“ما علاقةُ هذا بي؟!”
صرخ لوهين مجددًا بصوتٍ غاضب، لكن الدوق اكتفى بابتسامة جانبية وكأن الأمر مسلٍّ بالنسبة له.
“ولِمَ كل هذا الانفعال؟”
لما تكون هذه الكلمات موجّهة إلى ابنه، فهي تفتقر فعلًا لأيّ ملامحٍ من الحنان.
لكن لوهين لم يُبدِ أيّ اهتمام بتصرفات والده، بل كان منشغلًا تمامًا في تفريغ غضبه.
“ولِمَ تضع شرطًا يتعلق بي؟!”
“من يدري؟”
من غير المعقول أن يطلب أمرًا كهذا. لم يكن بوسعي سوى تحريك شفتيّ في ذهول وغيظ.
ظلّ لوهين يتصبّب توترًا طوال الطريق، ثم فجأة، وكأنه نسي ذلك التوتر، أخذ يرمقني غاضبًا.
“الطريقة التي أنادي بها أيّ شخص تعود لي وحدي!”
“صحيح. تعود لك وحدك، لوهين. إن كنت فعلًا تريد إبقاء تلك اليتيمة الصغيرة بجانبك، فكل ما عليك هو أن تناديني ‘أبي’.”
“هل جُننت؟ لم تأتِ طوال هذه السنواتِ ، تاركً لنا وحدنا!”
“كنت أعلم أنك لن تستطيع قولها. ولهذا وضعتُ شرطًا. لأتأكد ما إن كانت تلك الطفلة جديرة بالبقاء إلى جانبكما كحامية ومرشدةٍ، أو لا.”
كلماته مكسوّةٌ بالزخرفة، لكن من المستحيل فهم منطقه.
بل بصدق، كلما فكّرت بالأمر أكثر، لا أراه سوى إنسانًا في غاية السوء.
أن يُجبِر طفلًا على أمرٍ كهذا بدلًا من أن يحتضنه بمحبة؟
المشاعر لا تُفتَح بالقوة.
بل كلما زادت الضغوط، زادت معها المغاليق التي تُغلق القلب.
“هُوْف…”
“ما الأمر؟ صعبٌ عليكِ، أيتها اليتيمة؟”
بدا أن الدوق لاحظ تنهيدتي، فاستغل اللحظة ليبتسم من جديد.
“إن كنتِ تكرهين ذلك، فيمكنكِ الانسحاب الآن. ستأخذين بعض المال حين يملّ الأطفال منكِ، ثم تغادرين. فالدمية يجب أن تتصرّف كدمية.”
يا إلهي… إن كنتُ أملكُ حظًا ، فلتأتي مطرقةٌ بين يدي لأسحق بها رأس هذا الدوق!
كلماته مثيرة للاشمئزاز إلى درجة أنّ يديّ أخذتا ترتجفان.
لكني حاولت تهدئة نفسي قدر الإمكان، لأنني شعرت أن التوأم قد يلحظان ذلك.
“لا أفكر في الرحيل مطلقًا.”
“هوه… إذًا تنوين كسب قلب ابني؟”
قلب ابنك عليكَ أن تكسبهُ أنتَ، لا أنا.
رغبت في قول ذلك، لكن… الذي أمامي الآن هو الدوق. ولا مفرّ لي إن أردتُ البقاء مع التوأم. لذا، لم أملك سوى الإيماء برأسي.
“نعم، سأفعل.”
“تبدين واثقة.”
“حتى إن لم أكن واثقة، يجب أن أحاول!”
في تلك اللحظة، بدأ لوهين يضرب ذراعي بخفةٍ، وكأنه يريد أن يُظهر رفضه الشديد.
“حسنًا. شهرٌ واحدٌ سيكون كافيًا، أظن.”
“موافق. لكن، دعني أتأكد من أمرٍ واحد فقط. سموّ الدوق، يكفيك سماع كلمة ‘أبي’ فقط، صحيح؟”
للحظة، ارتجّت عيناه قليلًا.
