لكن، بدا واضحًا أنّ لدى رون الكثير ليقوله.
فهو ما زال غير قادر حتى على نزع نظره عنّا.
وظلّت زوجة الدوق تُحافِظ على تعابير وجهها طيلة الوقت، لكنها الآن بدت عاجزة عن ضبطها، فبان امتعاضها بشدّة، وربّتت على كتف رون في محاولة لتهدئته.
‘أنتَ غريبٌ’
ربما لأنّها لم تستطع توبيخ روهان صراحة، لذلك تصرّفت بذلك الشكل أكثر.
“حسنًا، فهمت. لكن مَن هذا؟ هذا المتشرّد أيضًا أخي؟ شعره حتى ليس بنفس اللون!”
أشار إصبع رون نحوي، وقد خفّت حدّة غضبه قليلًا بفضل تهدئة زوجة الدوق.
“هاه؟”
“أقصد ذاك! كم عدد الأطفال لديك أساسًا! إلى أيّ حد يجب أن أتحمّل؟!”
“آه. ذاك ليس كذلك. ليس من أبناء عائلتنا. التوأمان هما من أراد إحضاره، ولم يكن أمامنا خيار سوى أن نوافق.”
قد تبدو كلماتها لطيفة إذا قُرِئت حرفيًّا، لكن الواقع لم يكن كذلك أبدًا.
“ماذا؟ إذًا ما قصّته؟”
“مجرد طفلةٌ سيتم طردها قريبًا، فلا داعي لأن تشغل بالك به، يا بني. لا داعي للغضب، ولا حتى للاختلاط به.”
“……”
“إنه طفل دخل ليقتات على ما تبقّى.”
رون الذي كان يلهث غاضبًا لعدم قدرته على الردّ على لوهين منذ لحظة، ابتسم الآن بخفّة ورفع زاوية فمه.
“آه، إذًا هي مجرد متشرّدٍ.”
“نعم، فلا تغضب، حسنًا؟ إذا غضب ابني العزيز، فإنّ قلب أمّه سيتألم.”
“آه، حسنًا، حسنًا. سأتحمّل، فرحمتي واسعةٌ كالبحرِ، عليَّ أن أفهم كل شيء.”
هزّ رون رأسه وكأنه توصّل إلى نتيجة بمفرده بعد كل هذا.
كانت كلمات لا تستحقّ الردّ، وشعرتُ أنّه لا جدوى من التفاعل مع أشخاص مثلهم، وعندها، شدّ لوهين على ذراعي بقوّة أكبر من قبل.
“لنذهب. يجب أن نرى ما مدى روعة المكان الذي سيأخذنا إليه.”
حتى لاريز، التي كانت تراقب الموقف بصمت، بدأت تتحرّك.
“نعم، هيا يا أختي!”
“نعم، هيا بنا.”
أن يُبغِضك أحد.
ذلك الشعور لم يعد غريبًا عليّ.
حتى قبل أن أصبح آيشا وقبل أن أتحوّل إلى شخصية ثانوية في كتاب، كانت حياتي كذلك دومًا.
أن أُكرَه دون أن أفعل شيئًا.
دائمًا ما كانت أسباب الكراهية تافهة، لكن المعاناة الناتجة عنها لم تكن تافهة أبدًا.
كنتُ ضعيفة، كنتُ أتساءل دومًا: لماذا يكرهونني؟
لماذا أُكرَه؟
هل فعلتُ شيئًا خاطئًا؟
كنتُ ضعيفةً، ساذجةً، وسهلةَ الاستغلالِ.
‘لكن، حتى وإن كنتُ قد اعتدتُ الكراهية، هذا لا يعني أنّني لم أعد أتألم منها’
أن أُجرَح مرارًا حتى يبهت الألم، تلك كانت طريقتي الوحيدة في التحمّل.
وسأفعل الأمر نفسهُ هنا.
‘على الأقلِ، أعرف سبب الكراهية هذه المرة’
ولهذا، لست خائفة.
