.:
الفصل 16
“سييون!”
نادى صوتُ الطفلة الرقيقُ اسمَ سييون. دو دو دو دو، كان صوتُ خطوات الطفلة الصغيرة وهي تركضُ يبعثُ على الابتسام.
“لا تركضي. ستقعين مجدّدًا.”
وبَّخها سييون ذو الوجه الطفوليّ نسبيًّا.
شخصٌ يشبه الربيع. تذكَّرتُ فجأة الوصف الذي قاله سييون يومًا عن امرأة أحلامه. شعرتُ بذلك رغم أنني لم أرَ وجه الطفلة بوضوح.
كانت هي الربيع. على الأقلّ بالنسبة إلى سييون.
أمسك سييون بمؤخّرة عنق الطفلة. وعلى الرغم من خشونة يده، انفجرتْ هي ضاحكةً بسعادة.
راقبتُ الطفلين طويلًا في الحلم. كان سييون فتىً عاديًّا أكثر ممّا توقّعتُ، ولم يستطع إخفاء مشاعره تجاه من يحبّ.
رأيتُ خدَّيه يحمران خمس مرّات تقريبًا، ثم بدأ فضاء الحلم ينهار.
وقبل أن يتشوّه الفضاء تمامًا، التقتْ عيناي بعيني الطفلة التي استدارتْ نحو سييون.
“ها… هاه…”
انتفضتُ من مكاني وصدري يعتصرُ. كنتُ أحلمُ بسييون توًّا، ورأيتُ تلك الطفلة التي أظنّها حبَّه الأوّل.
لقد رأيتُ بوضوح طفلةً تشبه الربيع تمامًا. لكن الذاكرة غائمة، مهما حاولتُ التذكّر لم أستطع.
‘آسفة.’
لم يبقَ في ذهني سوى كلماتها تلك.
ضممتُ رأسي المؤلم. آخر ذكرى قبل الحلم كانت في غرفة الصلاة داخل المعبد.
وبما أنني استيقظتُ في غرفتي، فلا بدّ أن سييون وجدني وأعادَني فورًا إلى قصر الدوق الأكبر.
هل كان في المعبد شبحٌ حقًّا؟ ما إن فكَّرتُ بذلك حتى انتصب شعر جسدي الذي كان مبلّلًا بعرق بارد.
كلك. فتح البابُ فجأة وأنا أفرك ذراعيّ من البرد القارس، دون طرق.
“استيقظتِ إذًا.”
كان الزائر المفاجئ سييون. ما إن التقتْ عيناه بعينيّ حتى طرق الباب بيده: طق طق .كان هذا الطرق متأخّر جدًّا.
اقترب سييون وأخرج مندايلًا من جيبه، ثم مسح جبيني وشعري المبلّل بحركاتٍ خشنة كمن يجفّف فراء جرو.
“سموّك، أنا… سأمسحَ بنفسي.”
جذبتُ المندايل فأرخى يده بطيبة خاطر. كانت لمساته قاسية إلى درجة أن بشرتي لسعتْ رغم نعومة المندايل.
ربتُّ وجهي بالمندايل، ورددتُ شعري المبلّل، وأصلحتُ مظهري.
“كم نمتُ؟”
“نصف يوم تقريبًا وأنتِ مغشيٌّ عليكِ.”
أطول ممّا توقّعتُ. نظرتُ خارج النافذة فرأيتُ الشمس تميل نحو الغروب.
“ما الذي حدث في غرفة الصلاة؟”
كنتُ أحدّق في النافذة شاردة، فاستدرتُ عند سؤال سييون. هو الذي نادرًا ما تتغيّر ملامحه، بدا قلقًا بشكلٍ خفيف.
“لم يحدث شيء بالضبط، لكن بدا وكأن هناك شبحًا.”
“شبح؟”
“نعم. لم أفتح النافذة لكن الريح هبّت، وسمعتُ أصواتًا غريبة، ثم فجأة شعرتُ بثقلٍ في جسدي وفقدتُ قوّتي.”
رويتُ له ما حدث كما هو، فتجعّد ما بين حاجبيه.
هل أغضبه ذكري للأشباح؟ لم أفهم سبب انزعاجه.
“هل قال ذلك الكاهن الذي التقيناه يومها شيئًا غريبًا، أو تصرّف بطريقة مريبة؟”
“لا؟ لم يفعل. غادر بعد وقت قصير من خروج سموّك.”
“غادر دون كلمة؟”
“نعم. لماذا؟ هل بينكما عداوة؟”
سألته متفحّصة، فأغلق فمه. ثم فكّر قليلًا وهزّ رأسه.
“أوّل مرّة أراه فيها.”
“ماذا؟”
“لكنني أشعر أنني أعرفه.”
لم يبدُ سييون كاذبًا، لكن سلوك الكاهن يوحي بأنهما ليسا غرباء تمامًا.
‘شيءٌ غريب هنا.’ أردتُ استنتاج علاقتهما، لكن الأدلّة ناقصة جدًّا.
“مهما قال، لا تعيريه اهتمامًا. لا بد أنه كرهني فقال كلامًا فارغًا.”
انتزعني سييون من أفكاري. نظر إليّ بعينين ثابتتين، وكان في صوته عاطفة عميقة وهو يوصي:
“لم تكن لي تجربة طيّبة واحدة مع أيّ شخص مرتبط بالمعبد.”
“إذا كنتَ تكره أهل المعبد إلى هذا الحدّ، فلماذا أخذتني إلى هناك؟”
تنهّد سييون تنهيدة خفيفة على سؤالي. بدا سؤالًا لا يريد الإجابة عنه.
“قد يبدون الآن ودودين بسبب التبرعات، لكن المعبد في السابق كان يمقت وجودي.”
غيّر سييون الموضوع بدلًا من الإجابة. اختار موضوعًا يكفي ليصرف انتباهي، ولا شكّ أنه فعل ذلك عمدًا.
“تلوّثتْ هي أيضًا بذلك المكان، فأصبحتْ مثلهم في النهاية.”
هل كانت حبّه الأوّل مرتبطة بالمعبد؟ سجّلتُ المعلومة في ذهني وتابعتُ:
“لا سبب ليكرهوكَ.”
“من يدري. هم وحدهم يعرفون السبب.”
تنهّد طويلًا كأنما يزفر مشاعر قديمة متراكمة.
“قد يكون لغيرها أسباب، لكن ربما كان لها ظروفها هي. ربما لم تكرهكَ حقًّا، وربما كان سوء تفاهم فقط.”
نظر إليّ سييون مليًّا ثم ضحك ضحكة خافتة كأن الهواء يخرج من بالون. تعبيرٌ يحمل سخرية من نفسه.
“هي التي لعنتني وقدّمتْ روحها قربانًا، فلن يكون الأمر سوء تفاهم.”
وجهٌ يحمل قصصًا كثيرة. لا بد أن حدثًا جللًا وقع.
شعرتُ كأن قطع أحجية كثيرة متناثرة لا تكتمل.
نظرتُ إلى وجه سييون الشاحب، فتذكّرتُ الحلم توًّا.
“…ومع ذلك، هل أحببتَها يا سموّك؟”
استدار سييون عن عينيّ. كان المشهد خارج النافذة يمرّ ببطء.
بقي صامتًا فترة، ثم أجاب:
“نعم. لكن بالنسبة إليها ربما لم يكن حبًّا.”
صوتٌ هادئ كالعادة. لم أرَ سوى جانب وجهه، لكن تعبيره لم يتزحزح قيد أنملة.
ومع ذلك لم أستطع طرح السؤال الذي دار في رأسي:
‘وهل لا تزال تحبّها؟’
مع أنني أعرف أنه لا يمكن، لكن لو غصتُ أكثر لشعرتُ أنه سينهار باكيًا.
