1
الفصل 1 :
لم يكن هذا العالم مكانًا يتغيّر لأن إمبراطورة يتيمة الأصل قد ثارت فيه.
تلك الحقيقة البديهية والمحبِطة، لم تدركها إنسيلين إلّا وهي تُواجه الموت.
‘لقد حلمتُ حلمًا مُتعجرفًا لوهلة فحسب. لقد انخدعتُ بكلمات الإمبراطور الفارغة….’
كانت إنسيلين بلا أي سندٍ يُذكر، لكنها أصبحت أستاذةً رسمية في الأكاديمية الوطنية بفضل قدراتها وحدها.
ولو لم يحدث أمرٌ خاص، لكانت قد عاشت هناك حتى شاخت وماتت.
“لقد قرأتُ البحث الذي قدّمته في المؤتمر. كان مُبهرًا للغاية. أعتقد أنه الاتجاه الذي يجب أن تسلكه الإمبراطورية.”
“ألا نغيّر الإمبراطورية معًا؟ أقصد، ألا تُظهِرين مبادئكِ للعالم؟”
ولأنها ظنّت أن الإمبراطور حقًّا يريد تغيير الإمبراطورية، قبلت العرض وأصبحت إمبراطورة.
بعد ذلك، سعت إنسيلين إلى سحب الإعفاءات الضريبية من المعبد، وفرضت ضرائب إضافية على الطبقة العليا لتُساعد الفقراء.
كما أنشأت نظام التفتيش المالي لمنع الفساد.
فانهالت عليها هجمات أصحاب الامتيازات القديمة.
ولمّا لم تُجْدِ الطرق الطبيعية نفعًا، بدأوا ينسجون كل أنواع الشائعات لإيذائها.
بدؤوا بإشاعة أن بحثها مُقتبس، ثم قالوا إنها تنفق الضرائب في حياةٍ ماجنة.
ولحقتها كل أصناف السمعة السيّئة.
ومع ذلك، كان كل هذا ضمن توقعاتها.
‘لكن لم أتوقع أن يتخلّى الإمبراطور عني بهذه السرعة.’
ما لم تتوقعه هو تصرّف الإمبراطور ذاته.
فقد تصرف وكأن كل تلك الهجمات شأنٌ يجب عليها أن تتحمله وحدها.
“لا أعلم ما الذي تريدينه مني. لقد منحتُكِ ما يكفي من السُّلطة، أليس كذلك؟ أم تريدين مني أن أواجه جميع النبلاء بدلاً منكِ؟”
وبعد لحظةٍ ما، بدأ ينزعج منها ولم يعُد يزورها.
فانتشر الهمس بين الناس بأن إنسيلين قد هجرها الإمبراطور.
‘يقولون: لا بد أن تكون طباعها شرّيرة إلى الحد الذي يجعل زوجها نفسه يتركها.’
الجميع عاملها كإمبراطورةٍ صوريّة، بل قال بعضهم إنها ستُعزل قريبًا.
وبلغ الأمر حدًّا أن الخادمات اللاتي جرى شراء ولائهن دسسن السمّ في طعامها، فيما كرّر طبيبها أنّها بخيرٍ تمامًا.
وحتّى جسدها الذي كان ينهار، واصلت إنسيلين جهْدها لتحقيق مُثلها.
لكنها، وقبل أن تنقطع أنفاسها بلحظة، أدركت خواء الحياة.
‘لو كنتُ أعلم أنّ هذا ما سيحدث، لجرّبت أن أكون كسولةً أحيانًا، ولعشتُ قليلاً من الراحة على الأقل لألاحظ تغيّر الفصول.’
لم تدرك إلا الآن أنّ الأزهار المزروعة خارج نافذتها قد ذبُلت.
لماذا أهدرت وقتها في معاناةٍ لا يعترف بها أحد؟
‘الحياة… حقًّا زائلة.’
هكذا، رحلت إنسيلين وحيدةً في غرفة نوم لا يأتيها أحد.
بعد ثلاث سنوات.
“وفقًا لتعليمات الوزارة العليا، نُصدِر لك قرار نقلك التأديبي النهائي إلى إدارة الضرائب الخاصة. يسري القرار فورًا، وعليك التوجّه إلى القسم الجديد حالًا. مفهوم؟”
وعندما فتحت عينيها في جسد الموظفة البسيطة ريانيل، التي جرى نقلها تأديبيًا بعد تسبّبها في مشكلةٍ ما….
‘مهما عشتُ بجدّ، فلن تسير الأمور كما أريد.’
تذكّرتْ الحقيقة التي أدركتها في حياتها الثانية.
‘يا للمصيبة… فلأعشْ حياتي «بشكلٍ عابر» فقط.’
وكانت تعني ذلك حقًّا.
