لأنّ الأمر ليس مجرّد تعرّض للإساءة وترك ذكريات سيّئة فقط.
كان الاثنان صامتَين لفترة طويلة.
كأنّهما ينظران لبعضهما ثمّ إليّ بوجهَين متشابهَين لدرجة يصعب معها التّمييز بينهما.
حتّى طول شعرهما كان متساويًا، ما جعل الأمر محيّرًا.
“يا أطفال…”
نظرتُ إلى الاثنَين الصّامتَين وابتسمتُ بشدّة حتّى كدتُ لا أرى شيئًا.
“لوهين، لاريز، هل كان هذا المكان بالنّسبة إليكما مجرّد مكان سيّئ؟”
عند هذا السّؤال، فتح الطّفلان فميهما في الوقت ذاته.
“لا.”
“لا.”
للحظة، بدا صوت الطّفلَين كأنّه صوت شخص واحد، متناغمًا تمامًا.
حتّى ملابسهما اليوم كانت متطابقة، ما جعل التّمييز بينهما أصعب.
“إذًا، يكفي ذلك. عيشا مع هذه الذّكريات.”
“على الأقل، ليست كلّ الذّكريات سيّئة، أليس كذلك؟”
“…”
“الحقيقة أنّني لم أنتبه إليكما مبكّرًا، لذا تسبّبتُ في بعض الذّكريات السيّئة… لكن تذكّراها على الأقل بطريقة جيّدة.”
لكنّ الطّفلَين ظلّا صامتَين.
نظرتُ إليهما ثمّ نهضتُ فجأة من مكاني.
“سأذهب لأحضر شيئًا. البطاطس… لم نتمكّن من شوائها، لكن سأجد شيئًا نأكله. ربّما بعض الشّوكولاتة.”
لو كنتُ علمتُ مبكّرًا، لكان ذلك أفضل.
كنتُ سأصطحبهما لرؤية الزّهور في الرّبيع، واللّعب في الماء صيفًا، وشيّ البطاطس في الثّلج شتاءً.
‘آسفة.’
كنتُ مجرّد آسفة.
كيف أعطيتهما ذكريات قليلة جيّدة كهذه وأطلب منهما ألّا يكونا سيّئَين في المستقبل؟
بينما كنتُ أخرج من الباب، شعرتُ بألم في صدري من هذا الأسف.
سمعتُ صوتَي الطّفلَين يتحدّثان بصوت منخفض، كأنّهما يتهامسان.
بسبب عزل الصّوت الجيّد، لم أسمع سوى همهمات غامضة.
لأنّني لم أستطع سماع كلامهما بوضوح، أردتُ الرّكض إلى المطبخ لإحضار شيء، لكنّ الحزن سيطر عليّ، فاتّكأتُ على الباب وسددتُ فمي.
لكي لا يُسمع صوتي.
‘في يوم ما بعيد جدًّا… إذا التقينا مجدّدًا، سأقول لهما: عيشا كما تشاءان.
سواء كنتم أشرارًا أو خفيّين، عيشا كما تريدان.’
لأنّكما لستما سيّئَين.
فقط لا تموتا، ولا تختلطا ببطلة الرّواية. هذا كلّ ما يجب فعله.
هذا كلّ ما أستطيع فعله لهما.
‘على الأقل سأكون مع لاريز لخمس سنوات أخرى، فلأجد في ذلك عزاءً.’
خفتُ أن أبكي إن بقيتُ ساكنة، فحرّكتُ رجليّ المرتجفتَين وركضتُ إلى المطبخ.
تلك اللّيلة، طلبتُ من لوهين أن ننام معًا للمرّة الأخيرة قبل رحيله، لكنّه رفضني بشدّة.
أردتُ قضاء اللّيلة الأخيرة معه، لكنّه قال:
“هل جننتِ؟”
لذا، كالعادة، نمتُ مع لاريز في سرير واحد.
كانت لاريز مضطربة بشكل غير عاديّ في أحضاني، وهدّأتُها حتّى غفوتُ قليلًا.
وأخيرًا، جاء يوم وداع لوهين.
استيقظتُ صباحًا وأنا نصف نائمة، فوجدتُ الطّفلَين قد استحمّا وارتديا ملابس متطابقة ووقفا أمامي.
“هل أنتما جاهزان؟”
لكنّهما بدَوْا أكثر كآبة من أيّ وقت مضى، واكتفيا بهزّ رأسيهما بصمت.
“لا تقلقا. ستلتقيان قريبًا. قد يستغرق الأمر بعض الوقت، لكنّكما توأمان. لاريز، ستبقين هنا؟ سأعود سريعًا.”
نظرتُ إلى لاريز التي كانت تمسك بدمية.
“أنا لست لاريز، أنا لوهين.”
هزّ لوهين رأسه بنبرة ألطف من المعتاد.
“أوه؟ حقًا؟ ظننتكَ لاريز بسبب الدّمية.”
“آه… لاريز أعطتني الدّمية. قالت لي أن آخذها.”
“آه، هذا منطقيّ. لاريز لطيفةٌ.”
ربتّ على رأس لاريز التي كانت تقف بصمت.
كانت لاريز اليوم أكثر عبوسًا من المعتاد، لكنّني افترضتُ أنّ ذلك بسبب فراق لوهين، فضممتها إليّ ثمّ تركتها.
“لا تقلقي. سأصطحب لوهين وأعود.”
“حسنًا.”
