52
ولادة التنانين – الجزء الثاني
◆◆◆◆
في نهاية رحلةٍ طويلةٍ وطويلة، التقت الفتاةُ بالتنين.
كان ذلك التنينُ هو التنينُ المقدس، الذي يحمل في جسدهِ شعلة الحياة، مصدرَ كل الكائنات.
كانت أنفاسُ التنينِ المقدس تُنبتُ الأشجارَ والنباتاتِ، وعندما يطأُ الأرضَ بقدميهِ، تتفجرُ من تحتها ينابيعُ الماءِ النقي، حيث تسبحُ الأسماكُ بحريةٍ.
كان لقاءُ الفتاةِ بالتنينِ مجردَ مصادفة، لكنها لم تخفْ منه، وظلّت إلى جانبه، جارةً وفيّةً لوحدته الممتدةِ منذ عصرِ الحكام.
ومع مرورِ الوقت، صار من الطبيعي أن يحبّ كلٌّ منهما الآخر.
قدّم التنينُ للفتاةِ قلبَه، وظهرت على جسدِها علامةُ التنين.
وكان ذلك كافيًا ليشعرَ التنينُ بالرضا.
لكنّ الفتاةَ، بصفتها بشرية، شعرتْ بالوحدةِ وبكت.
حياة البشر قصيرة.
وهي تعلمُ أنها حتمًا ستموتُ قبلَ التنينِ وتتركهُ خلفها.
الحيواناتُ، الأسماكُ، الحشراتُ، والبشرُ جميعهم، يحبّون خلالَ عمرهم القصير، ويتركونَ خلفهم دليلًا على حبهم.
حتى إن فَنِيَتْ حياتُهم، فإن دماءَهم تنتقلُ إلى الأجيالِ القادمة، وتستمرُّ دون انقطاع.
أرادت الفتاةُ أن تتركَ دليلًا على حياتِها مع التنينِ المقدس.
كان تنينُ اللهبِ المقدس كيانًا كاملًا بحدِّ ذاته.
لكن عندما نظرَ إلى الفتاة، أدركَ أن هناكَ جزءًا ناقصًا بداخله.
شعرَ أنّ تقديمَ قلبهِ لها وحده لم يكن كافيًا.
إلا أنّ اختلافَ هيئتَيهما كانَ عظيمًا، لدرجة أنهما لم يتمكّنا من تركِ ثمرةِ حبهما.
(الصفحاتُ متآكلةٌ بفعل الحشراتِ، ولا يمكنُ قراءتُها.)
تحوّل التنينُ المقدس إلى هيئةِ رجلٍ تشبهُ البشر.
وربما فعلَ ذلك لأنه كان يتوقُ إلى أن يحبَّ الفتاةَ كإنسان.
وهكذا، في أقاصي العالم، أحبّا بعضهما البعضَ بصمت،
ومن اتحادهما وُلد التنانين، كائنٌ يجمعُ بين الإنسانِ والتنينِ في جسدٍ واحد.
وحينما فنيت الفتاةُ، خلد التنينُ المقدس إلى النوم، متمنيًا السلامَ للبشرِ والتنانين.
ذابَ جسدهُ تدريجيًا كضباب،
ثم تحوّل إلى مطر، وسقط على الغلافِ الجوي، والأرضِ، والمياهِ، والأشجار، وكلِّ أشكالِ الحياةِ من حوله.
وإذا كان للروحِ أن تدورَ في حلقةِ الوجودِ، لتُبعثَ من جديدٍ في يومٍ ما،
فقد تمنّى حينها، أن يلتقي بالفتاةِ مجددًا.
سواء كان في هيئةِ تنين، أو إنسان، أو تنينٍ بشري.
أو حتى حشرة، أو سمكة، أو حيوان.
لا أحد يعلمُ بأيّ هيئةٍ سيولدُ من جديد.
ولكن…
ذات يومٍ، لا محالة.