***
وفي تلك الأثناء، ضجّ مبنى إدارة الضرائب الخاصة الذي كان هادئًا.
“ماذا؟ لماذا تأتي تلكَ المرأة إلى هنا؟”
فقد انتشر خبر قدوم “ريانيل فينسنهايم”.
المرأة التي أصبحت موظفةً حكومية باستغلال خلفيتها كابنة دوق فينسنهايم.
“سمعتُ أنّ وزارة المالية لم تجد من يستطيع التعامل معها.”
“سمعتُ أنّ عدم التزامها بالعمل أمرٌ معتاد، وأن سلوكها الوظيفي سيّئ. كلما طُلب منها شيء، إما تُجادل أو تؤديه بشكلٍ فوضوي، حتى اضطرّوا لكتابة التعليمات لها رسميًا.”
“واو… هل سنُغيّر اسم قسمنا؟ من إدارة الضرائب الخاصة إلى إدارة النزاعات الخاصة؟”
لم يكن أحدٌ سعيدًا.
فمن يثير المتاعب في قسمٍ آخر، من المرجّح أن يصبح مشكلةً هنا أيضًا.
لكن لم يكن هناك ما يمكنهم فعله لرفضها.
“…أنا لن أنظر إليها حتى. ربما إن تجنّبتُ التواصل البصري فلن تجرّني لمشكلة؟”
“وأنا كذلك. لا حاجة لوجع الرأس. لنتعامل معها كأنها غير موجودة.”
***
“حسنًا، هذه الموظفة الجديدة المُنضمّة لقسمنا. فلنُرحّب بها جيدًا جميعًا.”
“تشرفتُ بكم. أنا ريانيل.”
“دعينا نرى… مقعدكِ هناك. وبالمناسبة، يا ميل، اهتم قليلاً بالموظفة الجديدة. سنة دخولكما متقاربة.”
وبطريقة تُشبه رمي الحمل، دفع المدير تورفان ريانيل إلى ميل قبل أن يعود إلى مكتبه.
“أممم… اجلسي قليلًا لو سمحتِ؟ أنا مشغولٌ الآن.”
كان ميل رجلاً يرتدي نظاراتٍ سميكة، وملامحه ضبابيةٌ وعاديّة. عرّف ريانيل على مقعدها ثم عاد إلى عمله.
لكن نصف عينيه كانت مطفأة، وكأنه شخصٌ تائه الروح.
‘همم….’
لم تكن هذه مشكلة ميل وحده. كان القسم كله صاخبًا ومضطربًا.
وسرعان ما عرفت السبب.
“من الذي أحضر ملف رسوم المرور؟ هذا ليس ضمن اختصاصنا!”
“أعتذر! سأُحوّله إلى القسم المعني فورًا!”
“اللعنة، سنُوبّخ مرةً أخرى في اجتماع الأداء.”
وبين أشخاصٍ يصرخون ويتنقلون بعجلة….
لو كانت موظفةٌ جديدة عادية لَما تحرّكت من مكانها خوفًا.
لكن ريانيل، التي كانت مدمنة عمل في حياتها السابقة، فهمت الوضع بسرعة.
‘موعد إغلاق نتائج الربع الثالث قريب.’
وقفت ريانيل التي كانت جالسةً وحدها.
فالبقاء دون عمل كان عادةً لا تتقبلها أعصابها.
فقد اعتادت أن تُباشر الأمور بنفسها بدلاً من ابتلاع القلق بجوار إمبراطورٍ لا يهتم بمصير الإمبراطورية.
‘وفوق ذلك… كنتُ أشعر بالملل.’
“ألديكم ما أُساعد به؟”
أجابها ميل دون أن ينظر إليها.
“أه… يمكنكِ إحضار بعض المستندات من مستودع الطابق السفلي؟ هذه القائمة.”
أومأت ريانيل ونزلت إلى المستودع وأحضرت الأوراق المطلوبة.
“ها هي.”
“شا… شكرًا… أَع— يا للمفاجأة.”
ارتجّ مقعد ميل وهو ينتفض من الدهشة بمجرد أن رآها.
ثم تظاهر بالهدوء وجلس.
“كُح، شكرًا لكِ.”
“هل لديك عملٌ آخر؟”
“أه، إذن….”
وبالنظر إلى إيحاءاتها، استجمع ميل شجاعته وأعطاها مهمةً أخرى.
“هذا عمل بسيط… فقط تأكدي من الكمية في المستودع.”
ولمّا وجد أنّ ريانيل لا تعترض، بل تعمل بصمتٍ وسرعةٍ مذهلة….
“ها هي.”
بدأ باقي الموظفين، الذين كانوا يراقبون عن بعد، يرمون الأعمال عليها واحدًا تلو الآخر.
“أ—أنا أيضًا! خذي ملفي!”
