فحتّى الغرفة الصغيرة المرفقة بهذه الغرفة تُعتبر لُطفًا في حدّ ذاتها.
لكن نظرة الدوق كانت غريبة قليلًا، وكأنّ شيئًا في تصرّفي أثار استغرابه.
كنتُ أظنّ أنّه سيبتعد فورًا، لكنّه استدار ناحيتي، ونظر في عينيّ مباشرة.
“أيتها الفتاة اليتيمة.”
“نعم؟”
“…ما اسمكِ؟”
أن يطلب اسمي فجأةً؟
لقد كان ذلك أكثر مفاجأة من طلبه أن أُقيم هنا.
كنتُ أظنّ أنّه لن يناديني سوى بـ “اليتيمة” طيلة حياتي.
“آه، فهمتُ الآن… هذا ما في الأمر.”
“عذرًا؟”
يتحدّث مع نفسه ثمّ يُقرّر بمفرده!
“لا اسم لديكِ، أليس كذلك؟
أجل، مفهوم. لا عجب. فتاةٌ يتيمة قد لا يكون لها اسم.”
“ليس كذلك.”
“هم؟ أليس كذلك؟ هل لديكِ اسم؟ لا داعي لاختلاق واحد الآن.”
يا الهي، إن أعطيتني مطرقةً سحريّة شفّافة، سأضرب بها هذا المغرور على رأسه بقوّة، لعلّه يُدرك ما يقول.
“لديّ اسم رغم أنّني يتيمة. اسمي ‘آيشا’.”
“آيشا، فهمتُ، أيتها اليتيمة.”
بعد أن سمع الاسم، ألم يكن الأجدر به أن يناديني به؟
ما فائدة أن يسأل إن كان سيعود لمناداتي بـ”اليتيمة”؟
حتى لو حاولتُ ألّا أنزعج، فلا يُمكنني أن أُظهر له إعجابًا.
“نعم، حسنًا.”
أجبتُ على مضض، ويبدو أنّ جوابي أعجبهُ، فقد بدا عليه الرضا.
“وهذا… هو لُطفي.”
“…آه، نعم.”
أن يسأل عن اسمي يُعتبر “لطفًا”!
وكأنّه يُحدّد بنفسه الفجوةَ بيننا، ليقولَ: “أنا فوقكِ بمراحل”.
❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀_❀
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً في واتباد وقناة الملفات،
حسابي واتباد : _1Mariana1_
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات