1
سيرفينا ريختر كانت ضعيفة القلب.
إلى أي درجة كانت ضعيفة؟ لدرجة أنها بقيت حبيسة غرفتها لأكثر من ثلاثة أشهر بعد زواجها من دوق ريختر، الذي يُلقب بـ”وحش الشمال”.
جلست وحيدة في غرفة مغلقة الستائر، ملتفة بالأغطية، لا تفعل شيئاً سوى النوم.
أحياناً كانت تستيقظ لتأكل ثم تعود للنوم مجدداً.
كانت تبدو في غاية الضعف والخمول.
الوحيد الذي كان يثير فيها أي ردة فعل عاطفية هو زوجها، دوق ريختر، حيث كانت ترتعب عند رؤيته وتتجنب النظر إليه.
على عكس أهل الشمال ذوي البنية الضخمة والعضلية، كانت السيدة الجديدة بيضاء وهزيلة، وكانت تزداد شحوباً ونحولاً يوماً بعد يوم.
خدم قصر ريختر كانوا يشعرون بالشفقة تجاهها.
“لا بد أنها تعاني كثيراً بعد أن اعتادت شمس الجنوب الساطعة، وها هي الآن تعيش تحت سماء الشمال الكئيبة.”
ولم يكن هذا كل شيء.
في الحقيقة، كانت قد نُبذت من قبل عائلتها.
ففي أرجاء الإمبراطورية، بما فيها العاصمة، كان دوق ريختر يُعرف بـ”الوحش”.
رجل ملعون بلعنة الوحوش.
وحش قاسٍ.
دوق الوحوش.
لم تكن هناك امرأة ترغب في الزواج من رجل كهذا.
أي والدين يحبّان ابنتهما، كان من الطبيعي ألا يرسلوها إلى “دوق الوحوش”.
ولذلك، كانت سيدات بيت ريختر على مر الأجيال نساءً تم “بيعهن” حرفياً إلى هناك.
كانت العائلة المالكة تدفع ثمناً كافياً لتضمن بقاء نسل عائلة ريختر، وتُباع العروس بعد أن تتخلى عنها عائلتها.
فكيف لا يُشفق أحدهم على هذه السيدة المسكينة؟
فتاة باعتها عائلتها، لتصبح زوجة لوحش، وتذبل في برد الشمال القارس.
لكن، لم يكن الجميع يشعر بالشفقة نفسها.
“لكن، أليست مبالغة؟”
“في ماذا؟”
“في السيدة، أقصد. كأنها لا تعتبرنا بشراً. الدوق ليس مخيفاً كما يقولون، لكنها ترتعد كلما رأته وكأنه وحش حقيقي.”
“شش، سيينا. أحدهم قد يسمعك.”
كانت ماري تحاول إسكات سيينا، لكنها في أعماقها كانت تتفق معها.
رغم الشفقة والحزن، كانت مشاعرها مختلطة.
فكخادمة عملت طويلاً في قصر ريختر، كان من الغريب والمزعج أن ترى إنسانة ترتعد من الخوف وتفقد الرغبة في الحياة هكذا…
كأنها إحدى الخادمات المسجونة مع الوحش في قصة خرافية.
بينما في الحقيقة، هم مجرد خدم عاديين يعملون برواتب جيدة ومزايا مرضية.
لكن هذا الانزعاج لم يدم طويلاً.
فعندما ترى وجه السيدة الشاحب وعينيها الخافتتين يوماً بعد يوم…
“أتمنى فقط أن تتأقلم قريباً.”
كان كل ما يمكنك فعله هو التمني لها ذلك.
ثم، بعد فترة قصيرة.
تذكرت ماري دعاءها وهي ترى المشهد أمامها.
“هل كنت أدعو بإلحاح شديد؟”
لا، لم تكن تدعو بإخلاص حتى.
كانت مجرد أمنية عابرة: “آه، ليتها تتأقلم بسرعة.”
ولكن، لماذا…
“ماري، النبات الذي زرعته بنفسـي قد نبت! يا إلهي، أنا فخورةٌ جداً. أيععل أنني أملك موهبة في زراعة الأعشاب؟”
…كيف وصلت إلى هذه المرحلة من التأقلم؟
نظرت ماري إلى السيدة وهي تجلس في زاوية الحديقة.
ترتدي فستاناً بسيطاً كالذي تلبسه الفتيات العاديات، وقبعة قش تبدو وكأنها وجدتها على الطريق،
تنتعل جزمة مطر بدل الحذاء، وترتدي قفازات حريرية متسخة بالطين، وبيدها مجرفة صغيرة.
بداية هذا التغير العجيب تعود فقط إلى ثلاثة أسابيع مضت…
—
رأيتُ حلماً.
كان حلماً من طفولتي، تلك الطفولة التي نسيتها منذ زمن.
عندما كانت أمي وجدتي لا تزالان على قيد الحياة، قبل أن أُرسل إلى والدي البيولوجي، الكونت أدلاين، وأبدأ حياةً مليئة بالإيذاء والقسوة.
في الحلم، كنت طفلة صغيرة أتدحرج فوق تراب الأرض.
أتمرغ في التربة المبللة بعد توقف المطر، ثم أضحك عندما أرى جسدي مغطى بالوحل.
“سيرفينا! لقد اتسختِ بالطين مرة أخرى! لا أستطيع معكِ، حقاً!”
“ماذا عساي أن أفعل؟ إنها تشبهك تماماً عندما كنت صغيرة.”
“…أمي، أنا ابنتكِ حقاً.”
تبادلَت أمي وجدتي هذا الحوار ثم ضحكتا بصوتٍ عالٍ.
وانضممت إليهما أنا أيضاً، أضحك بينما أدير عينيّ في فضول بينهما.
كان الضحك يملأ الأجواء حتى بدا كأنه يختبئ بين أوراق الأشجار وهي تتمايل.
استيقظت على صدى ذلك الضحك القوي.
“…آه.”
كانت دموعي معلقة عند طرف عيني، وابتسامة دافئة لا تزال مرسومة على شفتي.
ثم تذكرت.
تذكرت الطفولة السعيدة.
تذكرت دروس أمي وجدتي، والقيم التي زرعتاها في داخلي.
بل وتذكرت حياتي السابقة أيضاً.
…آه، هذا غريب بعض الشيء.
بصراحة، لا أعلم لماذا تذكرت حياتي السابقة فجأة.
ربما كانت سلسلة الذكريات القديمة المتدفقة قد اجتثت معها حتى أعماق الذاكرة، مثل جذور بطاطا طويلة تنسحب من الأرض؟
نعم، من المحتمل.
على أي حال، لم تكن هذه وضعية سيئة.
فمشاعر الاكتئاب والضعف التي كانت تنهشني منذ الزواج، اختفت الآن بفضل ذكريات الطفولة والحياة السابقة.
جذور الاكتئاب كانت في قصر الكونت أدلاين.
حين توفيت أمي في حادث مأساوي، وبدأت جدتي تضعف وتشعر بدنو الأجل،
أخذتني جدتي إلى والدي البيولوجي، الكونت أدلاين.
رغم أنني كنت ثمرة خطأ عابر، إلا أن جدتي اعتقدت أنه لن يتخلى عن ابنته.
فالطفلة تحتاج إلى من يرعاها.
كنت حينها في الثالثة عشرة.
وبذلك، ألقي بي إلى قصر الكونت كعبءٍ ثقيل.
كانت الكونتيسة تريد التهامـي حية، والكونت نفسه كان ينظر إليّ كما لو كنت دودة.
أما ابنتهما لورا، فقد شعرت بالعار من وجودي، لكنها كانت سعيدة بوجودي في الوقت نفسه.
لأنها كانت من أولئك الذين يستمدون سعادتهم من تعاسة الآخرين.
بصراحة، كنت أشعر بالظلم.
نعم، كان ظلماً.
أمي لم تكن تعرف أن الكونت أدلاين متزوج حين التقت به.
تقابلا صدفة في مطعم، وادّعى أنه أعزب، فخدَعها.
وكان وسيماً رغم نواياه القذرة.
نعم، أمي كانت فقط معجبة بمظهره. لم تكن مذنبة.
بعد تلك الليلة، حين علمت أنه متزوج وأنه الكونت أدلاين،
ركلته بكل قوتها في موضعه الحساس، وغادرت مع جدتي،
تحملني في رحمها.
انطلاقاً من هذه القصة، يتّضح أن الجاني كان واحداً فقط:
الكونت أدلاين، والدي، الرجل الذي يملك مظهراً أنيقاً وجوهراً فاسداً.
لكن الكونتيسة، بدلاً من أن تُهاجم زوجها، اختارت أن تفرغ غضبها عليّ.
عليةٌ قذرة، طعام قليل، سخرية الخادمات وتعذيبهن، إهانات وضرب متواصل.
وسط هذا العنف، بدأت أنسى طفولتي المشرقة واللامعة شيئاً فشيئاً.
كما لو أن العفن الذي نما في العلية المظلمة امتدّ ليستولي على دماغي.
وكانت نهاية هذا الجحيم زواجي من دوق ريختر.
وحش الشمال الذي يخشاه الجميع.
حين أعلن الإمبراطور أنه سيمنح ثروة هائلة وسلطة للعائلة التي ستقدم عروساً لذلك الوحش،
هرع الكونت أدلاين والكونتيسة للحصول على الرقم أولاً.