في الماضي، لم يكن لدي ما أُدافعُ عنهُ.
أما الآن، لدي ما يجب أن أُحافِظ عليه.
بعض الناس يقولون إنّ من لديه شيء يُريد حمايته، يكون أكثر خوفًا.
لكنني العكس تمامًا.
لوهين الذي كان يمسك بمعصمي، ولاريز التي كانت تتشبّث بي.
حين نظرتُ إليهما، عقدتُ العزم في قلبي من جديد.
فمنذ أن قرّرتُ أن أكون هنا معهما، أصبحتَ مشاعري أكثر صلابة.
“سأُرِيكِ غرفتي! غرفة لاريز ضخمة جدًا! لدرجة أنّ النوم وحدي فيها مخيف!”
كانت لاريز متحمّسةً جدًا، تلمع عيناها كأنها قد عثرت على كنز.
أما لوهين، فقد بدا عليه بعض الانزعاج من تصرّفاتها، لكنه استسلم في النهاية وتقدّمنا الطريق.
“لـ نلتقي لاحقًا.”
عندما كنا نغادر المكان الذي فيه زوجة الدوق ورون، لمحنا جيفري من بعيد، لوّح بيدهُ وهو يبتسمُ.
طبعًا، لا بدّ أن أنظر إليه.
“آه.”
ظننتُ أنّه يُخاطب لوهين أو لاريز، لكن، نظرات جيفري كانت موجّهة نحوي.
“أشعر أننا في موقفٍ متشابه.”
حين حدّقتُ به دون ردّ، اتّسعت ابتسامته أكثر.
نحنُ في نفس الموقف، رُبما نعم. ورُبما لا.
لم يكن لدي أيّ تعبير لأُظهره سوى وجهٍ جامد.
حتى لو تظاهرتَ باللطف، فأنتَ أيضًا ممّن سيؤذون أطفالي في المستقبل. انتهى أمركَ’
لا أحد في هذه العائلة أُريد أن أُكوِّن معه علاقةٌ.
لذلك، مررتُ بجانبه بثقة، دون أن ألتفت.
“لا تَتَقرّبي منهم.”
“هاه؟”
ما إن ابتعدنا قليلاً عن المكان، حتى فتح لوهين فمه وكأنه كان ينتظر اللحظة المناسبة.
“ذاك الشخص قبل قليل. بل، لا تَتَقرّبي من أيّ شخص في هذه العائلة. لا، بل كوني قريبة فقط منّا.”
“آه.”
ضحكتُ دون أن أشعرَ.
“هل أنتَ تغار؟”
قلتُها من باب المزاح، لكن ردّ فعله تجاوز توقّعاتي.
كنتُ أظنّه سيقول:
“طبعًا لا، مَن تكونين لأغار عليكِ؟”، لكنه بدلًا من ذلك، أومأ برأسه.
“يضايقني ذلكَ.”
“هاه…؟”
“يضايقني أن أراكِ تتقرّبين من الآخرين. لذا لا تفعلي.”
أنا، التي كنتُ أتوقّع العكس، وجدتُ نفسي مرتبكةً.
“آه… هه… لم أكن أعلم أنّك تشعر هكذا.”
“ليس لأنّني أقصد شيئًا آخر.”
وكأنّه أدرك متأخرًا ما قاله، فتجهّم وجهه ونظر إليّ بغضب.
“وإذا لم تكن تقصد شيئًا، فماذا تقصد؟”
“أعني…”
بدأ لوهين يتلعثم، ثم بعثر شعره المُرتّب يائسًا.
لكنه، حتى بعد كلّ ذلك، لم يجد ما يقوله، فقط عضّ شفتيه بعصبيّة، ثم صرخ:
“يعني! فقط! الناس هنا مزعجون. يضعون الآخرين في مواقف مُحرِجة! لا شيء يُعجبني فيهم. فلا تكوني غبية وتفرحي بلطفهم الكاذب.”