(من “ولادة التنانين – الجزء الثاني”)
◆◆◆◆
كنتُ أقرأ بصوتٍ مسموعٍ من الكتابِ المهترئِ الذي فتحتهُ فوق طاولةِ الأرشيف.
أمامي، كان اللوردُ جزلهايد واللوردُ جود يجلسانِ منصتين.
“… يبدو أنَّ أهمَّ جزءٍ في القصةِ غيرُ واضحٍ بهذهِ الحالة.”
عند انتهاءِ القراءة، تنهدتُ بإحباط.
لكن اللوردَ جزلهايد ابتسمَ بهدوء، وكأنه يطمئنُني أن الأمرَ على ما يرام.
“لقد أحسنتِ بالعثورِ عليهِ، آنِه… الآن أصبح واضحًا أنَّ الأهم ليس ارتباطَ الإنسانِ بشريكه، أظنُّ أن هذا كافٍ لإقناعِ إيلباثوس.”
“هل تعتقدُ ذلك؟… ففي النهاية، لقد وُلد التنانينُ من اتحادِ الفتاةِ والتنينِ المقدس، لذا—”
لذلك، إذا لم يختلط دم البشر بدماء التنانين، ألن يستمر داء الحراشف في الانتشار فحسب؟
“أنا أيضًا أعتقد ذلك. ولكن، كيف يمكن لمثل هذا الكتاب المهم ألا يكون محفوظًا بشكل لائق؟ ماذا كان أفراد العائلة الملكية السابقة يفعلون طوال هذا الوقت؟ أشعر بالخجل حقًا.”
بما أن اللورد جود اعتذر للورد جزلهايد، فقد انحنيتُ بدوري معه احترامًا.
“في الواقع، عندما كنتُ صغيرة، قرأتُ هذا الكتاب هنا في هذا الأرشيف. لكنني كنتُ أظنه مجرد قصة خيالية كتبها أحدهم، لذلك لم أدرك أهميته حينها.”
“لقد مرَّ زمن طويل منذ انقطاع التواصل بين البشر والتنانين، لذا ليس من الغريب أن تُنسى مثل هذه الأساطير. في الماضي، أشعل التنانين الحروب وأذاقوا شعب المملكة المعاناة، ولذلك تم إحراق جميع القصص والسجلات المتعلقة بهم. من المدهش أن هذا الكتاب نجا من ذلك.”
قال اللورد جزلهايد بصوت هادئ.
حدقتُ في وجهه الحاد الملامح.
تنين العصور القديمة كان تنين اللهب. وبعد أن أنهى النزاعات، أخذ التنانين وغادر هذه البلاد، وكان يُعرف باسم إمبراطور اللهب.
واللورد جزلهايد أيضًا… إمبراطور اللهب.
إذا كان ما كُتب في هذا الكتاب صحيحًا…
إذا كان تنين العصور القديمة قد وُلد من جديد كإمبراطور اللهب، ثم عاد ليتجسد مجددًا في هيئة اللورد جزلهايد…
فإن التنين المقدس لا يزال يبحث عن الفتاة التي وهبها قلبه ذات يوم.
وإذا كان هذا صحيحًا، فعندما تظهر تلك الفتاة، قد لا أعود ذات أهمية بعد الآن.
شعرتُ بقلقٍ بارد يزحف من أعماق صدري.
عندما قرأتُ هذه القصة في طفولتي، كنتُ مأخوذة بسحر بناء العوالم ومتعة الخيال.
لكن الآن، أشعر وكأن زهرةً قد تفتحت لتذبل وتذوي في الحال، يغمرني شعور ثقيل بالكآبة.
ليس هذا وقت التفكير في أمور كهذه، ومع ذلك…
“لا داعي لأن تبدو ملامحكِ حزينة، آنه. …المعلومات المفقودة تتعلق بطريقة تحول التنين إلى هيئة بشرية. يبدو أن التنين المقدس والفتاة توصلا إلى هذه الطريقة، مما سمح له بأن يصبح إنسانًا. في النهاية، من الصعب على التنين أن يرتبط بالبشر وهو على هيئته الأصلية.”
