35
—
**35 ماضي إمبراطور اللهب**
في وقتٍ ما، اشتدّ هطول المطر.
من خلال النافذة الكبيرة التي تؤدي إلى الشرفة المفتوحة، امتدت المناظر البيضاء الضبابية إلى ما لا نهاية.
كانت الشرفة مبللة، والمطر الغزير يتساقط على برك الماء الرقيقة، محدثًا تموجات صغيرة تتلاشى بسرعة.
رغم المسافة بين الشرفة والغرفة، لم تكن هناك ريح تحمل المطر إلى الداخل.
استلقيت على السرير، أستمع لصوت المطر، بينما أسبح بين اليقظة والنوم.
“أنا أحب الأيام المشمسة… لكنني أحب أيضًا أيام المطر. عندما تمطر، أبقى في الغرفة وأبني مع إلجيريل ملجأً سريًا لنلعب فيه.”
“يبدو أن لديكِ الكثير من الأشياء التي تحبينها، آنِه. ما هو هذا الملجأ السري؟”
كان جزلهايد-ساما يمرر أصابعه بلطف فوق العلامة التي نُقشت على صدري، وكأنه يتأكد من وجودها.
دون أن أشعر، حلت ليلة جديدة، ثم أتى الصباح.
عندما استيقظت، كان جزلهايد-ساما يطعمني الفاكهة ويسقيني الشاي المثلج، معتنيًا بي برفق.
شعرت بالامتلاء فلم أستطع تناول الكثير، ثم عدت للراحة في السرير، إذ لم يكن لدي طاقة للنهوض.
“الملجأ السري… إنه مثل مخبأ صغير. كنا نختار غرفة داخل المنزل، ونملؤها بالبطانيات والحلوى والألعاب، ثم نختبئ بداخلها.”
“لكن الغرفة داخل المنزل ليست مخبأً حقيقيًا، أليس كذلك؟”
“الأمر ليس بهذه الجدية، إنه مجرد جزء من اللعب. تمامًا كما هو الحال مع هذا الجناح المنعزل… الجميع يعلم أننا هنا، أليس كذلك؟ ومع ذلك، نشعر وكأننا مختبئان هنا بمفردنا، لا أحد يستطيع إزعاجنا… ألا تعتقد أن هذا يجعل المكان مميزًا للغاية؟”
“أجل… لا أحد هنا ليُفسد الأمر، وكأننا في عالمنا الخاص.”
ابتسمتُ عندما سمعت كلماته، وشعرت بدفء غريب يغمرني. لم أكن أعلم أن مجرد حديث بسيط عن الطفولة قد يحمل هذا الشعور الخاص.
—
كان صوت المطر مريحًا، فاستسلمتُ له مستلقيةً على الفراش، أشعر بالخمول والإرهاق، وأغمضتُ عينيّ بنصف وعي.
لكن، بسبب الكلمات التي قالها جزلهايد-ساما بصوته العميق المليء بالدفء، استعدتُ وعيي بالكامل.
“أنتِ لطيفةٌ جدًا، آنِه.”
قال ذلك بابتسامةٍ تعلو شفتيه.
هل كان يمازحني؟ ربما.
شدّ يدي المتشابكة معه، ورفعها برفق ليطبع قبلةً خفيفة على ظاهر كفي.
“متى كانت آخر مرة شعرتُ فيها بهذا الهدوء وهذا الامتلاء بالسعادة؟”
“أليس التنانين متسامحين فيما يخص العلاقات العاطفية؟ لا بدّ أنّ جزلهايد-ساما قد مرّ بتجارب مماثلة من قبل، أليس كذلك…؟”
لم أكن أشعر بالغيرة تحديدًا، لكن كلماته حملت مسحةً من الحزن جعلتني أرغب في السؤال دون وعي.
الآن بعد أن فكرت في الأمر، أدركت أنني لا أعرف الكثير عن ماضيه.
هل هذا أمرٌ ضروري؟ ربما لا.
أنا أحبّ جزلهايد-ساما، وهذا وحده يكفيني.
لكن، رغم ذلك، لم أستطع منع نفسي من طرح السؤال.
