في النهاية، نزلتُ من العربة بمساعدتهُ وأنا ممسكةً بيد لاري.
وفورًا، خطف بصري مبنى شاهقٌ ضخم، لم يكن من الممكن احتواؤه بنظرةٍ واحدة.
الفرق بين ما تصفه الكلمات وبين الواقع كان مذهلًا إلى حدٍّ لا يُصدَّق.
“واو…”
كنتُ أنوي كتم انبهاري، لكنّ تنهيدة إعجاب خرجت منّي دون أن أشعر.
“كم انتِ ريفيةٌ جاهلةٌ”
كما توقّعت، قالها لوهين بابتسامةٍ خفيفة، وهو يحدّق بي باستهزاء.
رغم أنّه بدا مذهولًا، إلّا أنّه لا يعترف بذلك.
“أُختي ليست ريفيّة! أُختي جميلة!”
ثم…
في تلك اللحظة التي كنّا نتبادل فيها الحديث، ركضت امرأة تنادي باسم لاري، وكأنّها كانت بانتظار وصولنا.
“لاري!”
امرأةٌ شقراء بشعرٍ مربوطٍ بعناية. حتى دون أن تُعرّف نفسها، عرفتُ من فورها من تكون.
هيلين.
دوقة بلير.
المرأة التي دفعت التوأمين إلى حافة الموت، والتي أسهمت في خلق الأشرار في الرواية الأصلية.
وكما في الرواية، ها هي تقترب من لاري متقمّصةً دور الأمّ الحنونة، خلف قناعٍ مزيف.
“عمّتي!”
أبدت لاري سعادتها فور رؤيتها، دون تردّد.
فهي لا تزال صغيرة، وتفتح قلبها بسرعةٍ لمن يُحسن إليها.
أصلًا، لم تكن لتتقرّب بهذه السهولة منها، لكن على الأرجح بسبب تحسّن علاقتها بي، اقتربت من الدوقة بسرعة.
“عمّة؟ قولي أمّي بدلًا من ذلك”
ابتسمت الدوقة بابتسامةٍ مثاليّة، كما لو كانت أمًّا حقيقيةً.
رغم أنّ الطفلة ليست ابنتها، إلّا أنّها انخفضت قليلًا نحو لاري وفتحت ذراعيها لاستقبالها.
“لا… هذا…”
“لستُ أطلب منكِ قولها الآن. لكن، إن أمكن لاحقًا، هل ستنادينني أمّي؟”
“هيه!”
تردّدت لاري في مناداتها “أمّي”، فاكتفت بالهمهمةِ.
وبينما كانت الدوقة تمدّ ذراعيها بتردّد، نهضت واقفةً، خيبةٌ ظاهرة على وجهها، لتكتفي بمداعبة شعر لاري بلطفٍ بيدٍ معتنى بها جيّدًا.
“يا لحُسنكِ، كم أنتِ محبوبة”
بابتسامةٍ صغيرة، بدا وكأنّ الدوقة واقعةٌ في حبّ الطفلة فعلًا.
في الواقع، لم يُذكر في الرواية الأصلية أنّ مظهرها كان شريرًا، لكنني كنتُ أتخيّلها دائمًا امرأةً قاسية وباردة.
غير أنّ ملامحها الحقيقيّة بدت طيّبة جدًّا.
وجهها مستديرٌ وصغير، وخدودها ممتلئة قليلًا رغم عمرها، مما جعل تقدير سنّها صعبًا. وكانت تبدو كمن يسهل خداعها.
ذلك كان الانطباع الأوّل عنها.
‘لكن، لا بدّ أن كلّ هذا تمثيل’
ربّما لأنّ وجهها البريء ذاك هو ما منع الناس من الشكِّ بها.
حتّى إنني بدأت أشعر أنّني شخصٌ سيّء لمجرّد شكوكي بها.
وبينما أنا غارقةٌ في أفكاري، انتقل بصر الدوقة من لاري إلى الدوق، ثم إلى لوهين.
تجاهلتني تمامًا، وكأنّني غير مرئيّة.
“أهذا الطفل…”
ما إن وقعت عيناها على لوهين، حتى ارتجفت عيناها قليلًا. ومن لا يعرف قد يظنّ أنّها تأثّرت برؤيته.
لاحظ الدوق ذلك، فنظر إليها ثم إلى لوهين.
“اسمه لوهين. قيل إنّه توأم لاري”
“توأم؟ إذًا، هل تعرفتَ عليهِ؟”
سألتها بصوتٍ مرتجف، وهي تحاول إخفاء مشاعرها، لكنّ الارتباك كان واضحًا.
“نعم”
كان الموقف غريبًا بالفعل. رغم أنّ الدوق كان يجيب عن كلّ سؤال، بدا عليه الانزعاج.
علاقتهما في الرواية دائمًا ما كانت معقّدة.
وكنت أظنّ أنّ شعوره بالذنب تجاه التوأمين هو السبب، لكن رؤية تفاعلهما الحقيقي أوحت بوجود ما هو أعمق.
في هذه الأثناء، اقتربت الدوقة من لوهين.
