وكان ما تفوّهت به بيلّا بابتسامة بريئة، مدعاةً للسخرية أكثر منه للجدّ.
رمقتها لويسا بملامح مذهولة لا تكاد تصدّق.
لكن بيلّا وقد فسّرت تلك النظرة على هواها، واصلت حديثها بكلامٍ لا يقلّ غرابة:
“لماذا يزدحم الناس علينا هكذا؟ حقًا أمر مربك.”
“مربك؟ لا أرى في وجهك شيئًا من ذلك.”
“هاه؟ وجهي أنا؟ لا، ليس صحيحًا… آه! هيا بنا إلى ذلك الاتجاه. هناك الممر أضيق، وسيتمكّن الفرسان من صدّ الناس فلا يحتشدون هكذا.”
‘هل يصحّ أصلًا أن أرافقها؟’
ظلّت لويسا تنظر إليها وقد مضت أمامها بخطوات واثقة وفي نفسها شعور بالانقباض.
“آنسة لويسا، أسرعي!”
“…تذيع صوتها في كل مكان.”
تمتمت لويسا بفتور وهي تمسح المكان بنظراتها.
لحسن الحظ، كان الفرسان يحسنون ضبط الوضع فلم يتبعهم الحشد إلى هذا الحد.
كان الزقاق مصفوفًا بمحالّ شتّى، لكنه بدا خاليًا، كأنّ الناس قلّما قصدوه.
وفجأة توقّفت قدما لويسا وهي تحدّق عبر زجاج إحدى النوافذ.
اختفى الشرود عن ملامحها وحلّت محلّه جدّية مشوبة بتوتر. وفي اللحظة نفسها التفتت بيلّا سريعًا من أمامها، والتقت أعينهما في الفراغ، وقد أدركتا معًا الأمر دون حاجة إلى كلمات.
توجّهتا بخطى حاسمة إلى المبنى الذي انبعث منه أثر السحر الاسود، يحيط بهما الفرسان من كل جانب. غير أنّ خطورة الموقف منعتهم من الاعتراض.
“هذا هو المكان. يبدو خاليًا… مع أنّ له لافتة.”
“مظلم تمامًا، لا يظهر فيه شيء. لعلّه مغلق اليوم.”
أمالت لويسا رأسها وهي تتأمل الخارج، مقتنعة أنّه متجر مهجور منذ زمن، لا مجرد عطلة يومية.
أما بيلّا، فقد بدت مفعمة بالحماس، حتى مدّت يدها إلى مقبض الباب فجأة.
“آه؟ إنّه مفتوح!”
كان ذلك بحدّ ذاته مثيرًا للريبة.
رمشت بيلّا محدّقة في لويسا ثم قالت:
“ألا ندخل لنتفقد؟”
“بأنفسنا؟ أظن أنّ تحديد الموقع يكفي. فلنترك الدخول للكهنة حين يجيئون…”
“وماذا إن تغيّر المكان؟! آخر مرة شعرت به في موضع آخر، فلا أستطيع الجزم أنّه سيظلّ هنا دائمًا.”
‘سخافة. طاقة كهذه لا تتنقّل من مكانها.’
زمّت لويسا ما بين حاجبيها وهمّت أن ترفض بحزم، لكن قوة قبضت على معصمها قبل أن تنطق.
“معنا الفرسان، ونحن الاثنتان قادرَتان على التطهير. لن يحدث مكروه.”
“مهلًا، توقفي!”
‘أيّ قوة هذه!؟’
وهكذا، بينما كانت بيلّا تدخل بثبات، انجرت لويسا شبه مكرهة، وغاب ظلّاهما في ظلمة المكان.
***
في ذلك المكان، كان فرسان بليك يتشاجرون مع فرسان الكنيسة؛ ففرسان الكنيسة أصرّوا على مرافقة القديسة وعدم تركها وحدها، بينما أصرّ فرسان بليك على إخراج لويسا من الداخل فورًا. وخلال ذلك، كانت بيلّا تتابع الموقف ببرود، وكأن الأمر لا يعنيها.
ثم تقدّمت لويسا بخطوات ثابتة نحوها وقالت:
“جيد، جربي. سأرى ما تخفينه.”
كان كلامها متعالٍ ساخرًا.
ارتجفت جفون بيلّا من الغيظ؛ ففي موقف كهذا ينبغي لها أن تتوسّل، لا أن تتجرّأ. إنّما هي، رغم كل شيء، ما تزال ترفع رأسها بتلك الثقة الوقحة.
“…لا أفهم قصدك. أردتُ فقط أن نتفقّد الداخل لا غير.”
“بنفسكِ؟ أول مرة أرى فيك هذه الجرأة.”
“يجب أن أتغيّر. فأنا قديسة هذه الإمبراطورية.”
لم يأتِها ردّ، غير أنّ تعابير وجه لويسا كانت كافية لتبيّن أنّ كلامها لا يدخل أذنها أصلًا.
ذلك الفتور الساخر كان يكاد يفتك بصدر بيلّا.
‘فلنرَ كم يدوم هذا الهدوء الزائف.’
كظمت غيظها ورسمت ابتسامة باهتة، ثم حوّلت بصرها إلى الداخل، حيث لم يمسه يد بشر منذ زمن، والعناكب نسجت خيوطها في كل زاوية.
في عينيها برق بريق قاسٍ، مختلطًا بذكريات لا تفارقها.
‘أن ينشأ للوحش ذات ( روح )… لقد اقشعر بدني حين رأيتك تطمعين بذلك.’
كان صدى كلمات الإمبراطورة بالأمس لا يزال يدوّي في رأسها.
الحقيقة الصادمة التي فجّرتها: أنّ في جسدها المُعدل وُضعت روح سحر اسود وأنها ليست إنسانًا من الأصل.
لم تجد مجالًا للإنكار؛ فما إن سمعت ذلك حتى هزّها وعيها العميق ليذكّرها بأنها ليست بشرًا.
لكن بيلّا لم تردّ أن تصدّق.
كانت ذاكرتها منذ أن وعَتْ نفسها هي حياة بشرية، وضحكٌ ووجوه مرحّبة، وهذا ما أرادت أن تظلّ عليه.
‘اليوم الذي يجيء فيه تنعمين بالحرية… سيكون يوم أملك فيه كل هذا المكان.’
لهذا كان عليها أن تؤدي دور الدمية المطيعة بإتقان.
تتمنى لو أن من يعرف الحقيقة يزول، لكن ذلك مستحيل.
الإمبراطورة ليست هي من صنعت هذه القوة، بل هي مجرد وسيط ينقلها. حتى هي لا تعرف من هي اليد الحقيقية وراءها. وبما أن تلك اليد استطاعت أن تمنحها القوة، فهذا يعني أنها قادرة أيضًا على أخذ حياتها في أي لحظة.
‘…لويسا بليك لا يبدو أنّها تنوي الذهاب شرقًا أبدًا.’
‘إن لم تفعل، فما جدواكِ أنتِ إذن؟’
“ماذا؟”
“فهل أُبقي هذا الجسد بلا طائل؟”
“لـ… ليس هذا…”
“فكّري جيدًا. يجب أن تؤدّي دورك إلى النهاية.”
لو أنّ لويسا تختفي سريعًا، لرضيت الإمبراطورة.
ومع أنّ بيلّا تعيش الآن كإنسانة، إلا أنّ سرّها قد ينكشف في أي لحظة.
غاص صدرها في وحل من الاضطراب.
قدرتها على التطهير وإن كانت مزيفة، ما كان ليشكّل خطرًا كبيرًا لولا وجود لويسا.
لا شكّ أنّ كثيرين يتمنّون زوال لويسا، تلك المرأة القاسية المتجبّرة.
ولو اختفت، فلن يظل اسمها حاضرًا في ذاكرة الناس طويلاً. أما القديسة، فقد امتلكت القوة المقدسة بالفعل، وهي التي ستملأ الفراغ وتترك أثرها بين الجميع.
حتى رافاييل الذي ألزمته الخطوبة بالبقاء قرب لويسا، سيبحث عنها هي في النهاية.
غشي بيلّا سُكر الأحلام وهي تتخيّله يحدّق فيها بعينين متيمتين.
‘لو أنّ تلك القوّة الطاهرة لا تتّجه إلا إليّ… لتمكّنت عندها أن أصبح إنسانة كاملة.’