فقد كانت تلك فرصة ذهبية لبيعني، الشوكة في أعينهم، بأعلى ثمن ممكن.
وهكذا، بِعتُ.
ولأول مرة، ابتسموا لي.
“اذهبي وموتي هناك.”
وسط ابتسامته المشرقة، خُيّل إلي أنني أسمع همسات من الهلاوس.
كنت خائفة من زوجي.
كنت أرتعب من دوق الوحش الذي اشتراني لنفسه.
لم أستطع التكيف مع برد الشمال، وكل شيء في هذا المكان كان وكأنه يخنقني.
شعرت وكأن هذه هي المحطة الأخيرة التي ألقت بي الحياة إليها بعد أن لفظتني.
هاويةٌ ضخمة.
مستنقعٌ هائل.
جحيمي الذي سيغرقني بلا نهاية حتى يقضي على أنفاسي الأخيرة.
قبرٌ لي على قيد الحياة.
كان هذا هو الشمال بالنسبة لي.
لكن… لم يعد كذلك.
“في الحقيقة، الجحيم الحقيقي كان قصر الكونت.”
طفولتي الضائعة التي ألقت بظلالها على حياتي، جعلت من ذلك القصر جحيماً مألوفاً.
رغم وجود حياة أكثر سلاماً وعادية، بدأت أعتبر ذلك العنف شيئاً طبيعياً.
وفي اللحظة التي طُردت فيها من تلك الحياة اليومية،
اعتبرت هذا المكان جحيماً.
لكن الواقع أن الجحيم الحقيقي كان هناك، في قصر الكونت.
أما سكان قصر ريختر، فقد عاملوني بلطفٍ وحذر.
كانوا يقلقون إن لم آكل،
ويخشون أن أفقد بصري لأني أبقى طوال اليوم مدفونة تحت الأغطية.
حتى حين يفتحون الستائر ليُروني ضوء الشمس، ما إن أرتجف وأُظهر انزعاجي حتى يسارعوا لإغلاقها ثانية.
كيف يمكن أن يكون هذا المكان جحيماً؟
بل هناك دليل قاطع على أن هذا ليس الجحيم.
وقد أدركته عندما استعدت ذكرياتي من حياتي السابقة.
وهو أن…
“يا إلهي… زوجي هو البطل الرئيسي؟”
زوجي، دوق الوحش، هو نفسه بطل رواية الفانتازيا الرومانسية “اسقِ الزهرة الثانية.”
فهل أنا البطلة؟
بالطبع لا.
أنا مجرد شخصية ثانوية.
زوجة البطل الأولى، التي اعتقدت أن الشمال جحيم، وذبلت يوماً بعد يوم.
وحين لم يعد البطل يحتمل رؤيتي هكذا، منحني نفقةً ومنزلاً لأرحل.
أنا تلك الزوجة السابقة التي، برحيلها، أثبتت للبطل بأنه لن يُحَبّ أبداً.
وهكذا، أصبحت القصة الأصلية حقل بطاطا جافاً.
البطل الذي تحطمت ثقته بنفسه بدأ يحفر بلا هوادة في جراحه، والبطلة كانت ترد عليه بالمثل.
كلانا، البطل والبطلة، كنا نحفر ونحفر، حتى لم نعد نحفر حفرة، بل سرداباً نووياً تحت الأرض.
أتذكر جيداً كيف كنت أقرأ تلك القصة وقلبي يخفق، والآن، أكتشف أنني كنت السبب في كل ذلك؟
لا بأس.
سأتحمل تبعات أفعالي.
عندما تذكرت القصة وقارنتها بما مر بي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، اجتاحتني موجة من الذنب لا تطاق.
أن أكون سبب ألم شخص ما، وأن أدفعه إلى حفر عميق مؤلم، جعلني أشعر بالندم الشديد.
بل، في الحقيقة…
كنت أحب تلك الرواية كثيراً!
كنت من أشد مشجعي علاقة البطل والبطلة.
عندما توقفا أخيراً عن الحفر وتبادلا القُبَل بشغف، صرختُ فرحاً.
لكن المهم الآن هو التالي:
بإمكاني أن أوقف هذا الحفر المجنون الذي يقوم به البطل والبطلة.
أستطيع أن أُحدث وداعاً جمي
لاً، بلا صدمات، بلا ماضٍ مؤلم.
أن أرحل كصديقة، وأشجع قصة حبهما من بعيد.
… واو، أبدو وكأنني من هوليوود.
بهذا التفكير المدهش، خرجتُ من تحت الغطاء.
تسلل ضوء خافت من بين الستائر التي فتحتها الخادمات.
كأن الحياة تسلط أضواء المسرح عليّ في بداية فصل جديد.
… نعم، أظنني فعلاً على طريقة هوليوود.
التعليقات لهذا الفصل " 1"