“هذا صحيح، فحجم كلٍّ منهما مختلف تمامًا.”
عندما قال اللورد جزلهايد ذلك وهو متأمل، أومأ اللورد جود بجدية بالغة.
أتمنى أن يتحدثوا عن هذه الأمور عندما لا أكون حاضرة!
لم أعرف كيف يجب أن أتصرف، فاحمرّت وجنتاي، وخفضتُ نظري محاولًا إخفاء احمراري.
“…لا أحد يعلم إن كان المولود من اتحاد إنسانٍ وتنين سيكون تنينًا أم إنسانًا. تمامًا كما لا يمكن التنبؤ إن كان سيفقس من البيضة تنين أم إنسان. لكن الأهم ليس ذلك. بل كيف تمكن التنين المقدس من اتخاذ هيئة بشرية كي يكون مع الفتاة التي أحبها.”
بعد أن ألقى اللورد جزلهايد عليّ نظرة تحمل ابتسامة خفيفة، أشار بإصبعه الطويل إلى الجزء الذي أتلفته الحشرات من الكتاب.
“الواقع أن هناك بالفعل أطفالًا مصابين بداء الحراشف، أليس كذلك؟ ربما يكون الارتباط بالبشر أحد الحلول، لكنه لن ينقذ التنانين المصابين، ولا الأزواج من التنانين الذين يرغبون في إنجاب أطفال. لذا، إذا تمكنا من معرفة كيفية تحول التنين إلى إنسان… فقد يكون ذلك هو الحل لإنقاذهم.”
عند كلمات اللورد جود، أومأ اللورد جزلهايد موافقًا.
“أنت محق. أشكرك على تعاونك، ايها الملك.”
“لا أستطيع فعل أكثر من هذا. لكنني آمل أنه من خلال العلاقة بين آنِّيريا وجلالة الملك، يمكننا فتح أبواب المملكتين لبعضهما البعض مجددًا. …بالطبع، يجب علينا التفكير جيدًا في كيفية ضمان عدم تكرار النزاعات الماضية. لكنني، إن أمكن، أود أن أمدّ يدي إلى التنانين مجددًا، وأن نسير معًا نحو مستقبلٍ مشترك.”
“إنه لأمرٌ محمود. ثمَّ… أيها الملك جود، بخصوص هرقل الثالث الذي يعيش في غابة الإمبراطورية…”
“هرقل الثالث؟”
فتح اللورد جود عينيه بدهشة.
ذلك لأنَّ هذا هو اسم خنفساء شقيق آنِّيريا، لذا فمن الطبيعي أن يكون الأمر غامضًا عليه.
“إنها تشير إلى الخنفساء التي تعيش في غابة الإمبراطورية. إنها كبيرة جدًّا… ونظرًا لأن النبلاء يحبون اقتنائها، ولأنها تُباع بأسعار باهظة، يبدو أن الصيادين غير الشرعيين من المملكة يتسللون إلى الغابة ويصطادونها دون إذن.”
“هذا… مؤسف حقًّا. لم أكن أعلم بذلك، فأنا لا أحب الحشرات. صحيح أن بعض نبلاء المملكة وأثريائها يهوون اقتناء الخنافس. جلالتك، أعتذر بشدة على هذا الأمر. سنقبض على هؤلاء الأفراد فورًا، وسنتخذ بحقهم إجراءات صارمة.”
قال اللورد جود ذلك بصوتٍ شاحبٍ إلى حدٍّ ما، بينما انحنى معتذرًا.
لطالما كان اللورد جود يكره الحشرات منذ صغره، رغم أنه يحب الأزهار والمجوهرات.
كنتُ أظن أن الخنافس قد تكون استثناءً، لكن يبدو أنه يكرهها أيضًا.