عندما فهمت بيلا سبب عطشها الكبير نحو رافاييل منذ أن اكتشفت حقيقتها، تخلّت عن كل الضيق الذي سبّبته لها لويسا، وبدأت تتخيّل المستقبل وما ينتظرها فيه.
انعطفت شفتا بيلا بابتسامة رقيقة.
وعلى الرغم من أن المكان كان مظلمًا لا تنفذ إليه أشعة الشمس، إلا أن ابتسامتها كانت مشرقة إلى حد بدّد شيئًا من رهبة المكان الذي لم يضيئه سوى المشاعل المحمولة بأيدي الفرسان.
خطواتها الحذرة أفصحت عن عزيمة لم تستطع إخفاءها. كانت تتوغل في الداخل بلا تردد، فيما انغرست في ظهرها نظرات حادة تترصّدها.
قالت بيلا:
“أشعر بوجود السحر الاسود، لكن لا أستطيع تحديد مصدره بالضبط. ماذا عنكِ يا آنسة؟”
أسرعت بيلا إلى محو تعابير وجهها، وانكمش كتفاها قليلًا.
“لست أدري… ربما علينا إغلاق المكان وطلب دعمٍ من الكنيسة أولًا.”
“آه… أترين أن هذا أفضل؟ إذن… أ؟! الصوت هنا يبدو غريبًا!”
كانت بيلا تبدي قلقًا مصطنعًا، تلتفت نحو لويسا بعينين دامعتين، قبل أن تتوقف فجأة عند بقعة محددة.
ثم بدأت تضرب الأرض بقدميها عدة مرات، مبرزة الصوت الأجوف الذي يختلف عن بقية الأرضية.
لويسا التي تابعت المشهد من بعيد، ضاقت عيناها بريبة.
جثت بيلا على ركبتيها، وجعلت تتحسّس الأرض كمن يبحث عن شيءٍ مخفي، حتى اكتشفت شقًّا دقيقًا.
عندها اتسعت عينا لويسا في دهشة.
“…قبو؟”
“آه، إنه باب! يبدو أن هنا ممرًا تحت الأرض!”
“لا تفتحيه!”
لكن يد بيلا سبقت نداء لويسا المتوتر. فقد فتحت الباب الأرضي الكبير بسهولة أكبر مما توقعت، ثم استدارت نحوها بملامح متصنّعة للدهشة.
وفجأة، خيّم هواء بارد خانق على المكان.
لم تدم سوى لحظات، لكنها بدت بطيئة إلى حد الرعب، وعينا لويسا اتسعتا كفانوسٍ مشتعل.
“لـ، لقد فُتح أصلًا… هل أغلقه مجددًا؟ كيااا!”
“آنستي! تراجعي!”
وقع كل شيء في لمح البصر. إذ اندفع دخان أسود من الممر السفلي، ليملأ المكان بأسره.
ارتعشت وجنة لويسا بعنف، وقد لامس أنفها عبير كبريت مألوف.
اصطف فرسان بليك حولها، محاولين إخراجها من الداخل، لكن ما ارتسم أمام أعينهم كان أقرب ما يكون إلى جحيمٍ متجسد.
فقد بدأ الدخان يتكاثف ويتحوّل تدريجيًا إلى أشكال، إلى أن انبثق منه مخلوقٌ شيطاني.
وما لبث ذاك المخلوق أن تضاعف، متكاثرًا حتى غصّت به أرجاء المكان.
تعثر الفرسان في محاولتهم الاندفاع نحو الخارج، إذ سدّ الدخان الأسود طريق الباب قبل أن يتحوّل بدوره إلى وحوش تحيط بهم.
فتراجعت لويسا، مدفوعة نحو الداخل بلا وعي، لتجد بيلا قد التصقت بها من حيث لم تدرِ.
“مـ، ما العمل…؟ الوحوش كثيرة جدًّا… آه!”
دوّى ارتطام عنيف، إذ طار فارسان بعد أن ضربهما وحشٌ هائل، ليتهشّم جسدهما على الجدار. وعلى وقع سقوطهما البائس، انعكس القلق على وجه لويسا.
فقد حاولت مرارًا تركيز طاقتها على الخاتم الأثري في إصبعها، غير أن اضطراب قلبها ورجفة روحها كبّلاها، فلم تستطع تفعيله كما ينبغي.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 94"