“هذا يحتاج فقط إلى مراجعة الكمية في المستند….”
وبما أنهم كانوا مشغولين، لم يكن بإمكانهم رفض يد مساعدة مهما كانت الشائعات.
“هل يمكنكِ أخذ هذا أيضًا؟”
وبالأخير….
“هذا سجل تحصيل ضريبة المشروبات الكحولية. قارني بينه وبين الإيصالات. فقط تحققي من وجود أي نواقص أو أخطاء.”
كانت ضريبة المشروبات الكحولية تُفرض على كل أنواع الخمور في الإمبراطورية.
وسجل التحصيل هو دفتر يُسجل فيه ما جرى استلامه من أموال.
وباعتبار أن إدارة الضرائب الخاصة تُدير أنواعًا متعددة من الضرائب، فلكل نوع منها سجلات وملاحظات مختلفة، وأي خطأ صغير قد يُسبب خللًا كبيرًا.
لذلك، كانت مراجعة دفاتر الضرائب تُعطى لأصحاب الخبرة فقط.
لكن بالنسبة لريانيل، التي تعطّل عندها “مقياس الصعوبة”، بدا هذا مجرد تسليةٍ لطيفة لقتل الوقت.
‘ليس بالأمر الكبير.’
وأما ميل، الذي كان يراقبها، فقد صُدم.
‘هل فقد ذلك الموظف عقله؟’
كيف يُعطي مثل هذا العمل لشخصٍ جديد تمامًا؟
لكن ما دامت ريانيل نفسها لا تعترض، فكان من الصعب عليه التدخّل.
وفكّر بأنه إن أخطأت فسيتدارك الأمر لاحقًا.
‘طبعًا… لاحقًا. فأنا مشغولٌ الآن.’
وبعد ساعتين….
رأى ميل ريانيل تُحدّق في الفراغ وكأنها انتهت من كل شيء.
“العمل صعبٌ، صحيح؟ يمكنكِ سؤالي إن احتجتِ شيئًا….”
ثم لمح ما على مكتبها، فتجمدت أنفاسه.
“ه— هذا…؟”
كانت آلاف الإيصالات مُرتّبةً بعناية.
ولم تكن مجرد أكوامٍ مصفوفةٍ هندسيًا….
“هل… هل رتّبتِ كل هذه الإيصالات حسب التاريخ؟”
“آه، هذا مجرد ترتيبٍ «عابر». فترتيبها زمنيًا يمنع مضاعفة العمل لاحقًا.”
أجابت بخفّةٍ وكأن الأمر تافه.
“ن— نعم، صحيح….”
ولم يستطع مجادلتها لأن كلامها هو حرفيًا ما تنص عليه القوانين المهنية.
“ولماذا هذا الإيصال من نسختين؟”
“أثناء مراجعتي «العابرة» لسجل التحصيل، وجدتُ إيصالًا بتاريخٍ خاطئ. فأرفقتُ الإيصال المُصحّح فوق القديم لتراجعه لاحقًا.”
بحث ميل في السجل، ووجد أنّ خانة الملاحظات تحتوي أيضًا على تعليقات دقيقة كتبتها.
“هذا أيضًا «كتبتُه بشكلٍ عابر». فتصحيح الإيصال مع تعديل السجل معًا يجعل العمل أكثر كفاءة، أليس كذلك؟”
“….”
لقد أتمت العمل بدقة تُثير الإعجاب… ومع ذلك تُسميه “عابرًا”.
“صحيح… هل أجريتِ حسابات سعر الصرف؟ إن لم تفعلي بعد، فسأ….”
فالخمر المستورد يخضع لضرائب إضافية مرتبطة بسعر الصرف.
وكان ميل قد أخطأ سابقًا لأنه لم يعرف أن سعر الصرف يتغير يوميًا.
لكن ريانيل:
“أعلم ذلك. أليس سعر الصرف يتغير حسب يوم التخليص الجمركي؟ طلبتُ البيانات من مصلحة الجمارك وحسبتُه. فحين نُحسن العمل «بشكلٍ معتدل»، نستطيع اكتشاف الأخطاء بسهولةٍ أكبر.”
هذه المرة قالت “بشكلٍ معتدل”.
“وبالمناسبة، وجدت ضريبة جمركية محسوبة بشكل خاطئ. أعددتُ إشعار الاسترداد للـمُكلَّف، وكذلك خطاب التعاون إلى القسم المختص— «بشكلٍ عابر» أيضًا— فهل تُراجعانه لي؟”
ناولته الأوراق.
وحين رأى ميل تلك المستندات المكتملة بأدق صورة….
صرخ:
“ه— هل تعتقدين أن كلمة «عابرًا» تُحوّل كل هذا إلى عملٍ عابر؟!”
التعليقات لهذا الفصل " 1"