“أم أنكَ تنوي تغيير كلامك الآن؟”
“ليس أمرًا مسلّيًا، هكذا.”
“على كل حال، بما أنك وعدت، فأنا أُعوِّل على التزامكَ!”
“…نعم، حسنًا.”
لأن حتى الفأر يحتاج إلى مخرجٍ للهروب، فقد وضعت لنفسي أدنى مستوى من الحماية.
ابتسمت، ثم أمسكت يد لوهين التي كانت لا تزال تضربني من القلق.
“أنا لن أفعلها.”
“أعلم، لوهين. أعلم أنك لستَ من يقول أمرًا كهذا.”
“إذًا، لماذا قلتِ أنكِ ستفعلين؟! ألغِي الاتفاق حالًا…”
ضحكت بخفةٍ لرؤية غضب لوهين.
“لا تقلق. إن لم يُفلح الأمر، سألعب وأغادرُ بهدوءٍ، لا أكثر.”
“لا! لا يُمكنكِ المغادرة! يجب أن تبقي بجانبي دومًا!”
“صحيح! أختي الكبرى يجب أن تعيش معنا للأبد! سأَتَـزَوَّج أختي الكبرى!”
بعد لوهين، جاء دور لاري لتُضيف بحماسٍ وجهلاٍ لغباءِ ما تقولهُ، لكنها في النهايةِ طفلةٌ جاهلةٌ بذلكَ.
وبالطبع، كانت كلماتها صادمة للدوق، الذي بدا على وجهه الارتباك، لكن لا أحد لاحظهُ.
التوأم لم يُلقوا إليه بالًا مطلقًا.
“غبي. حتى لو كنتُ أنا، هذا مستحيل…”
“لوهين. لا داعي للتفكير كثيرًا. إن لم ترد قولها، فلا تفعل. قلتُها دومًا، لن أُجبِركما على شيء.”
“…”
“وسموّ الدوق لم يقل إنه سيطردني.”
بدا وجه لوهين غير راضٍ على الإطلاق، فأرحت ظهري إلى المقعد.
“حسنًا، حان وقت النوم. لوهين، لاري، لننم.”
أمسكتُ بيد لوهين بإصرار، رغم أنه حاول سحبها، ثم أغمضت عينيّ عنوة.
لوهين، الذي قاوم في البداية، ولاري، التي ألقت بجسدها عليّ بسعادةٍ، سرعان ما استسلما للنوم وبدأ بالتنفس بعمق.
بالطبع، لا مجال لأن أنام في وضعٍ كهذا.
أغلقتُ عينيّ وتظاهرتُ بالنوم، لكن كل جزءٍ فيّ كان يصرخ بالبقاء يقِظًا.
فالرجل الجالس أمامي هو “الدوق المجنون”.
لا مجال لأن أُعطيه ولو ثغرةً واحدة.
‘رغم أنني بالفعل أعطيتُه واحدة…’
الشرط الذي قبلتُ به لأجل الأطفال ظلّ يتردّد في رأسي بلا توقف.
لولا وجود التوأم، لكنتُ قد قُتِلتُ لحظة نطقي بذلك الشرط.
‘أنا حقًّا مجنونةٌ…’
كلما تورّطتُ أكثر مع التوأم، شعرت أن حلمي بالعيش بهدوء وأمان يتبدد.
يبدو أنني من الأشخاص الذين لا يعيشون طويلًا لأنهم لا يتركون مكانًا إلا ويتدخّلون فيه.
لكن…
لا أستطيع ترك التوأم وشأنهم.
فهم مثل الأزهار البرية، تُدهس وتُعاود التفتح.
وإن بدَوا كزهورٍ قويّة، فهم في الحقيقة هشّون كزهور الدفيئة.
وربما… لهذا السبب أنا هنا.
“هاه…”
“إن لم تستطيعي النوم، فلا حاجة لإغلاق عينيكِ عنوة.”