“هل تُفكّر بي إلى هذه الدرجة؟”
“لا. لا أفكر بكِ. فقط، هذا يُزعجني، هذا كل ما في الأمر! تعالي بسرعٍة!”
رغم انفجاره، إلا أنّه بدأ يمشي ببطء، يُطابق خُطانا.
كان يُتمتم، ومع ذلك، لم ينسَ أن ينظر خلفه بين حين وآخر ليُطمئِن أنّنا معه.
‘يا لهم من أطفال طيبين… طيبين إلى هذا الحدّ…’
ولذا، شعرتُ أنّ مسؤليتي أكبر.
حتى إن كانت جراحي من الماضي، فهُم سيتعافَون بسرعة.
أنا واثقةٌ من ذلك.
فأمسكتُ يد لاريز بقوة، وتبعتُ لوهين، وكنا خلفَ الدوق.
بعد أن مشينا، ومشينا، ثم مشينا أكثر، خلصتُ إلى نتيجة واحدة: هذا القصر ضخم بطريقةٍ مقرفة.
الكلمة “منزل” لا تفي بالغرض.
هذا المبنى أشبهِ بقصر ضخم.
وإن لم يكن شامخًا كالقلعة، فهو مؤلّف من أربعة مبانٍ ضخمة، بالإضافة إلى عدد لا يُحصى من المباني الفرعيّة.
وكلّ مبنى يتبع له حديقة ضخمة أيضًا…
“هاه…”
شعرتُ بالعرق يتصبّب من ظهري، وساقاي بدأتا تؤلمانني قليلًا.
رغم أنني لم أعش حياة مترفة في دار الأيتام، وكان لديّ قدر لا بأس به من التحمل الجسدي، لكن هذا… تجاوز الحدود.
“ما بكِ؟ متعبةٌ؟”
وكالعادة، كان لوهين أوّل من انتبه لتنهدّي.
أو ربما هو نفسه متعب، فأراد التحدّث معي.
“نعم. قليلًا.”
“الطفلة تعبت.”
يبدو أنّه متعب فعلًا، لأنّ صوته كان يرتجف قليلًا.
أما الدوق، الذي لم يُعِرني اهتمامًا عندما قلت إنني متعبة، فقد تجمّد وجهه بعض الشيء.
“وماذا في ذلك؟”
“إن كانت متعبةً، فأنا أيضًا مُتعب.”
“…….”
شعرتُ بنظرة حادّة من الدوق تخترقني.
كأنّه يقول: ‘من تكونين لأهتم بكِ؟’.
“لا، أنا بخير. لنُكمِل الطريق فقط.”
اليوم، لا أريد مشاكل.
نفِدت طاقتي منذ لحظة مغادرتنا لذلك المكان مع الدوقة.
كلّ ما أُفكّر به الآن هو الراحة.
لكن، وبينما كان يتأمّلني ويتأمّل لوهين بصمت، أدار الدوق بصره نحو الحُرّاس الذين يتبعونه.
ظننتُ أنّه سيتحدّث، لكنه فقط أومأ برأسه.
لم يقل شيئًا، ومع ذلك، وكأنهم فهموا أمرًا خفيًّا، اقترب منّا أحد الحُرّاس.
وتفاجأتُ، إذ حملني فجأة بين ذراعيه.
“هاه؟ هاااه؟!”
“هل هذا مناسب الآن؟”
“آه…”
كنتُ في غاية الدهشة، بينما ظلّ الدوق هادئًا وكأنّ شيئًا لم يحدث، ولوهين يُراقب الموقف بصمت.
“لنُكمِل السير.”
وكأنّه مرتاح تمامًا، مضى الدوق قُدمًا دون أن يُظهر أيّ تعبير على وجهه.
والحارس الذي حملني كأنني دمية، تبِعَه بنفس الإيقاع.
ومع كل خطوة، كان جسدي يرتفع ويهبط كأنني لعبةُ قُماش محشٌ.
التعليقات