“يا إلهي… كنتَ قد أخذت لاري فقط، ولم أتخيّل أنّك كنتَ ذاهبًا لإحضار هذا الطفل أيضًا… كان بإمكاني المجيء معكَ…”
كانت عيناها ترتجفان وكأنّها وجدت طفلها الضائع.
“مرحبًا…؟”
لوّحت بيدها البيضاء في الهواء.
راقبها لوهين بصمتٍ، ثم ابتسم ساخرًا وهزّ رأسه.
“ماذا الآن؟ هذهِ شيءٌ أخر يجب أن أناديهُ بما يريدهُ؟”
“هاه…؟”
“لا أعتقد أني سأفعلِ ذلك. لا تتصرّفي وكأنّنا مقرّبون”
على عكس لاري، بدا لوهين حادًّا تمامًا. كمن زرع أشواكًا ليحمي نفسه من العالم.
“لا بأس. لا تناديني إن لم ترد. هذا حقّكَ”
“حسنًا. لن أفعل. كلّ من في هذا البيت مزعج”
اقترب منّي ومن لاري بـخطوةٍ كبيرة.
“لاري. لا تفكّري حتى في مناداتها أمّي. لا. لا تحاولي حتّى التقرّب من أيّ شخصٍ في هذا البيت. تعلمين… نحن فقط من نملك بعضنا”
عباراته جعلت ملامح لاري تتجمّد فجأة. ملامح كانت مشرقة طوال الوقت منذ أن التقينا.
“صحيح. نحن فقط… أنا وأخي… وأختي”
بدت وكأنّها تذكّرت تلك الحقيقة فجأة، فشدّت على ذراعي وانكمشت.
“لاري. لا بأس أن تفكّري بطريقةٍ مختلفة. كلّ من هنا هو في صفّكِ”
“…”
ربّما كانت معتادةً على هذه الطريقة من الإقناع، لكن هذه المرة، لم تنجح كلمات الدوقة.
نظرتُ إلى لاري التي بدأت تبتعد عنها، ثم ابتسمت ابتسامةً حرجة.
“صحيح. لم يكن هناك أحد… كُنّا وحدنا”
يبدو أنّها كانت تستمتع بوقتها هنا، لكنّها الآن بدأت تواجه الحقيقة.
وظهرت علامات الجرح على وجهها.
طفلةٌ في النهاية. كانت مليئةٌ بالذكريات السيئة.
ولهذا، احتضنتها بقوّةٍ.
“لا بأس… لا بأس. أنا أيضًا هنا الآن”
“نعم… أختي هنا معي”
ثم فقط، بدأت الدوقة تلتفت إليّ.
لكن نظرتها إليّ كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي وجّهتها للاري أو لوهين.
بدت حادّة، صارمة، كأنّها ترسم حدودًا واضحة.
“من هذه الفتاة؟”
صوتها ونبرتها كانا قاسيين. لا أثر للودّ.
“هذه الفتاة…”
“هل أنجبتَ طفلًا آخر من امرأةٍ أخرى؟”
تجمّد وجه الدوق فور سماعه كلمة ‘آخر’. بدا أنّه كان يُحاول الردّ بأدب، لكنه لم يعد قادرًا على كبح غضبه.
“كيف تتفوّهين بكلامٍ كهذا أمام الآخرين؟ أنتِ دوقةً!؟”
“كلامي واقعي. كان لديك زوجة وأبناء، لكنك جلبت طفلًا من امرأةٍ أخرى! فما مقدار التفهّم الذي تتوقّعه؟”
“… يكفي. وهذه الفتاة ليست ابنتي”
كان شعورًا غريبًا.
بدت الدوقة وكأنّها تكشف فضائح الدوق عمدًا أمام الجميع.
‘هل تفعل ذلك دائمًا؟ رغم أنّ علاقتهما أمام الناس لم تُذكر بأنها سيئة…’
في الرواية، لم يُكتب الكثير عن علاقتهما، لكن كان معلومًا أنّ الدوقة كانت تكره التوأمين، ولذلك حاولت التخلّص منهما.
لم تستطع قتلهم بسبب قوّة حياتهم الغريبة.
رغم ذلك، كانت تُظهر لهم معاملة جيّدة أمام الآخرين.
فخُدع بها الدوق، وعاش معها تحت تلك الكذبة.
لذا، كانت هذه اللحظة حيّةً أمامي بشكلٍ لا يُصدّق.
“إذًا… من تكون هذه الفتاة؟”
“طفلةٌ كانت برفقة لاري ولوهين. طلبا اصطحابها، لذا وافقت. لا علاقة لي بها”
“آه”
تنفّست الدوقة تنهيدةً قصيرة، وتبدّلت نبرتها قليلًا.
يبدو أنّها تكره المجهول. تُحبّ أن تُسيطر على كلّ شيءٍ.
“فهمتُ. لقد كنتُ حسّاسة مؤخرًا، وانفعلتُ دون قصد”
“…”
لكن حتى بعد اعتذارها، لم يُظهر الدوق أيّ تعبيرٍ على وجهه.
وكأنّه اعتاد على هذا النوع من المواقفِ.
التعليقات لهذا الفصل " 28"