أومأت لاريز برأسها أخيرًا، فأمسكتُ بيد لوهين وخرجنا.
وفقًا للرّواية، كان الأرشيدوق سيصل صباحًا.
لم يُذكر وقت محدّد، لكن وُصِفَ أنّه بعد شروق الشّمس بقليل، جاء أناس إلى المخزن الذي كان التوأمان محتجزَين فيه منذ صغرهما.
كانوا يتفقّدون الغابة ويحدثون ضجيجًا.
كان لوهين دائمًا في الصّدارة يحمي أخته، فأُخِذَ بعيدًا، بينما لم يعرف الفرسان عن وجود لاريز المختبئة في المخزن، فتركوها وحيدة.
‘سيصلون قريبًا.’
أمسكتُ يد لوهين بقوّة وشعرتُ بنعومتها.
“لوهين.”
“نعم!”
“لا تقلق. كلّ شيء سيكون على ما يرام.”
“هل سيكون كذلك؟”
“نعم. وسيجدونكَ في النّهاية. حتّى ذلك الحين، سأعتني بلاريز جيّدًا. وأنتَ، عليك التأقلم هناك.”
أومأ وجهه الصّغير بقوّة.
“وتذكّر أنّ هذا المكان لم يكن سيّئًا تمامًا.
مديرة الملجأ التي أزعجتكما، الأصدقاء الذين جلبوا لنا وجبات خفيفة وملابس، المعلّمات اللواتي اهتممنا بكما خفية…
سأتولّى الانتقام من الجميع.”
“حسنًا!”
في الأيّام العاديّة، كان لوهين سيقول إنّه لا يهتمّ بذلك، لكنّه اليوم بدا كطفل عاديّ مع اقتراب الرّحيل.
وصلنا إلى تلّة بها أعلى شجرة في الملجأ.
كان الشّمس قد بدأت تشرق.
وكما في الرّواية، ظهرت عربة من بعيد تتّجه نحو الملجأ، تحيطها سحب الغبار.
“يبدو أنّهم قادمون.”
“هل هذه هي؟”
“نعم، لوهين. ألم أقل لك؟ ثق بي.”
أومأ الطّفل وهو يعانق دميته بقوّة.
“لا داعي للقلق. كلّ شيء سيتغيّر كما قلتُ.
استمتع هناك.
كُل طعامًا لذيذًا، وارتدِ ملابس جميلة.
مفهوم؟
وإذا أردتَ العودة، افعل ذلك بعد أن تستقرّ.”
ربّما بعد خمس سنوات.
خمس سنوات، طويلة وقصيرة في آن.
سأحمي لاريز خلالها، وعليك أن تتألّق كأمير الأرشيدوق.
“حسنًا، لا تقلقي.”
نظرتُ إليه وهو يبتسم، وحاولتُ تهدئة قلبي المرتجف.
اقتربت العربة بسرعة وتوقّفت أمام الملجأ.
خرجت المديرة والمعلّمات مذعورين.
لم يكن وقت الصّباح المعتاد، فكان الأطفال لا يزالون نائمين.
وقفنا نراقب من بعيد.
كانت العربة الفضّيّة مزيّنة بذئب أزرق يحمل سيفًا في فمه.
توقّفت العربة، وفتح بابها، ونزل منها رجل.
“سمعتُ أنّ ابني هنا.”
تحدّث الرّجل بلهفة، وكان مظهره يفوق التّوقعات.
شعر فضّيّ كأنّه منسوج من خيوط الفضّة، وعينان زرقاوان خاليتان من العواطف.
كان وسيمًا كأنّه تمثالٌ.
‘الأرشيدوق، والد التوأمَين الخفيَّين في الرّواية.
لم أتخيّل أنّه بهذا الجمال لأنّ وجهه لم يظهر على الغلاف.’
فركت المديرة عينيها وهي تخرج بشعرها المشعث.
“نعم، ماذا؟”
“اخفضي رأسك. هذا الأرشيدوق كيسامير.”
“الأرشيدوق… سموّه…! ما الذي أتى بكَ إلى هنا؟”
انحنت المديرة حتّى كادت رأسها تلمس الأرض، وتبعها المعلّمون.
أطلّ الأطفال من النّوافذ، لكن لم يخرج أحد بسبب الجوّ الثّقيل.
“سمعتُ أنّ ابني هنا. هل سأكرّر كلامي؟”
“لا، سموّه. لكن الأطفال هنا أيتام. لا يمكن أن يكون ابن سموّكَ بينهم…”
لم تكن المديرة تعلم أنّ التوأمَين ابنا الأرشيدوق.
لو علمت، لربّما حاولت التّفاوض معه.
لم تكشف الأرشيدوقة عن هويّتها، واكتفت بزيارات سرّيّة، لذا كان ردّ المديرة مفهومًا.
“ابحثوا عنه.”
“حاضر، سموّه.”
نظر الأرشيدوق حوله ببرود، بينما بدت المديرة مرتبكة.
اقتربتُ منهم ممسكة بيد لوهين.
توقّف نظر الأرشيدوق عندما رأى لوهين.
شعر فضّيّ وعينان زرقاوان، طفل يشبهه تمامًا.
“يبدو أنّني وجدته.”
حدّق الأرشيدوق في لوهين لفترة طويلة.
تقدّمنا نحوه، بينما كانت المديرة شاحبة وفمها مفتوحًا.
“ماذا؟ هذا الطّفل ابن سموّكَ؟”
التعليقات لهذا الفصل " 15"