“هل يهمّكِ الأمر، آنِه؟”
“إذا لم ترغب في الحديث، فلا بأس… أعلم أنّ شخصًا بمكانتك لا بدّ أن يكون له ماضٍ حافل.”
“قولي فقط إنكِ تغارين.”
قال ذلك بصوتٍ خافت، ثم شدّني أكثر ليضمني بين ذراعيه، وكأنه لا يريد أن يتركني أبدًا.
“بالطبع يهمّني… ولو كان هناك شخصٌ آخر شاركك مشاعرك في الماضي، فلا شك أنني سأشعر بالغيرة.”
عندما قلت ذلك، شعرتُ بصدره يهتزّ قليلًا، ربما كان يضحك.
“أنتِ لطيفةٌ جدًا، آنِه.”
“الماضي قد انتهى، لكن لو ظهر شخصٌ آخر جذب اهتمامك في المستقبل، فسأغار بالتأكيد. أنا لستُ فتاة متسامحة إلى هذا الحد، ولا أملك قلبًا نقيًا كما تعتقد.”
“أنتِ نقيّةٌ بما يكفي. لكن، لا داعي للقلق، فلن يحدث ذلك أبدًا. ورؤية غيرتكِ أمرٌ يسعدني.”
“ألستَ تعتقد أنني فتاة مزعجة؟”
“أبدًا. أنا من شعر بالغيرة حتى من الخنفساء الصغيرة التي كنتِ تعتنين بها بحبّ.”
كان يقصد “كابوجيرو”، الخنفساء التي منحني إياها.
لم يكن يبدو عليه ذلك أبدًا، لكنه الآن، في هذا المكان، يبدو أكثر تعبيرًا عن مشاعره من أي وقتٍ مضى، وكأنه تحرر من قيوده القديمة.
شعرتُ أن كل هذا الوقت، كان يحاول أن يكون لطيفًا معي دون أن يؤذيني.
مرّرتُ يدي خلف ظهره، وأرحتُ رأسي على صدره.
خفقان قلبه كان أسرع بقليل من المعتاد، مما جعلني أبتسم بهدوء.
“أنا لا أحبّ سوى جزلهايد-ساما… أعني، أحبّك بكل ما تحمله الكلمة من معنى.”
“أنا أيضًا، آنِه… لم أكن أحب التعامل مع الآخرين كثيرًا في الماضي. لم يكن لدي أصدقاء مقرّبون، ولا حتى شخص يمكنني تسميته حبيبة. لم أشعر أبدًا بهذا الإحساس بالحب تجاه أحد… إلا تجاهكِ، آنِه.”
“جِيزِيهْ سَامَا…”
شعرتُ بالسعادة، لكن في ذات الوقت، انتابني شعور بالحزن الطفيف.
مددتُ يدي لأمررها على شعر جِيزِيلْهَايْدْ سَامَا، وعندما مررتُ أصابعي بلطف خلال خصلاته الطويلة السوداء اللامعة، أغمض عينيه قليلاً وكأنه يستمتع بلمستي.
“عندما وُلِدتُ، ماتَتْ والدتي. ربما لأنني كنتُ أملك طاقةً سحريةً أقوى مما يُحتمل. لقد وُلِدتُ كَتِنِّينٍ مُغطّى باللهب— هذا كان شكلي عند ولادتي، على ما يبدو. لم أستطع التحكم في قوتي، فمزّقتُ جسد والدتي أثناء خروجي إلى هذا العالم.”
“هذا فظيع…”
“لا تنظري إليّ بتلك النظرة، آنِه. لم أعد أشعر بشيء تجاه ذلك، كما أن هذا كان مجرد كذبٍ رَوّجه والدي. في الحقيقة، كانت والدتي صغيرة الحجم مقارنةً ببقية التنانين، ولم يكن جسدها قادرًا على تحمّل الولادة. ومع ذلك، لم يستطع والدي تحمّل فقدان حبيبته، فحمّلني الذنب، وفي الوقت نفسه، شعر بالخوف مني.”