* * *
بعد زيارة المعبد، ظهرتْ لديّ قدرة عجيبة.
“دايل، هل خسر سموّه خسارة فادحة في أوّل مبارزة سيف له؟”
“كيف عرفتِ سيدتي آنيت…؟ هل أخبركِ سموّه؟”
“لا، شيءٌ من هذا القبيل.”
كنتُ متردّدة، لكن هذا أكّد الأمر.
“كان ذلك اليوم الذي انهارت فيه كبرياء سموّه تمامًا.”
“حتى إنه ضرب رأسه بسيفه الخشبيّ؟”
“نعم، بالضبط. وهل أخبركِ سموّه حتى بهذا؟”
“لنقل نعم.”
ابتسمتُ فأضاءتْ عينا دايل. بدا وكأنه يظنّ أنني أصبحتُ صديقة مقربة لسييون.
“أنا سعيد جدًّا أن لسموّه صديقة طيّبة أخيرًا.”
مسح دايل عينيه الدامعتين. شعرتُ بتأنيب الضمير لرؤية وجهه المتأثّر، فهربتُ بنظري.
بالطبع لم يخبرني سييون بتاريخه الأسود. ولم نكن أصدقاء حميمين كما تأثّر دايل.
الحقيقة أنني رأيته في الحلم. أوّل مبارزة سيف لسييون.
سقط على ظهره أمام الجميع، ثم ضرب رأسه بالسيف الخشبيّ. طفلٌ جريح الكبرياء تمامًا.
منذ فترة بدأتُ أحلم بسييون. ظننتُ أولًا أنني أفكّر به كثيرًا، لكن الأحلام كانت حيّة إلى درجة مفرطة.
حتى ملامح والديه كانت دقيقة جدًّا. شيءٌ غريب.
وعندما رأيتُ لاحقًا الدوق الأكبر فرناندي وزوجته، انتصب شعري.
كلّ الأحلام التي رأيتها كانت ماضي سييون.
“أنا دائمًا ممتن لسيدتي آنيت.”
“ماذا؟”
فاجأني دايل بشكره المفاجئ وهو غارق في تأثّره. لم أزوّج سييون بعد، فلمَ الشكر؟
عبّرتُ عن استغرابي، فمسح عينيه مجدّدًا.
“بفضلكِ، يبدو سموّه سعيدًا هذه الأيام.”
“ألم… تخطئ النظر؟ سموّه دائمًا عابس.”
قلّدتُ تعبير سييون القاتم قدر استطاعتي، فانفجر دايل ضاحكًا.
لا يصح أن يضحك بعد البكاء. ابتسم أكثر إشراقًا غير مدركٍ لقلقي.
“في السابق كانت عينا سموّه فارغتين، أما الآن فيبدو حيًّا.”
‘ومتى كان ميتًا؟’ ابتلعتُ الكلمة قبل أن تخرج. كان جادًّا، فلم أستطع المزاح.
“أرجو رعايته في المستقبل أيضًا، سيدتي آنيت.”
“آه، لا، أنا من يجب أن…”
انحنيتُ احترامًا لدايل المحترم. سييون في أحلامي لم يكن له عائلة ولا أصدقاء، لكنه لم يكن محرومًا تمامًا من النعم الإنسانيّة.
‘الحمد لله أن دايل موجود.’
ما إن فكّرتُ بذلك حتى عاد إليّ حلم الليلة الماضية.
“لا تلمسوا سيدي بأيديكم القذرة!”
كان سييون الطفل في ذلك الحلم يُضطهد من الخدم. وقال دايل أنه كان معه منذ الطفولة.
لم يكن هناك من يجيب عن تساؤلي.
لا أستطيع تخيّل أيّ حياة عاشها سييون على الإطلاق.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"