“لا داعي لاتخاذ أي تدابير صارمة. إنها مجرد خنافس في النهاية. أيها الملك جود، لقد منحتني المملكة آنِه، وليس لدي أي نية لإعادتها. لذا، وبما أن الأمر كذلك، سأسمح لأهل المملكة بصيد الخنافس. لكننا سنضع اتفاقًا رسميًّا بشأن ذلك، وسأرسل إليكم وثيقة رسمية حتى لا تحدث أي مشاكل مستقبلًا.”
“…آنِّيريا تبدو سعيدة جدًّا. وبالنسبة لي، فهي كأختٍ صغيرة. لذا، لا يسعني سوى أن أكون ممتنًّا لرعايتك لها، لكنني لا أستحق أي شكرٍ على ذلك…”
“إذًا، علاقة الملك جود بآنه قائمة على رابطةٍ شبيهة بروابط الأشقاء؟”
“نعم. آنِّيريا فقدت والديها في سنٍّ مبكرة، لذا قام والداي باستقدامها إلى القصر لتنشأ معي، وتلقينا التعليم معًا. لهذا، يمكن القول إننا كبرنا معًا منذ الطفولة… وكنا نلعب معًا كثيرًا.”
“هكذا إذًا… لقد كدتُ أشعر بالغيرة للحظة، لكنني سعيد بسماع ذلك.”
“آنِّيريا كانت في صغرها تضع الحشرات التي أكرهها على يدي، وتعرضها لي، بل وكانت تفتح أمامي موسوعة مليئة بصور الحشرات المقززة. لم تكتفِ بذلك، بل كانت تمسك بالسحالي وتقول إنها لطيفة… صحيح أنني أعتبرها أختًا، لكنها ليست كأنثى في نظري.”
اتخذ اللورد جود تعبيرًا يوحي بالاشمئزاز الشديد.
هل فعلتُ ذلك حقًّا؟
لا أذكر ذلك جيدًا… ربما فعلت.
في ذلك الوقت، كنتُ أكثر اهتمامًا بالحشرات والسحالي وحتى ألعاب الجمباز الحيوانية أكثر من اللورد جود، لذا لا بد أنني نسيت.
ثم إنني لم أكن سوى فتاةٍ تلعب بمفردها في الحديقة، وهو من اقترب مني أولًا، فلماذا يشتكي الآن؟
عندما سمع اللورد جزلهايد حديث اللورد جود، ارتسمت على وجهه ابتسامة بدت وكأنه كان يشعر بالسرور.
أيمكن أنه كان يشعر بالغيرة طوال هذا الوقت؟
يا إلهي…
إنه يبدو لطيفًا جدًّا.
لقد بدَّدَت هذه اللحظة كل مخاوفي التي كانت تملأ صدري قبل قليل.
“هذا مطمئن. …كنت أود تقديم شيء أكثر لائقًا كهدية شكر، لكن هذا ما خطر ببالي الآن. ثم إن غابة الإمبراطورية تعجُّ بالحيوانات المفترسة، لذا إذا حددنا موسم الصيد بشكل رسمي، فسيتمكن جنودنا من حماية الصيادين أثناء وجودهم هناك.”
“أشكرك، جلالتك. أقدر لك لطفك وكرمك.”
بعد ذلك، اقترح اللورد جود أن نبقى لتناول الطعام والمبيت،
لكن اللورد جزلهايد رفض بلطف، مفضلًا العودة إلى الإمبراطورية في أقرب وقت.
كنت أشعر بنفس الشعور، فالأمور لم تُحَل بعد، ولم يكن الوضع مناسبًا لقضاء الوقت بطمأنينة.
إضافة إلى ذلك، كان قصر الإمبراطورية أكثر ألفة وراحة لي من قصر المملكة.
وهكذا، امتطيت ظهر اللورد جزلهايد، وعدنا في طريقنا إلى الوطن، حاملين معنا كتاب “ميلاد التنانين – الجزء الثاني”، وكتاب “دليل تربية الخنافس”.
المترجمة:«Яєяє✨»