“والدكِ…؟”
“لم يكن الأمر كله خطأه. صحيحٌ أنني كنتُ أتمتع بقوةٍ تفوق باقي التنانين. لكنها كانت قوةً زائدةً عن الحاجة… كان لديّ سمعٌ وبصرٌ حادّان للغاية، وكانت حواسي الخمس كلّها أكثر حساسيةً مما يجب. كنتُ أسمع وأرى أشياءً تحدث بعيدًا عني، كأنني موجودٌ في المكان نفسه.”
كان جِيزِيلْهَايْدْ سَامَا قد أخبرني من قبل أن التنانين تملك حواسًا قوية، لكن يبدو أن قدراته تفوقهم جميعًا.
إذا كان يستطيع سماع ما يُقال عنه في غيابه، وسماع الهمسات والثرثرة التي تدور خلف ظهره، فلا بد أن الأمور لم تكن سهلة عليه.
لابد أن ذلك كان… مؤلمًا للغاية.
“عندما كنتُ أروي لوالدي ما أسمعه وأراه، كان ينظر إليّ كما لو كنتُ شيئًا مرعبًا. بالنسبة لي، كنتُ أعتقد أن ما أفعله طبيعي، لكن بالنسبة له، كنتُ وحشًا غريبًا. وهكذا، بدأ يصفني بالمسخ.”
“لكن… ألم يكن عليه أن يحميك؟ لقد كنتَ مجرد طفل…”
“لو كنتِ بجانبي آنذاك، لما أصبحتُ شخصًا مُعقدًا كما أنا الآن.”
“لكنّك لا تبدو مُعقدًا بالنسبة لي، جِزِيهْ سَامَا.”
“هذا لأنكِ طيبةٌ جدًا، آنِه.”
كأنه يريد تجنّب الحديث عن طفولته القاسية، غطّى وجهه بشعري وعانقني بقوة.
“أعتقد أنه كان يخشى فقدان مكانته أيضًا. لهذا، لم يتردد في نعتي بالمسخ.”
كان جِزِلْهَايْدْ سَامَا يتحدث عن ماضيه وكأن الأمر لا يعنيه، لكن ذلك جعلني أشعر بمزيدٍ من الحزن.
“وفي النهاية… أنا من سلبه مكانته. كنتُ في العشرين من عمري، أي قبل نصف عام من تنصيبي كإمبراطور، عندما استدعاني والدي وقدم لي كأسًا من الشراب. أدركتُ على الفور أنه كان مسمومًا. نبضه كان غير منتظم بشكل غريب، ورائحة الشراب كانت غريبة، ولم يكن قادرًا على إخفاء ارتباكه.”
“هذا… فظيع…”
“لستُ متأكدًا من ذلك. أنا في الحقيقة… شخصٌ خطير. لم يكن أمامه سوى التخلص مني. كان طبيعياً أن يحاول قتلي. لكنه لم يعلم أن السمّ لن يكون كافيًا. وعندما رأى أنني لم أمت، شعر بالذنب أو ربما بالخوف من انتقامي… فشرب هو أيضًا من نفس الكأس، ومات أمامي.”
“لا بد أنه كان أمرًا قاسيًا…”
“لا أذكر كيف شعرتُ حينها. ولم أعد أكترث بالأمر. لأنني الآن، أملك شيئًا أثمن… أملككِ، آنِه. ما دمتِ تحبينني، فإن ماضيّ لا يعني شيئًا بعد الآن.”
“لكن…”
“كل ما في الأمر أنني أردتُ أن أخبركِ… أنه لم يكن لديّ أي شخصٍ في الماضي. لم يكن لديّ أحدٌ أحبّه. كنتُ أريدكِ أن تعرفي ذلك، آنِيه. منذ اللحظة الأولى التي رأيتكِ فيها… رغبتُ فيكِ.”
كيف لي أن أعبّر عن شعوري تجاهه؟
أشعر أن الكلمات لا تكفي.
“أحبك” و”أعشقك”… مهما كررتُها، ستبقى مجرد كلماتٍ تتلاشى فور خروجها من شفتي.
طبعتُ قُبلةً على خدّ جِزِلْهَايْدْ سَامَا.
ما زال المطر يهطل…
ولكني كنت سعيدة في احضان حبيبي.
المترجمة:«Яєяє✨»