لا أدري كيف سمع تنهدتي، لكن بدا أنه كان ينتظرها.
هل لا ينام هذا الرجل؟ فتحتُ عينيّ قليلًا لأنظر إليه، فكان ثابتًا كتمثال، لم يتحرك قط.
“لا، أنا ناعسة.”
“ممتع…”
“…”
قد يكون الأمر ممتعًا بالنسبة إليكَ، لكنّه ليس كذلك بالنسبة إليّ.
لكن، خشية أن أتجاوز الحد، أغمضتُ عينيّ مجددًا بإحكام.
وهكذا، واصلت العربة رحلتها.
لا أعلم إن كانت العربةُ تـُدرك ما يجري داخلها من فوضىَ، لكنها استمرت بالسير.
وأخيرًا، وبعد وقتٍ بدا لي طويلًا لدرجة أن ألمي من الجلوس تجاوز كل راحة، بدأت العربة تبطئ.
كان وقتًا مناسبًا للنوم، لكني لم أذق طعمهُ.
لقد شعرت فعلًا وكأنني جالسة على سريرٍ من الشوك.
“سنصل قريبًا. استعدّوا للنزول.”
من بين كل ما سمعته مؤخرًا، كان هذا أجمل ما سَمعتهُ.
صحيح أنني لن أرتاح في منزل الدوق، لكن على الأقل سأرتاح من هذه اللحظة.
فأنا بالكاد أستطيع التنفس.
أيقظتُ التوأم الذين لم يكونا مستعدين للاستفاقة.
“لقد وصلنا. استيقظا.”
“لم أكن نائمًا…”
بخلاف لاري التي استيقظت واحتضنتني، فتح لوهين عينيه وحدّق فيّ وهو يهزّ رأسه.
“أحقًّا لم تنم؟”
“نعم. لم أغمض عيني لحظة.”
لكنّ عينيه المتثاقلتين والهَميَة كذّبتا كلامه.
ومع أن الدوق معروف بأنه لا يملك مشاعر، إلا أنه بدا مأخوذًا بجمال ملامح لوهين وهو يتثاءب.
وابتسم بلا صوت.
بالطبع، وحدي من لاحظ ذلك.
“لكـن أنا ناعسةٌ…”
“إن كنتِ ناعسةً…”
تدخل الدوق فجأة في حوارنا، وكأنه يريد الانضمام إليه بأيّ ثمن. ولما تكلّم، التفتت إليه ثلاثة رؤوس دفعةً واحدة بدهشة.
كأننا جميعًا نتساءل: ولمَ تتدخّل الآن؟
ربما أدرك ذلك، فتنحنح بارتباك، ثم وقف بتصنّع.
“كنتُ فقط أنوي القول إنني أستطيع حملكِ إن كنتِ ناعسة. مع أنني أظن أنكِ لن تحتاجي لذلك.”
لا أحد يولد أبًا مثاليًا، والدوق خير مثال.
يبني جدرانًا بينه وبين الجميع، لكنه يحاول هدمها أمام أطفاله فقط.
بالطبع، لا أحد منهم استجاب له.
“لا داعي. أنا سأبقى ملتصقةً بأختي!”
“حسنًا، فليكن.”
ربما أزعجه تجاهلهم لعرضه، فتقدم نحو باب العربة المفتوح ونزل أولًا.
“هيا، انزلوا.”
“حسنًا.”
نزل لوهين أولًا، ثم نظر إلينا ونحن نتهيّأ للنزول. حينها، مدّ يده إليّ فجأة.
“خذي يدي.”
“أوه… هل تقلق عليّ؟”
“لا. فقط لا أريدكِ أن تتعثرين وتُسقطينني معكِ. إن لم تريدي، فلا بأس.”
كالعادة، كلماته جافّة.
لكن تصرفه كان غايةً في الرقةِ.
وعلى عكس توقعي، لم يسحب يده، بل ظلّ منتظرًا حتى أمسكتُها.
التعليقات